منوعات

بين «الطليعة»و«الدعوة» (2).. انتفاضة يناير 1977.. رؤية اليسار و انتهازية الإخوان

تُعتبر «إنتفاضة 18 و19 يناير 1977» أو «إنتفاضة الخبز» كما أطلق عليها الشعب المصري أو «إنتفاضة الحرامية» كما دأب على تسميتها الرئيس الراحل أنور السادات منذ اندلاعها وحتى إغتياله فى حادث المنصة عام 1981، أبرز حدث سياسي شهدته مصر خلال الفترة الزمنية التي التقى بها صدور مجلتي «الطليعة» و«الدعوة». فكيف تفاعلت كل منهما مع الحدث؟ وكيف كانت قراءة المجلتين لأسباب إندلاع الإنتفاضة، وكيفية  معالجة الأزمة التي تسببت في إندلاعها؟ وهل مازالت تلك المعالجات التي طرحتها كل من الطليعة والدعوة  لمواجهة أسباب اندلاع  هذه الانتفاضة صالحة لمجابهة أزمات الواقع المصري في لحظته الراهنة؟

بمعنى آخر إلى أي مدي مازالت رؤى اليسار التي طرحت عبر مجلة «الطليعة» ورؤى جماعة الإخوان المسلمين التي طرحت من خلال مجلة «الدعوة» صالحة للتعامل مع أزمات الواقع الإجتماعي والسياسي والإقتصادي المصري في اللحظة الراهنة؟

شرارة الأحداث

إندلعت شرارة أحداث يناير حين وقف عبد المنعم القيسوني نائب رئيس الوزراء للشئون الإقتصادية مساء يوم 17 يناير 1977 أمام مجلس الشعب معلنا عن قيام الحكومة بإتخاذ مجموعة من القرارات الإقتصادية التي وصفها «بالحاسمة والضرورية» والتي تهدف إلى خفض العجز في ميزان المدفوعات، وذلك تلبية لضغوط صندوق النقد والبنك الدوليين من أجل إبرام اتفاق معهما. كانت محصلة تلك القرارات رفع الدعم عن العديد من السلع الأساسية ما نجم عنه زيادة أسعار تلك السلع من «خبز وبنزين وسكر ودقيق ولحوم وشاي وأرز وسجائر بنسب تتراوح ما بين 30% إلى 50%».

اشتعلت مظاهرات الغضب الشعبي  على امتداد يومى 18- 19 يناير خاصة بين الطلاب والعمال بمختلف المدن المصرية من  الإسكندرية إلى أسوان، وزادت وتيرتها في القاهرة والمحلة والسويس، ما أضطر الحكومة لأن تعلن عن تراجعها السريع عن تلك القرارات قبل إنتهاء يوم 19 يناير مع إتخاذها عدد من التدابير الأمنية المشددة التي تضمنت فرض حظر التجوال واعتقال الآلاف من المواطنين وبعض القيادات الطلابية والعمالية، وكانت هناك تغطية موحدة من قبل الصحف القومية الثلاث «الأخبار – الأهرام – الجمهورية» تحمل ذات النص «لوحظ أن هذه أول مرة في مصر تستمر فيها المظاهرات حتى الثالثة صباحا لإرهاق رجال الأمن فلا يستطيعون أن يقوموا بعملهم في الصباح التالي» وإطلاق السادات لصيحته المدوية «فئة قليلة لا يحركها إلا الحقد، وهو ما شكوت منه… إنها إنتفاضة الحرامية».

اقرأ أيضا:

بين «الطليعة» و«الدعوة» (1).. سجال اليسار والإخوان

الطليعة.. وجماهير يناير 77

في مقالتها الإفتتاحية بعدد فبراير 1977 والتي كتبها لطفي الخولي، تناولت مجلة «الطليعة» «انتفاضة يناير» منتقدة التناول الإعلامي الرسمي لها الذي دار في فلكين: الأول ينزع عن أحداث الإنتفاضة كونها انتفاضة جماهيرية عفوية مع تثبيت بصمات التخريب والدمار، أما الوجه الآخر للتغطية الإعلامية الرسمية فقد حرص على أن ينزع عن الحكومة أي مسئولية عما حدث مع تثبيت المشهد بوصفه «حركة شيوعية تخريبية» قام بها تنظيم سري عرف باسم «حزب العمال الشيوعي» مع إمتداد ذلك الخط ليشمل «حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي» الذي كان يمثل «منبر اليسار» ضمن ثلاثة أحزاب شرعية قائمة فى ذلك الوقت تمثل المنابر الثلاثة: «الوسط – اليمين – اليسار».

رأت «الطليعة» أن أسباب إندلاع تلك «الهبة الجماهيرية» – كما وصفتها – يكمن في «السياسة غير الواقعية وغير العصرية وغير المسئولة التي تبنتها الحكومة». وعبر مقالات ثلاثة لكل من لطفي الخولي ومحمد سيد أحمد وعادل حسين، قدمت المجلة رؤية بديلة تقوم على عدة نقاط منها: إعادة النظر في مجمل القوانين والقرارات التي صدرت تحت شعار الإنفتاح،وإعادة النظر في نمط توزيع الدخول في ضوء دراسة جادة تستهدف عدالة توزيع الدخل القومي، وإعطاء المثل والقدوة على التقشف، ونبذ الإستهلاك الترفي، إلى جانب الإنفتاح السياسي والإقتصادي على العالم كله في ضوء معادلة متوازنة لا تدعم علاقتنا بطرف من العالم على حساب طرف آخر، مع نبذ سياسة القمع الأمني، والإعتماد على سياسة بديلة تقوم على إشراك الأحزاب ومختلف القوى والإتجاهات في المجتمع في صنع القرار. هذا إلى جانب إعادة النظر في شكل العلاقة بين الجماهير والسلطة أي إعادة طرح قضية «الديمقراطية» وآليات تفعيلها وإلى أي مدى تم تحقيقها على أرض الواقع في ظل «دولة المؤسسات» وشرعية «تعدد الأحزاب».

كما حذرت «الطليعة» من مغبة فتح باب التعامل على مصراعيه مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والتأكيد على أن حل الأزمة أبعد من مجرد تبديل الأشخاص أو تعديل وزاري، وأن الموقف يتطلب تعديلا أساسيا في السياسة العامة.

والحقيقة أن تلك الرؤية التي عبرت عنها مجلة «الطليعة»، والتي يمكن النظر لها بوصفها معبرة عن رؤية اليسار المصري في ذلك الحين، مازالت – فى رأينا – صالحة لمعالجة قضايا الوضع الراهن، فمازالت الديمقراطية وآليات تفعيلها غاية يمكن لها أن تضمن المشاركة الفعالة لمختلف قطاعات المجتمع في صنع القرار، كما أن طرح فكرة عدالة توزيع الدخول – رغم كونها باتت حلما بعيد المنال – إلا إنها مازالت فكرة تحمل في طياتها حلا لأزمة الفقر في مصر.

 

الدعوة.. وانتهازية التناول

في المقابل انقسمت رؤية مجلة «الدعوة» لأحداث إنتفاضة يناير 1977 إلى ثلاثة تيارات لا تختلف عن بعضها كثيرا من حيث المضمون، وإن اختلفت في الدرجة.. التيار الأول عبر عنه مقال يحمل عنوان «هل يهجر الشيوعيون شيوعيتهم؟» للكاتب  محمد جمعة العدوي يستعرض فيه الكاتب أزمة الحركة الشيوعية في الإتحاد السوفيتي – من وجهة نظره بالطبع- وينهي مقاله متسائلا: إذا كان أصحاب الشيوعية قد أوشكوا على هجرها فهل يهجرها الشيوعيون المصريون؟ ومن ثم يختتم مقاله بدعوة الشيوعيين المصريين بالعودة إلى الله!.

التيار الثاني مثّله مقال بعنوان «أين الفتنة؟» للقيادي الاخواني صلاح شادي تناول فيه الإنتفاضة بوصفها «فتنة» مشيرا إلى أن إدراك إنتماء المواطن إلى الله لا لحزب «الوسط أو اليسار أو اليمين» هو الذي سيعصمه من عدم إدراك واجبه حيال وطنه.، وتساءل شادي في  مقاله: «هل قامت الفتنة بسبب هذه العزلة بين نواب الشعب من حزب الوسط «الحزب الحاكم» وبين طوائف الشعب الأخرى التي رفضت القرارات الإقتصادية؟ أم تُراها قامت بسبب نشاط هذه الطائفة من الماركسيين الذين ينتمون بفكرهم وسلوكهم إلى وطن آخر يفزعون إليه ويرقصون على أنغامه السكرى بالطعن والسفك والتخريب؟».

القيادي الاخواني «صلاح شادي»

التيار الثالث عبر عنه مقال بعنوان «لا تدفنوا الرؤوس في الرمال» للدكتور أبو المعاطي حافظ أبو الفتوح الذي رأى فيه أن ما جرى يعود لأسباب عديدة، منها إفتقاد العدل في المجتمع، إلى جانب تعدد الوعود من قبل المسئولين مع ضعف التنفيذ. وأعتبر أبو الفتوح أن الشيوعيين ربما حاولوا أن يركبوا موجة الأحداث، لكنهم بالتأكيد لم يصنعوا المقدمات التي أدت إليها.

 والمدهش هنا أن الكاتب رغم أنه تمكن إلى حد ما من الوقوف على أسباب الأزمة، والتي ربطها بالطبع بطبيعة القرارات الإقتصادية وطابعها المفاجىء الذي شكل عبئا مفاجئا على الجماهير، إلا أنه لم يطرح أي رؤية بديلة لمواجهة تلك الأزمة سوى بالإشارة إلى ضرورة زيادة الإنتاج وحسب، دون أن يهتم بوضع أي تصور لآليات تفعيل عملية زيادة الإنتاج تلك، كما أنه لم يهتم بطرح رؤية بديلة لمواجهة مجمل السياسات التي أدت لإنفجار الجماهير آن ذاك.

وبشكل عام يمكن الإشارة إلى أن مجلة «الدعوة» قد تعاملت مع إنتفاضة يناير 1977 بوصفها إما «عمل تخريبي من قبل اليسار» – كما تعاملت معها الصحف القومية – أو «فتنة» أو «أحداث» نجمت عن «غياب العدل»، وهى في جميع الأحوال لم تقدم رؤية بديلة لمواجهة تلك السياسات التي كانت وراء إندلاع تلك الإنتفاضة.

 بين موقفين

دفعت مجلة «الطليعة» ثمناً باهظاً نتيجة إنحيازها لإنتفاضة يناير 1977 فجاء عدد مارس 1977 منها دون أسماء هيئة التحرير أو اسم رئيس تحريرها لطفي الخولي، كما نزع عنها شعارها الذي طالما عرفت به منذ عددها الأول الصادر عام 1965 «الطليعة طريق المناضلين إلى الفكر الثوري المعاصر» ومن ثم أتت إفتتاحية العدد تحمل عنوان «بالعلم والإيمان وبالمحبة» توقيع الطليعة، لنكتشف مع إفتتاحية عدد إبريل 1977، التي كانت بمثابة الجزء الثاني من إفتتاحية عدد مارس والتي حملت ذات العنوان أن كاتبها هو رئيس التحرير الجديد صلاح جلال، لتبدأ مجلة «الطليعة» رحلة جديدة لا تمت بأي صلة لمجلة «الطليعة» كما عرفها جمهور قرائها منذ عام 1965، تحت شعار «الطليعة.. مجلة الإنسان وعلوم المستقبل» وليكون عدد يوليو 1977 هو العدد الأخير منها.

أما مجلة «الدعوة»- في المقابل – فلم يطلها شىء من غضب الدولة، إذ لم تتناول تلك المجلة المعبرة عن الإخوان  المسلمين فى تغطيتها لانتفاضة يناير 77، ما يمكن أن يثير غضب نظام السادات على أى وجه من الوجوه.

 (يتبع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock