مدونة أصوات

أقصوصة.. عن كاتب متحقق

ليست الكتابة بالتحريض، كما أن المطالب لا تُستَحضر بالأمنيات، وأنا لا أحب «اللف والدوران» ولكني في بعض الأحيان أجدني متحايلا على الكتابة لأغراض في نفسي. أرجو زوالها، فالكتابة تداوي جراحا عديدة، تولد في الصمت وتتغذى على الحنين، وتتسع كلما أوغل الرفاق في الغياب.

 أما الوحدة فهي ما يعطي الأمر شيئا من الأسى الذي يجعل من الكلمات العادية نصالا مؤذية يتلمسها القارئ المتعجل؛ فتدمي أوقاته الفارغة بذات الحزن الذي حاول أن ينفضه عن كاهله مرارا، لكنه أمر لا يمكن الاحتراز منه، وما عساه أن يجني المحترز، فقد أذلَّ الحرص أعناق أشباه الرجال، ولا خير في حياة تَرْهبُ المخاطرة.. وهذا ما كنت أبحث عنه تحديدا بثبات انفعالي يليق بكاتب متحقق يرى أنَّ بعض الجمل الافتتاحية والعبارات المراوغة من الممكن أن تمرَ دون أن توصمَ بالثرثرة.. إنها متمهلةٌ فحسب، وهذا لا يعيبها في شيء، وأنا شخصيا أعتبرها «فاتح شهية» وجسر مودة مع أشخاص ليس بيني وبينهم سابق معرفة، وأنا أرضى بحكم القارئ على ذلك الرجل العابس الذي قال له ذات يوم بصرامة: ادخل في الموضوع بدون مقدمات. هل أحبه؟ هل يمكن اعتبار الأمر شيئا آخر سوى الإساءة؟ أظنه كان محتاجا لتوطئة تزيل عنه ذلك الخجل البغيض الذي أورثه التردد، وأذهب عنه بلاغة وحضورا متوهمين على أغلب الظن.

وكما بيّنتُ سابقا أنَّ الصراحة والمباشرة ينبئان عن تحفز للمواجهة وقدرة على المخاصمة واستعداد لقهر الرجال، وأنا لا أطمح إلى شيء من ذلك؛ فأنا أستعيذ بالله كل يوم من غلبة الدين وقهر الرجال.. ولا أرى في ذلك شيئا من المخاطرة.. وأنا اخترت هذه الكلمة تحديدا لأضعها عنوانا لبعض حادثات متفرقات عاينتهن صغيرا؛ فتلبستني دهشة اتسعت بمقدار قصور إدراكي عن استنباط الحكمة من وراء ذلك، وكشف الأسرار التي تكتنف كالسياج ملابسات تلك الوقائع وتفاصيلها الدقيقة التي نسجت نهاياتٍ مؤسفة كان الجميع من حولي يتناقلونها على سبيل العظة.

امرأة عجوز مجللة بالسواد طوال الوقت، لا يفارق العبوس وجهها، ليس على نحو اعتيادي، لقد اقتُلِعَت البسمة من وجهها اقتلاعا، كما أسنانها.. تأتي إلى جدتي لتجالسها وقتا طويلا يتحدثان حديثا محزونا يتعزيان به.. تحكي جدتي عن عمي الذي فقدته شابا بخطأ طبي، وهو لم يكمل بعد عام زواجه الأول أو الثاني على أقصى تقدير.. أما صديقتها فكان مصابها أفدح إذ فقدت ابنها ليلة عرسه بتسرب الغاز.. أي مشهد هذا الذي يجلس الصغير ليراقبه بالساعات، إنه يخلو من الحركة والضحكات.. لا منحَ فيه ولا أعطيات، لا شيء فيه يثير الانتباه؛ لكنه يحمل حزنا ثقيلا لا غضب فيه ولا رضا؛ فيبدو بطوليا على نحو غير معتاد.

تلك الصورة الثابتة المنطوية على الفجيعة المؤتنسة بالوحدة والظلام، بحثت عنها مجددا لأراها بوضوح في الشارع الخلفي الهادئ حيث مدخل بيت عمي الكبير، إنَّه –هذه المرة- كهل داكن البشرة، هائل الجرم.. من المفترض أنَّه يبيع أدوات النظافة، لكنه –في الحقيقة- يجلس بينها ذاهلا، ينظر إليها بين الحين والآخر بعينين حمراوين؛ ليخيفها قليلا حتى تهدأ هواجسه، يوحي لك بطريقة ما أن كل شيء كان يسير على ما يرام، إلى أن أتاه الخبر بأن صار أبا الشهيد.. سمعت أنه أصيب بحالات هياج يحطم فيها كل ما تطاله يداه، علمت أيضا أن أهل الحي يتحاشونه خشية إثارة غضبه؛ حتَّى أنهم يتجنبون النظر إليه وإلقاء التحية.. بعد فترة قصيرة تحول الدكان إلى مخزن لا يفتح إلا نادرا، واختفى الرجل من الحي مخلِّفا على الرصيف صمته الأسيف، ونوبات غضبه المدمرة.

ثم تدنو المخاطر أكثر فأكثر فتخطف من هم في مثل سن الصغير.. صديق لأخيه يتردد على المنزل يكبره بعامين، وحيد أمه التي لم يعد في إمكانها إنجاب غيره لظروف صحية، مدلل لا يرد له طلب، أربعة أمور جعلته معجبا به.. يجيد لعب الكرة، يسمح له أبوه بلبس سلسلة حول رقبته، كما أنه لا يمانع في أن يطيل الصبي شعره، وتسمح له أمه أن يلبس القميص على اللحم في أيام الصيف الحارة، كانت الأمور الثلاثة الأخيرة من المحرمات ومما يوجب العقاب الفوري بالنسبة للصغير وأخيه.. شاهده مرة يلعب الكرة أمام الباب الرئيس لمدرسة الراهبات، وربما شاهده مرة أخرى يلعب قرب منزله بحي «المظلوم» وفي نفس الشارع الواسع الذي كان يستضيف مباريات الكرة في رمضان عصر كل يوم، كان الرحيل المفجع للفتى عندما تسلق جدارا متداعيا ليحضر الكرة، فإذا به ينهار عليه؛ فيقضي قتيل الهدم.. أشهد أن الصغير ذهب إلى المكان لأكثر من مرة ليستطلع أمر الحائط مترحما على الولد «الحرِّيف».

ثم تتغلب إرادة الحياة ظهيرة يوم شتوي عندما يخرج الفتى ابن الثانية عشرة من المدرسة متجها بأمر أمه لشراء الخبز الإفرنجي من الكشك المجاور لمشفى الهلال، وعلى غير العادة- وربما في لحظة شرود- تخرج من الشارع الهادئ المجاور للمشفى سيارة مسرعة تفاجئه وهو في منتصف نهر الطريق؛ فتلهمه العناية أن يستلقي في لحظة ليصدها بقدميه، فتسحله لبضعة أمتار، فيهرع المصطفون أمام الكشك إليه ويجلسوه ويسقوه ماء، ثم يحضروا له الخبز ويودعوه مع التنبيه عليه أن يتوخى الحذر عند عبور الطريق.. رائحة الخبز الساخن لم تترك له خيارا، تناول واحدا وبدأ في التهامه بنهم.. نهم يشبه تماما الرغبة في البقاء.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock