مختارات

«الرستفارية» الجديدة وسد النهضة

في خِضَمّ صعود حركة الوحدة الإفريقية الحديثة أواخر القرن التاسع عشر؛ برزت بشكل خاص تعاليم ماركوس غارفي، والذي قال لأتباعه: «ولُّوا وجوهكم شطر إفريقيا؛ حيث يُتوَّج فيها مَلِكٌ أسود، سيكون هو المنقِذ».

وبالفعل في الثاني من نوفمبر عام 1930م، تُوِّجَ راس تفاري ما كونين إمبراطورًا على الحبشة، وحمل اسم هيلاسيلاسي الأول. وتعني كلمة راستفاري بالأمهرية رأس الأسد. وسرعان ما أُحيط حكم هيلاسلاسي بهالة من القداسة؛ حيث زُعم بأنَّ نَسبه يرجع للنبي سليمان –عليه السلام-، وملكة سبأ، وعليه فقد أطلق على نفسه ألقابًا: «ملك الملوك، ورب الأرباب، وأسد قبيلة، يهوذا المغوار»!، إلى جانب تجسيده لنبوءة ماركوس غارفي.

بدأت الدعوة للعقيدة الرستفارية في جامايكا -التي كانت في ذلك الوقت مستعمرة بريطانية-؛ حيث كان الرستفاريون يعتبرون الإمبراطور الإثيوبي بمثابة التجسيد الحيّ لله –تعالى الله عن ذلك-، كما اعتقدوا بالتفوق الأسود، وإعادة الشتات من أرض القمع «بابل» إلى إفريقيا. وفي عام 1966م قام هيلاسلاسي بزيارة جاميكا؛ حيث استقبله آلاف من أتباعه المؤمنين به.

ويبدو أن إشكالية الديني والسياسي قد أثَّرت بشكل كبير على تفاعلات إثيوبيا الخارجية عبر العصور. وعلى سبيل ‏المثال يُلاحِظ المتأمل للحوار المصري الإثيوبي على مدى قرون عديدة أنه يَزْخَر بالرسائل ذات الطابع ‏الديني، ‏والتهديدات المتبادلة التي كانت تعكس أجواء الشك وعدم الثقة بين الطرفين.

إذ يرى الإثيوبيون أن ‏النيل ‏الأزرق أو «أبباي» باللغة الأمهرية -أبو الأنهار جميعًا- هو نهر إثيوبي خالص. وقد ادعى البعض أن ‏نهر ‏جيحون الوارد ذكره في الكتاب المقدس إنما هو ذلك النهر المحيط بأرض كوش في كل من النوبة ‏وإثيوبيا. ‏يعني ذلك أن ثمة توظيفًا للمسيحية؛ للادعاء بالحقوق الإثيوبية التاريخية في نهر النيل.

الرستفارية الجديدة

ومنذ صعود نجم رئيس الوزراء الإصلاحي آبي أحمد سارع عدد من الشخصيات البارزة مثل البروفيسور مسفين ولدميريم، وليس فقط المواطنون العاديون، ‏إلى ‏القول بأن رئيس الوزراء آبي أحمد «مرسل من الله» لحلّ مشاكل إثيوبيا.

‏ ‏ولم تقتصر ظاهرة الهوس الديني بالرجل على الداخل الإثيوبي، ولكنها امتدت إلى خارج إثيوبيا؛ فقد أصبح رئيس الوزراء الإثيوبي يعبّر عن روح إفريقيا الجديدة. لقد بدت تلوح في الأفق بوادر الرستفارية الجديدة.

ولنتأمل كيف رحّب السودانيون بالقائد الملهم آبي أحمد أثناء احتفال توقيع الإعلان الدستوري بشكل يفوق ترحيبهم بأيّ زعيم آخر من دول الجوار القريب أو البعيد. ويبدو أن الرجل اقتفى أثر الأسطورة الدينية التي تقول: إن منليك الأول سافر إلى القدس ليسترد تابوت العهد من هناك، ويُضفي شرعية دينية على نظام حكمه. ألم يحج آبي أحمد هو الآخر إلى القدس مرتديًا فوق رأسه الكيباه اليهودية.

رئيس الوزراء الإصلاحي آبي أحمد أصبح في عيون الحالمين بالصعود الإفريقي في النظام الدولي رمزًا قد ‏يصل إلى حد الأيقونة التي تُعيد إلى الأذهان أبناء إفريقيا العظام زمن التحرُّر الوطني. ‏بيد أن الرجل الذي صعد من قلب النظام القديم الذي أرسى دعائمه ميليس زناوي جاء ليحافظ عليه، ويدافع عن وجوده؛ في ضوء طوفان الغضب الشعبي العارم.

تعرَّض آبي أحمد نفسه لهزات عنيفة خلال عامه الأول كادت تودي بحياته، وخفت صوت التغني بنمط زعامته الكاريزمية في كثير من الأقاليم الإثيوبية. لم يكن مستغربًا أن يستمر الرجل في السير قُدُمًا نحو تحقيق الرؤية الإثيوبية الخاصة باستراتيجية بناء السدود، وعلى رأسها سد النهضة العملاق؛ للإعلان عن بداية النهوض الإثيوبي.

سوف يعتمد الرجل على صورته في الخارج، ودعم الرستفارية الجديدة؛ من أجل كسب الشرعية في الداخل الإثيوبي المنقسم. فالدعاية المحيطة بالسدّ تجعله مشروعًا ‏قوميًّا يعيد أمجاد الأمة الحبشية التي هزمت القوات الإيطالية الغازية في موقعة عدوة عام 1896م.

لم تُبالِ ‏إثيوبيا بالاعتراضات أو حتى التهديدات المصرية، واستمرت ماضية في البناء حتى أضحى بالإمكان تشغيل توربينين اثنين العام القادم، على أن يتم الانتهاء من أعمال البناء عام 2022م. ويتكلف هذا السد العملاق ‏نحو خمسة مليارات دولار، ويُنتج طاقة كهرومائية تقدّر بنحو ستة آلاف ميجاوات سنويًّا. ومن المتوقع أن ‏يوفّر هذا السد عائدًا مقداره مليار دولار سنويًّا نتيجة بيع الكهرباء لدول الجوار؛ مثل السودان وجيبوتي. ‏وعليه فقد أضحى السد الإثيوبي أولوية وطنية، ويتحوَّل بسرعة كبيرة إلى واقع، وبالتالي فإن دول المصبّ ‏ليس أمامها من خيار سوى التعاون، ومحاولة ضمان تدفق المياه في المستقبل من خلال وسائل الدبلوماسية ‏الودية.‏

إعلان ميلاد سدّ النهضة بموافقة مصرية

لم يكن أمام مصر المثقلة بأعباء الداخل سوى القبول بسياسة الأمر الواقع، والتنازل عن المطالبات السابقة بوقف تنفيذ سد النهضة لحين الوصول إلى اتفاق بشأنه، وهو ما أعطى ‏إثيوبيا اليد العليا؛ حيث لجأت منذ ذلك الحين إلى سياسة المماطلة والتسويف، ولربما الخداع الاستراتيجي. ولعلها ‏تعتمد في ذلك على دعم دول المنبع وميوعة الموقف السوداني، فضلاً عن استغلال الموقف المصري الداخلي.

وبالفعل ‏توصل وزراء ريّ الدول الثلاث إلى ما يسمى بوثيقة «إعلان مبادئ» في الخرطوم يوم 6 مارس 2015م، وتنص هذه الوثيقة على عشرة مبادئ متَّسقة مع نصوص القانون الدولي الحاكمة للتعامل مع الأنهار ‏الدولية.‎‏ وتشمل تلك المبادئ: مبدأ التعاون، التنمية والتكامل الاقتصادي، التعهد بعدم إحداث ضرر ذي شأن ‏لأيّ دولة، الاستخدام المُنْصِف والعادل للمياه، التعاون في عملية الملء الأول لخزان السدّ وتشغيله السنوي، ‏مبدأ بناء الثقة، مبدأ تبادل المعلومات والبيانات، مبدأ أمان السد، مبدأ احترام السيادة ووحدة أراضي الدولة، ‏ومبدأ الحل السلمي للنزاعات، فضلًا عن إنشاء آلية تنسيقية دائمة من الدول الثلاث للتعاون في عملية تشغيل ‏السدود بشكل يضمن عدم الإضرار بمصالح دول المصبّ.‎

جاء آبي أحمد في أبريل 2018م وهو يعلم يقينًا أن استراتيجية بناء السد العظيم هي طوق النجاة لإثيوبيا الناهضة؛ فقرر أن يسير في نفس الاتجاه بدهاءٍ لا يخلو من حيلةٍ. ففي أعقاب عملية اغتيال مهندس سد النهضة الغامضة أعلن آبي أحمد عن توقف العمل في سدّ النهضة، بل وزار القاهرة لتطمين قادتها بأنه لا ضرر من السد؛ حتى ولو اضطر علانية أن يحلف بالله تعالى.

وتشير بعض التقارير الإسرائيلية إلى أن الشركات الإسرائيلية أقامت منظومة للدفاع الصاروخي لحماية سد النهضة؛ بالرغم من الاعتراضات المصرية. ومن المعروف أن منظومة سبايدر الدفاعية الإسرائيلية هي الوحيدة القادرة على إطلاق نوعين مختلفين من الصواريخ في وقتٍ واحدٍ.

العودة إلى المربع الأول

عُقِدَ الاجتماع الثلاثي بين مصر وإثيوبيا والسودان في القاهرة منتصف سبتمبر 2019م بعد مماطلات وتأجيل متكرر. وكما هو متوقّع رفضت إثيوبيا الخطة المصرية بشأن تشغيل سدّ النهضة. اقترحت مصر ملء خزان السد في غضون سبع سنوات، مع ضمان تدفق الحد الأدنى من مياه النيل 40 مليار متر مكعب من المياه سنويًّا، بالإضافة إلى المحافظة على مستوى المياه أمام سد أسوان العالي بارتفاع 165 مترًا فوق مستوى سطح البحر.

رفضت إثيوبيا المطالب المصرية، واعتبرتها غير عملية؛ وصرح مسؤولوها بأن «الطلب المقدَّم من مصر غير عملي، وبالتالي فإن إثيوبيا ترفضه تمامًا». وطبقًا للوثيقة الإثيوبية التي نشرها موقع أديس استاندرد فإنها خلصت إلى أنه عندما يتم النظر في جميع عناصر الاقتراح المصري بشكل إجمالي، فإنها سوف تجعل سد النهضة لا قيمة له؛ حيث تمتد فترة ملء الخزان إلى أجل غير مسمى. كما يصبح خزان سدّ النهضة بمثابة احتياطي لتعويض النقص في المياه أمام السد العالي. ومن جهة أخرى لن يحقّق سد النهضة عائداته الاقتصادية المرجوة لإثيوبيا؛ كما أن آلية التنسيق الدائمة المقترحة تنتهك سيادة إثيوبيا؛ وتشير الوثيقة كذلك إلى أن إثيوبيا سوف تخسر حقوقها في الاستخدام العادل والمعقول لموارد مياه النيل الأزرق.

 لا شكَّ أن هذه كلها تكتيكات تفاوضية يسعى كل طرف إلى تعظيم مصالحه؛ فالخيار العسكري مستبعَد تمامًا، إن لم يكن مستحيلاً؛ خاصة وأن أعمال البناء قد قاربت على الانتهاء، كما أن خيار التحكيم الدولي مرهون بالموافقة الإثيوبية. ينبغي على السلطات المصرية والإثيوبية والسودانية النظر في مقاربة تدريجية للاتفاق على حلّ وسط، وخاصة في المسألة لأكثر إلحاحًا وهي فترة ملء خزان السد؛ حيث اقترحت إثيوبيا منذ البداية فترة ثلاث سنوات، في حين اقترحت مصر عملية متكاملة قد تستمر حتى 15 عامًا.

ولتحقيق انفراجة حول هذه المسألة، ينبغي أن تتعاون إثيوبيا تعاونًا تامًّا مع شركائها في المرحلة النهائية ودراسات الدعم التي تسعى إلى تحديد الجدول الزمني الأمثل لمعدل الملء. إذا لزم الأمر، يجب أن تسعى الدول الثلاث للحصول على دعم من طرف ثالث متفق عليه؛ لكسر حالة الجمود الراهنة. ينبغي أن توافق إثيوبيا أيضًا على زيادة معدل الملء خلال سنوات هطول الأمطار، مما يقلل من التأثير السلبي على تدفق المياه باتِّجاه دول المصبّ.

بعد ذلك، ينبغي على الدول الثلاثة إجراء المزيد من المناقشات الموضوعية حول إطار طويل الأجل لإدارة المياه في حوض النيل؛ من أجل تجنُّب الأزمات المماثلة في المستقبل. ولا شك أن مشاركة مصر في مبادرة حوض النيل، وهو المنتدى الوحيد الذي يجمع كل الدول المشاطئة؛ سوف يكون المنبر الملائم لمناقشة تقاسم الموارد بشكل عادل ومنصف وفقًا لقاعدة «لا ضرر ولا ضرار». عندئذ يمكن مناقشة المشاريع التنموية الكبرى التي تقوم بها دول المنبع في المستقبل بالتشاور مع دول المصبّ. إن هذا الإطار المؤسسي الدائم يساعد الدول النيلية على الاستعداد لمواجهة التحديات المستقبلية؛ مثل الأزمات البيئية الناجمة عن تغيُّر المناخ، لا سيما أنماط هطول الأمطار المتغيرة، والتي يمكن أن تسبِّب ضغطًا أكبر على المياه في دول الحوض.

إنّ حدّية المواقف والرؤى بصدد ملء وتشغيل سد النهضة، سواء في مصر أو في إثيوبيا تعبّر عن تعقيدات السياقات ‏التاريخية، وتباينات المواقف السياسية التي جسَّدتها أجواء عدم الثقة المتبادلة بين الطرفين. فالسؤال المهم يتمثل ‏في كيف ينظر المصري للإثيوبي، وكيف ينظر الإثيوبي للمصري؟ هل يتم ذلك من منطلق العداء والكراهية ‏أم من منطلق الأخوة والصداقة؟ ما هي أنماط السياسات القديمة والتحولات المتسارعة في دول حوض ‏النيل؟ ما هو تأثير السياقات الإقليمية والدولية المتحوّلة؟

وربما تدفع الإجابة عن تلك التساؤلات إلى خيارات ‏تفاوضية رشيدة تُعْلِي من مبادئ العدالة والإنصاف في تقاسم موارد النهر؛‏ فإذا كانت مصر أقرَّت بمبدأ التوزيع العادل والمنصف لمياه النهر طبقًا لقاعدة «لا ضرر ولا ضرار»؛ فإن على إثيوبيا أن تتخلَّى عن الأوهام الدينية الخاصة بملكية النيل الأزرق، بالإضافة إلى حماسة الرستفارية الجديدة التي أضفت طابعًا خاصًّا على مبدأ الاستثنائية الإثيوبية.

حمدي عبد الرحمن

أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايد والقاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock