منوعات

صاحب «كُنّاشة النوادر».. عبد السلام هارون… إمام المحققين

كانت مصر في القرن الماضي تعاني معاناة، تتمناها كل الأمم، أعني معاناتها مع وفرة  الهامات الكبرى الشامخة، ففي كل مجال كنت تجد ـ على أقل تقدير ـ  عشرة رجال من أولى العزم والهمة العالية والعلم الثري.

ففي مجال تحقيق التراث ونشره والعناية به كنت تجد محب الدين الخطيب، أحمد باشا تيمور، أحمد باشا زكي، مصطفى السقا، وعبد الرحيم محمود، وإبراهيم الإبياري، وحامد عبد المجيد، والأخوين شاكر، أحمد ومحمود، ثم بطل مقالنا الأديب والمحقق الفذ عبد السلام هارون، وغير هؤلاء من العلماء الراسخين.

عام الأقطاب

في العام 1909 وُلد الأستاذ عبد السلام هارون، وهو نفس العام الذي ولد فيه أيضا الأستاذ محمود محمد شاكر، فأصبح ذلك العام عامًا لميلاد الأقطاب. شاكر وهارون من أسرتين عريقتين من صعيد مصر، إلا أنهما ولدا في الإسكندرية، وشاكر هو ابن خال هارون، وقد عمل الرجلان هارون وشاكر على مدار سنوات عمرهما على نشر كنوز التراث العربي الإسلامي، وكان شاكر يضيق بكلمة التراث ويفضل عليها كلمة «الميراث» وكذا كان هارون.

نشأة عبد السلام هارون جاءت متوافقة مع تكوين أسرته الثقافي والاجتماعي، فجده لأبيه هو الشيخ هارون بن عبد الرازق عضو جماعة كبار العلماء، وأبوه هو الشيخ محمد بن هارون وكان يتولى عند وفاته منصب رئيس التفتيش الشرعي في وزارة الحقانية (العدل الآن)، أما خاله فهو الشيخ محمد شاكر وكيل مشيخة الأزهر ووالد أحمد ومحمود شاكر.

في أسرة كهذه يصبح حفظ القرآن الكريم كاملًا من البديهيات، وقد حفظ عبد السلام القرآن كاملًا في الكُتّاب وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم ألتحق بالأزهر الشريف في العام 1921 فدرس العلوم الدينية والعربية.

في زمن هارون كانت التقاليد العلمية شديدة الصرامة، فلكي يغادر طالب الأزهر عامود شيخه ذاهبًا إلى التعليم المدني، كان عليه الخضوع للتجهيز لمدة سنة. وقد خضع لها الشيخ هارون لكي يلتحق بدار العلوم التي حاز شهادتها في العام 1928، ثم حصل على شهادة دار العلوم العليا في العام 1945.

مقالات ذات صلة

محمود محمد شاكر

 احياء التراث

طلاب العلم فريقان، فريق يقنع بالقليل الذي حصلّه، ثم يتجرأ جرأة الجاهل فيفتي في كل قضية، وفريق لا يقنع ولا يشبع، فيظل يطلب العلم من المهد إلى اللحد، وقد كان الشيخ عبد السلام هارون من المنتمين إلى الفريق الثاني، حيث دخل عالم تحقيق التراث أو الميراث وهو ابن السادسة عشرة من عمره. وقد كتب هارون مقالًا عن مشواره مع التحقيق نشره بمجلة مجمع اللغة العربية بعنوان «تجربتي في إحياء التراث» قال فيه: «أول كتاب أقحمت نفسي فيه إقحاماً، وبدأته بشيء من التحقيق هو كتاب «متن الغاية والتقريب» لأبي شجاع، الذي نشرته سنة 1925، وكنت طالباً بالصف الثالث من القسم الأولى الإبتدائي بالمعاهد الأزهرية، وقد مررت فيه بتجربة الدقة في ضبط النصوص. وخضت بعده تجربة أخرى غمرني فيها العالم الكبير المغفور له محب الدين الخطيب، فقد كنت أتردد على مكتبته السلفية، وألتقي بالعلامتين أحمد تيمور باشا وأحمد زكي باشا. وقد آنس محب الدين مني بعض الكفاية، فعهد إليَّ بالاشتراك معه في تحقيق كتاب «أدب الكاتب» لابن قتيبة، الذي قمت فيه بالعبء الأكبر، وكان ذلك تجربة مشجعة لي على الاندماج في هذا التيار المقدس».

عين العميد

العميد هو الدكتور طه حسين، الذي كان شأن العظماء الممتلئين ثقة  في ذواتهم، لا يخشى المنافسة، بل يعلم علم اليقين أن القمة تتسع لكثيرين، ومن هنا وضع العميد عينه على عبد السلام هارون واختاره في العام 1943 ليكون عضوًا بلجنة إحياء تراث أبي العلاء المعري مع الأساتذة: مصطفى السقا، وعبد الرحيم محمود، وإبراهيم الإبياري، وحامد عبد المجيد، وقد أخرجت هذه اللجنة في أول عهدها مجلدًا ضخمًا بعنوان: «تعريف القدماء بأبي العلاء»، أعقبته بخمسة مجلدات من شروح ديوان «سقط الزند».

 بعد حصول هارون على شهادة دار العلوم عمل مدرسًا بالتعليم الابتدائي، ثم جاءت عين العميد مرة ثانية لتختاره مدرسًا بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، وهذه هي المرة الوحيدة في تاريخ الجامعات التي ينتقل فيها مدرس من التعليم الابتدائي إلى السلك الجامعي.

من العجيب أن أحدهم قال: إن رعاية العميد لهارون لم تكن لنبوغ هارون فحسب، بل كانت ليغيظ ابن خاله محمود محمد شاكر، بعد أن وقع صدام شديد بين شاكر والعميد. وهذا كلام لا يليق برجل مثل العميد ولا بهارون، فمحمود شاكر نفسه كان يجالس العميد بل قدم له مرة رجلًا ليكون سكرتيرًا له، وقد رضى العميد عن اختيار شاكر واثنى عليه. خصومة هؤلاء كانت شريفة مثلهم، فقد كانت على أرضية العلم وليس على أرضية المصالح الشخصية.

التأسيس والتكريم

بعد أن أصبح هارون إمامًا من أئمة التحقيق دعي مع نخبة من الأساتذة المصريين في العام 1966 لإنشاء جامعة الكويت، وتولى هو رئاسة قسم اللغة العربية وقسم الدراسات العليا بالجامعة الوليدة حتى العام  1975، وكان قبلها قد أصبح عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة في العام 1969.

وقد أشرف على ما يزيد على ثمانين رسالة للماجستير والدكتوراه وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 1987 قبل وفاته بعام واحد.

وقد تُوج بجائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي سنة 1981، وانتخبه مجلس مجمع اللغة العربية أمينا عامًا له في 1984واختاره مجمع اللغة العربية الأردني عضو شرف به.

لم تصرف المناصب الأكاديمية الأستاذ هارون عن التحقيق، فقد قدم للمكتبة العربية أربعة وستين كتابًا محققًا إضافة إلى تأليفه لاثني عشر كتابًا، ومعنى هذه الأرقام الضخمة أن الرجل كان يخرج كتابين في السنة، فأي رجل كان هذا الشيخ الإمام؟.

الكتب التي حققها هارون لم تكن كغيرها، فقد كان متخصصًا في تحقيق الأمهات الكبرى، وعلى رأسها كتب الجاحظ. وقد كان أثناء تحقيقه للكتب يقيد المعلومات الشاردة والطرائف الدالة، وقد تجمعت لديه كمية خرافية من تلك المعلومات التي وقع عليها في بطون الكتاب ،فكانت النواة الصلبة لعمله الفريد «كناشة النوادر» الذي سنعرف به في السطور القادمة.

أصل الكُنّاشَة

ظهر كتاب «كناشة النوادر» لأول مرة في العام 1985 عن مكتبة الخانجي، ثم توالت طبعاته، وقد قدم له مؤلفه بمقدمة جاء فيها: «تراثنا العربي زاخر بأنواع شتي من المعارف، بها جلاء لكثير من غوامض العلم، كما أنه مشحون بالطرائف وغذاء الذهن والروح واللسان أيضًا. وكثيرًا ما يقرأ الإنسان شيئًا فيعجبه، ويظن أنه قد علق بذاكرته، فإذا هو في الغد قد ضاع منه العلم وضاع معه مفتاحه فأنتهي إلى حيرة في استعادته واسترجاعه. والباحثون -ولاسيما في أيامنا هذه- يقيدون هذه المعارف في جذاذات، يرجعون إليها عند الحاجة، لكني سلكت طريقًا أوثق من طريق الجذاذات، هو دفتر الفهرس وهو الذي سميته (كناشة النوادر) والكناشات بالضم والشد: الأصول التي تتشعب منها الفروع، وهى الأوراق تُجمع كالدفتر يقيد فيها الفوائد والشوارد».

رسالة الكتاب قائمة على إثبات أسبقية العرب والمسلمين في بعض العلوم والمعارف، ثم في الكشف عن جذور مصطلحات وكلمات واستخدامات كنا نظنها أوربية أو أعجمية فإذا بها عربية إسلامية عريقة.

فمن الأشياء التي يثبت هارون سبق العرب والمسلمين إليها محو الأمية وعنها يقول: «كان العرب حرّاصا علي إدماج ابنائهم في التعليم ولاسيما حفظ القرآن الكريم بل علي إجبارهم عليه استجابة لأمر الكتاب فإذا أفلت أحدهم من قيد التعليم صغيرا رد اليه كبيرا».

وقد عرف المسلمون «المايوه» وكان لباسًا للبحارة وللمصارعين، وقد نقل هارون عن ابن تغري بردى: «أن السلطان المظفر بن الناصر قلاوون كان إذا لعب مع الأوباش يتعرى ويلبس «تُبّان» جلد ويصارع معهم ويلعب بالرمح والكرة، والتبان «سروال صغير بمقدار شبر يستر العورة المغلظة يكون للملاحين».

أما عن مجالس العلم فيكتب هارون: «يذكر الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ بعد سرد الطبقة الثامنة من أكابر الحفاظ الذين منهم الإمام أحمد بن حنبل، أن مجلس العلم  الواحد في هذا الوقت كان يجتمع فيه أزيد من عشرة ألاف محبرة».

وعن علوم الطب يقول هارون: «جاء في ترجمة الصحابي الجليل المقداد بن الأسود الكندي أنه كان عظيم البطن، وكان له غلام رومي فقال له: اشق بطنك فأخرج شيئا من شحمه حتي تلطف- أي تصير رشيقا – فشق بطنه.ثم خاطه.فمات المقداد وهرب الغلام» فكانت تلك أولى عمليات التجميل، نعم فشلت ولكنها نجحت بعد قليل، ففي زمن الجاحظ هجم كلب على رفيق من رفاق الكتّاب الذي كان يتعلم فيه الجاحظ، وقام الكلب بتشويه وجه التلميذ، حتى ظن الجميع أن الولد ميت لا محالة، لكنه خضع لعملية جراحية محت آثار العض والتشويه وعاش بعدها سنوات كثيرة.

وعن ترويض الحيوانات ينقل هارون عن المسعودي قوله: «إن الأسود العنسي الذي أدعى النبوة كان له حمار قد راضه وعلّمه، فكان يقول له اسجد فيسجد ويقول له اجث فيجثو».

ثم يستعرض هارون طائفة من الكلمات القديمة جدًا التي نظنها حديثة غير عربية، فمنها مثلًا «الطرطور» جاء في لسان العرب: الطرطور: الوغد الضعيف من الرجال، والجمع الطراطير.

وهناك كلمة جرثومة التي تعني الآن الوباء ولكنها في بدء أمرها كانت تعني أصل كل شىء ومجتمعه، حيث كانت تطلق على ما يجتمع فى التراب من أصول الشجر.

ثم كلمة التبجح التي نستخدمها الآن في الدلالة على سلاطة اللسان وسوء الأدب لكن مدلولها الأصيل كان يعني الفرح والشعور براحة النفس، والفخر بما صار إليه المرء من منزلة، كل ذلك في نطاق محمود غير مستنكر، ومن ذلك حديث أم زرع «وبجّحني فبجّحت إلى نفسي»، يعني «فرّحني ففرحت وعظّمت نفسي عندي».

الرحيل

في السادس عشر من شهر أبريل من العام 1988 توفي عبد السلام هارون بعد أن قدم للمكتبة العربية عصارة فكره وتوهج عقله، وقد أحسنت جامعة الكويت التي شارك في تأسيسها عندما أصدرت عنه كتابًا جامعًا حمل عنوان «الأستاذ عبد السلام هارون معلمًا ومؤلفًا ومحققًا».

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock