دار الكتب

عندما كنا نحن الكفار (2)

كان ظهور الإسلام في قوته الخاطفة مربكا لأوربا المسيحية، فقد ولد النبي محمد سنة 570 ميلاديا وبعد خمس سنوات فقط من موت الإمبراطور جستنيان الرجل الذي أعاد بناء الإمبراطورية الرومانية ووصل بها إلى أوج ازدهارها منذ القرن الثاني الميلادي، وفي غضون جيل واحد من ظهور الإسلام كان الجنود المسلمون يحاصرون القسطنطينية.

بحسب الكاتب أندرو هويتكروفت مؤلف كتاب «الكفار.. تاريخ الصراع بين عالم المسيحية وعالم الإسلام»- كان الدين الجديد يملك مقومات نجاحه وانتشاره السريع، فهو دين عملي سهل لا ينطوي على كثير من التعقيدات العقدية، ولا يتخذ موقفا سلبيا من الحياة، وبذلك رفع عن كاهل الناس حياة الرهبنة والتقشف في الصوامع والقلايات التي أرهقتهم، ورفع عن بعض الذين استجابوا لطبيعتهم البشرية ولم يستطيعوا الوفاء بالتزامات الرهبنة والحرمان الشعور بالذنب والوقوع في الخطيئة وسوء المصير، وحرًم نبي الإسلام القتال بين الإخوة، كان ذلك كله يصب في صالح الدين الجديد وقد نجح في حشد سكان البوادي العربية وتجييشهم في إتجاه واحد هو الغزو ونشر رسالة الإسلام.

ومنذ منتصف القرن السابع الميلادي بات يُنظر إلى الإسلام في الغرب باعتباره العدو الخارجي للعقيدة المسيحية. وفى الشرق أيضا فإن «صفرنيوس» بطريرك بيت المقدس الذي عاش في ظل الاحتلال الفارسي للقدس، لم ير خطرا في جميع الحكام الفرس الذين حكموا بيت المقدس، مثل ذلك الخطر الذي مثّله دخول عمر بن الخطاب للمدينة، فقد اعتبره تجسيدا لنبوءة النبي دانيال بخراب بيت المقدس التي وردت في الكتاب المقدس. ومنذ ذلك الحين توالت الكتابات والأدبيات التي تكرس للكراهية تجاه المسلمين، و استُخدمت أبشع الأوصاف تجاههم، فمكسيموس المعترِف وصفهم بقوله (إنهم مثل الوحوش آكلة الفرائس على الرغم من أنهم يتخذون شكل البشر)، وفي روايات تالية صار المسلمون رجالاً لهم رؤوس الكلاب. وعلى مدار القرنين التاليين لدخول عمر بن الخطاب بيت المقدس طوّر الكتاب المسيحيون في أعقاب هزيمة البيزنطيين على أيدي المسلمين الهجوم على الإسلام والمسلمين.

ففي كتابه (تاريخ هرقل) الذي يعد المصدر الوحيد للرواية المسيحية عن حروب المسلمين مع الدولة البيزنطية- وصف الأسقف الأرمني سيبيوس المسلمين بقوله: «ومثلما ينطلق السهم من قوس شديد التقوس يمسك به رجل تجاه الهدف. كذلك هم العرب الذين يأتون من صحراء سيناء لكي يدمروا العالم بأسره بالجوع، والسيف، والإرهاب العظيم) أما عن هيئتهم، فهم وحوش لها أظافر من نحاس وأسنان من حديد، لقد اعتبر هؤلاء المسلمون بمثابة الوحش الرابع في سفر الرؤيا وهو – بحسب الكتاب المقدس- على الرغم من كونه شرا إلا أنه يقوم بعمل الرب كأداة للتطهير، ومن ثم بات المسلمون في نظر هؤلاء شرا ضروريا وعصا الرب لتأديب الشعب العاصي، والتطهر من الخطيئة، وفي كثير من أدبيات رجال الكنيسة وُصف المسلمون بالعديد من العبارات التي تحمل نفس المعنى مثل (خلاصة الشر) (المسيح الدجال)».

زراعة الخوف والكراهية

ومن الطريف – فيما يروى المؤلف- أندرو هويتكروفت- أنه حين وقع الصدام الكنسي الشهير بين الأيقونيين الذين يقدمون تعبيرات حسية ومجسدة للرب، واللاأيقونيين الذين يرفضون فكرة تجسيد الإله، فقد تم الربط بين اللاأيقونيين وبين المسلمين، وبات ينظر إلى المسلمين باعتبارهم حركة هرطقية من داخل الكنيسة الشرقية، لقد توارثت الأدبيات الغربية هذه الأوصاف للشرق الإسلامي، وتسربت تلك الأوصاف إلى الجماهير والعامة لتحظى بمضاعفاتها، ولم يتم نقد أو تفنيد لها وإذا أردنا- فيما يرى المؤلف- اكتشاف مدلول وصف المسلم بـ«الكافر» فإننا بلا شك أمام مزيج من الخوف والكراهية امتد عبر قرون.

على أساس من هذه الفرضية في زراعة الخوف والكراهية في الأوروبي تجاه الآخر المسلم، يحاول الكاتب قراءة وتفسير العديد من الأحداث التاريخية التي تعبر عن حالة الصراع الممتد ما بين الغرب المسيحي، والشرق الإسلامي، فهذه الفرضية هي التي تفسر حجم الاحتشاد والتحفز والعنف والقسوة التي تتملك الأوروبي في التعامل مع المسلم على مدار التاريخ.

أما الواقعة الأولى التي يقدمها مؤلف الكتاب كتطبيق عملي لفكرته، فهي معركة ليبانتو البحرية 1571 ميلاديا، والتي وقعت بين العثمانيين المسلمين من ناحية، وعصبة مقدسة بوركت من قبل البابوية جمعت جيوشا وقوات من دول النمسا و إيطاليا واسبانيا يقودهم الأدميرال الشاب دون جون حاكم النمسا من الجانب الأوربي، بينما يقود أسطول العثمانيين علي باشا وهو قائد عٌرف برفعة أخلاقه إلى جانب قوته وخبرته العسكرية في المعارك البحرية.

في كتابه يستطرد الكاتب في وصف أحداث المعركة من حيث حجم القوات، إلى خبرات القيادة، إلى التطور في صناعة السفن الحربية على الجانبين، ولم تكن نتيجة المعركة التي انتصر فيها الجيش الصليبي مهمة بأي حال من الأحوال، بقدر ما كانت دلالات وحجم التفاعل من قبل الرأي العام الأوروبي الرسمي والشعبي والكنسي معها، وهو  ما يفسر- وفق المؤلف –  حجم الكراهية تجاه كل ما هو إسلامي أو عربي، فقد جرت الاحتفالات عبر قرون طوال، وسخرت إمكانات عشرات من كبار الفنانين الأوربيين، وألفت آلاف القصائد والكتب التي تصوّر بشاعة العدو في مقابل الانتصار المدعوم من قبل البابا والرب من خلفه، على الرغم من أن المعركة لم تكن بالنسبة للعثمانيين أكثر من «حلق لحية للعثمانيين الذين سبق لهم أن قطعوا ذراع الأوروبيين»، وذلك حسب وصف وزير العثمانيين لمبعوث أوروبي ، ولم تمض سوى سبع سنوات حتى رد المسلمون الهزيمة بقتل ملك البرتغاليين دوم سباستيان ابن أخ (دوم جون) في بلاد المغرب و معه معظم النبلاء البرتغاليين، وقد تلاشت ذكرى المعركة من الذاكرة العربية ،على حين تم تخليد معركة ليبانتو وتعزيزها على مر السنين.

غير أن الكاتب يستمر في إعادة قراءة وتفسير أغلب الأحداث التاريخية التي جمعت ما بين الكتلتين الغربية المسيحية الأوروربية، والمشرقية الإسلامية العربية منذ دخول عمر بن الخطاب لبيت المقدس، وفتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية وحتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 .

(يتبع)

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock