رؤى

عن رؤية حسام تمّام لـ«ترييف الإخوان».. إنها قيم التنظيم السري، لا ثقافة المدينة أو القرية

يظل  الباحث الراحل حسام تمّام – الذي تمر ذكراه الثامنة هذه الأيام -أحد أهم الباحثين فى حقل الدراسات المتعلقة بالحالة الإسلامية الحركية، فرغم وفاته قبل سنوات لا تزال أطروحاته تثير الجدل والحوار.

ضمن دراساته المهمة حول الحركات الإسلامية تأتى دراسته التي جاءت تحت عنوان «ترييف الإخوان» والتى رصد فيها ما سمّاه تراجع الجماعة عن تراثها فى المناطق المدينية والحضرية. ورغم أن الباحث الراحل جمع بين التأهيل العلمى المناسب لموضوع بحثه والخبرة الحركية ضمن جماعة الإخوان المسلمين كعضو سابق فيها، إلا أن الكثير مما ورد ضمن تلك الدراسة، وتعامل معه مجتمع البحث المصري والعربي باعتباره حقائق ثابتة، هو -فى حقيقة الأمر- بحاجة الى نقاش أوسع بهدف تدقيقه وفحصه وتطويره.


الجماعة بين أبناء الريف وأبناء المدن

حرص حسام تمّام على رصد التباين فى القيم والأفكار والتصورات والممارسة ما بين أبناء الريف وأبناء المدن، من بين أعضاء الجماعة، مستهلا دراسته برصد انتقادات «مدينية» صدرت من داخل الجماعة لممارسات وسلوك قيادات التنظيم، التى كانت تجنح الى إهدار المؤسسية والأبوية السياسية والإدارية، وهو ما اعتبره تمّام نتيجة لترييف قيادات الإخوان، والذي شكّل إنقطاعا لتراث المدينية والمؤسسية الذى كرسه أبناء المدن في صفوف الجماعة. وقد انطلق من فرضية تقول إن أبناء المدن فى الغالب أكثر إخلاصا للمؤسسية وإحترام اللوائح وقيم الديمقراطية.

في المقابل رصد تمّام أيضا حالة من عدم الارتياح التي طالما انتابت بعض أعضاء الجماعة من أصول ريفية تجاه هؤلاء الذين ينتمون للمدينة. كتب أحد الأعضاء الريفيين النص التالي ناقدا أحد القيادات: «علشان كده أنا عرفت ليه لم أنسجم مع إخوان المدينة، لأن فيهم أمثالك ممن يحبون الظهور والمراكز، أما إخوان القرى والريف فبالفعل ناس يحبوا ويتحبوا لأنهم مخلصون لله …». ويلخص تمّام منهج القيادة «المدينية» فى التعامل مع المعارضين «الريفيين» من داخلها عبر التاريخ فيما يلي:

أولا: تحرص الجماعة على تجاهل المعارضين وإبداء قدر من الترفع عن الخوض فيما يطرحونه حتى لايكتسب انتقادهم قيمة أمام الصف الإخوانى.

ثانيا: إذا كان خطاب العضو المعارض قد أثّر فى بعض الصف الإخوانى، فإن الجماعة دفعت ببعض عناصرها المدربة للإشتباك مع ما يقوله المعارض. والرسالة هنا تكون موجهة بالأساس الى الصف الإخوانى من أبناء الريف في القواعد، الذين كانوا تاريخيا وقود المعارك التى تخوضها الجماعة مع النظام، بهدف ردعهم عن التعاطى مع مايطرحه المعارض.

 ويرصد تمام مجموعة من المظاهر القيمية والسلوكية التي بدأت في الظهور خلال الفترة من مطلع السبعينات والتي كانت تشير لانتشار ثقافة ريفية داخل الجماعة، تقطع مع تراثها كجماعة مدينية فى طبيعة عضويتها ونمط تجنيدها والقواعد واللوائح المنظمة لها منذ نشأتها، فخلال هذه الفترة أظهرت الجماعة ميلا للتمدد فى المناطق الريفية.

ويشير تمّام إلى أن «الحركة التى نشأت فى العشرينيات من القرن العشرين بين صفوف أفندية حسن البنا فى الإسماعيلية، سرعان ما تمددت تنظيميا وأيدلوجيا فى كل محافظات مصر، ليكون لها بعد جغرافى وقيمى أيضا بعد أن توسعت فى الأرياف».

سلطوية البنا

 ولكن على العكس من ملاحظة تمام المهمة فإن فحص تفاصيل نشأة الجماعة وتاريخها يقدم لنا مؤشرات نقيضة لا تقل أهمية، أبرزها أن أول هيئة تأسيسية للإخوان عام 1941– والتي قد توحي بنزعة مؤسسية «مدينية» للوهلة الأولى – كانت مصنوعة بالكامل على يد حسن البنا، ولا تعكس إيمان أعضاء الجماعة بقيمة المؤسسية أو الديمقراطية وتداول الرأى بحال من الأحوال، بل إن مؤسسى الجماعة لم يكونوا من الأفندية – وهى الفئة الأكثر تعبيرا عن مفهوم المدينية والتمدين – بل كانوا من العمال وأصحاب الحرف الأقل تمدينا وتعلما.     

حرص البنا على ضبط تركيبة تنظيمه بحيث تكون نسبة معتبرة منهم من أهل الثقة، وبصرف النظر عن الإنتماء الجغرافى كان الهدف المهم أن يكونوا أطوع لقيادته ولقيادة التنظيم بحيث يضمن استمراره في الهيمنة مدى حياته.. فهل عبّر هذا السياق عن قيم مدينية أم عن استبداد المؤسس ومفهومه المغلق عن التنظيم الذي يمكنه من السيطرة والتحكم في الأعضاء؟

فقد حرص حسن البنا على أن يضبط إطار كل شىء، ولم تعكس فترة رئاسته للتنظيم أى تكريس لقيم تداول الرأى أو المؤسسية، بل ظلت الجماعة تدار طوال 14 عاما دون أى إطار مؤسسى اللهم إلا إرادة البنا المنفردة، الذى لم يكن  يؤمن سوى بالشورى المعلمة ولايؤمن بالديمقراطية أبدا ويعتبرها منتجا غربيا منافيا لثقافتنا العربية والإسلامية..

لم تلتزم الجماعة باللائحة التى وضعها البنا بنفسه والتي كانت تتحدث عن ضرورة عقد مؤتمرأو أكثر كل عام، وعبر تاريخها الطويل لم تنظم الجماعة سوى ستة مؤتمرات عامة، كانت تتلى فيها مقررات عادة ما كان يضعها البنا سلفا فى شكل رسائل تمثل قناعاته واختياراته الشخصية.

اكتفى حسن البنا باجتماع الهيئة التأسيسية، التى كانت عادة ما تبصم على قراراته، بديلا عن فكرة المؤتمرات العامة التى كان من الممكن أن تطور بنية مؤسسية وقيما ديمقراطية بالفعل، لكن هذا لم يحدث ولم يكن ذلك بفعل غلبة ثقافة ريفية على حساب ثقافة مدينية كما ذهب تمّام، بل كان بفعل سلطوية وتدبيرواستبداد البنا الذى  لم يكن يثق سوى برأيه وتدبيره. فقد كتب فى مذكراته: «على أن ملخص خطراتى أن فرعى جمعية الإخوان المسلمين بالمحمودية وشبراخيت سوف لاتنفع كثيرا، لأنها أنشئت بغير أسلوبى ولاينفع فى بناء الدعوة إلا ما بنيت بنفسى، وبجهود الإخوان الحقيقيين الذين يرون لى معهم شركة فى التهذيب والتعليم وهم قليل، ونفس فرع الإسماعيلية ستحدث فيه تعديلات كثيرة ولكنه سيصير نافعا إن شاء الله» تأمل هذا المنطق عن ماذا يفصح من قيم ريفية أم مدينية ؟ إنها قيم البنا الخاصة ومفهومه الأحادي الضيق.

حسن البنا

مثال آخر قد يطرح منطقا معاكسا لما ذهب إليه تمام حول غلبة القيم الريفية على المدينية. يحكى محمود عبدالحليم ضمن كتابه «الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ». أنه فى إحدى الليالى بينما كان الباقورى يعبث بكتب على مكتب عبدالفتاح البساطى، إذا به يفتح كتابا منها ثم ينفجر مكبرا مهلللا وهو يقول الحمد لله وجدت ما أعيانى البحث عنه، فالتفتنا إليه وسألناه ما هذا الذى أعياك البحث عنه، قال إننى عادة ما أقبل يد الأستاذ المرشد وبعد كل مرة أسأل نفسى هل هذا عمل يرضاه الإسلام وهل لهذا العمل سند من السنة، ولكني لم أكن أستطيع إن أقاوم نفسى من تقبيل يد الأستاذ، والآن وأنا أعبث فى هذه الكتب عثرت على  كتاب رياض الصالحين للإمام النووى وقرأت حديثا ورد فيه: «… فقدمت الى رسول الله فقبلت يده..» ثم ساق الحديث. «ولقد كان لهذا الحديث أجمل الوقع فى نفوسنا جميعا، فقد كان يتلجلج فى نفوسنا ما كان يتلجلج فى نفس الباقورى ولا نملك مع ذلك إذا التقينا بالأستاذ إلا أن نقبل يده، فكان هذا الحديث إرضاء لعقولنا فى عمل كان ينطلق من صميم قلوبنا متخطيا حواجز القياس والعقل والمنطق».

بالفعل كان سلوك الأعضاء فى حياة البنا لاينطلق سوى من عاطفة تخلو من القياس أو العقل أو المنطق وقد حرص البنا على تعميق ذلك، ولطالما كان الإخوان يرددون نحن نسوق الناس من قلوبهم وليس من عقولهم، لذا كان نصيب كل من يُعمل عقله الطرد من الجماعة أو التنظيم وهو مانال الباحث حسام تمام نفسه.

 

اقرأ أيضا:

الحقيقة التى اعتقدها أنه لاتوجد فى الجماعة لاقيم مدينية ولاقيم ريفية، توجد فقط قيم تنظيمية مركزية يُربى عليها التنظيم أعضاءه منذ النشأة، ولم تكن فترة حسن البنا بدعا من ذلك بل هى بالحال والمقال أكدت تنكرها لأى قيم مؤسسية، حيث حرصت على تأبيد القيم التنظيمية المغلقة، التى لاتنتمى لريف أو مدينة، فقد عرفنا من أهل الريف من كانوا أكثر الناس إنحيازا لقيم الديمقراطية وتداول الرأى والمؤسسية، وعرفنا من أهل المدن من ناصبوا تلك القيم العداء وانحازوا لقيم التنظيم الخاصة التى أرى أنه لايصح وسمها بقيم الريف أو قيم المدينة بل قيم التنظيم السرى وفقط.

أحمد بان

كاتب و باحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock