رؤى

ليسوا زهادا.. ابن عربي منتقدا متصوفة مصر

حمل التصوف المصري منذ بداياته طابعا خاصا، يختلف عن التصوف في بلاد الأندلس والمغرب العربي وكذلك بلاد فارس، فهو أقرب إلى التصوف الأخلاقي المدرسي الحركي منه إلى التصوف الفلسفي والعرفاني الغنوصي (الباطني)، ذلك التصوف الذي أفرزته قرائح متصوفة بلاد فارس والأندلس.

فقد كان المصريون ولا يزالون، أكثر اهتماما بالطقوس والتقاليد الصوفية، كزيارة الأولياء، وإقامة حفلات السماع، والعبادات الجماعية، وصناعة الاحتفال، ويبدو أنهم رأوا في ذلك لونا من ألوان الكمال الصوفي، إلى حد مفاخرتهم به على غيرهم من متصوفة بلاد المغرب العربي. ويبدو أن هذا الأمر قد أثار غضب وحنق الشيخ الأكبر ابن عربي، حتى أنك لتقرأ نصوصه في نقد صوفية المشرق فتظنها واحدة من نصوص شيخ الإسلام ابن تيمية أو صاحب تلبيس إبليس الحافظ الجوزي. وقد يكون لسبب آخر هو ما ذكره ابن عربي بنفسه في مقدمة رسالته (روح القدس في مناصحة النفس) من أن تكليفا علويا قد اختصه بتوجيه النقد إلى الصوفية من أهل زمانه «من العبد الضعيف، الناصح الشفيق، المأمور بالنصح لإخوانه، والمشدد عليه في ذلك دون أهل زمانه».

مع أواخر القرن السادس الهجري كان ابن عربي يرتحل من الأندلس إلى بلاد المشرق الإسلامي حيث وصل إلى مكة عام 598 هجريا، ليُفتح عليه بوضع تلك الموسوعة العملاقة في العلوم والمعارف الإلهية والمعروفة بـ (الفتوحات المكية). ثم تنقل ابن عربي ما بين الطائف والمدينة و الموصل بالعراق، ثم كانت رحلته إلى القاهرة التي قضى فيها قرابة العام، قبل أن يشد رحاله إلى دمشق التي تعلق قلبه بها، ورغم نزوحه منها إلى بلاد الأناضول إلا أنه عاد ليستقر بها حتى وفاته ودفنه أعلى قمة سفح جبل قاسيون الشهير عام 638 هجريا.

صوفية غير زاهدة

على الرغم من أن ابن عربي قد غلبت عليه النزعة النقدية لأحوال متصوفة زمانه بشكل عام، إذ بدأ النقد منذ وصوله إلى مكة على مايروي، ومن المسجد الحرام حتى وقع في قلب أحد المنتسبين للمتصوفة- على ما يذكر ابن عربي- قول لماذا هذا النقد لأخوته ليته سكت عن كل هذا؟ فعلم ابن عربي أنه على الحق، ما دام قوله قد ثقل على قلوب بعضهم.

صحيح أن ابن عربي في زيارته قد وجه نقدا شديدا لجماعات أخرى غير المتصوفة مثل الفقهاء، والحكام والسلاطين، إلا أن ما يعنينا هنا هو نقد شيخ الصوفية الأكبر لطائفته، باعتبار ذلك أحد أنضج وأهم ما يمكن تسميته بـ النقد الذاتي، إلى الحد الذي جعل صديقه وخليله وصاحب مخاطباته الدائم الشيخ عبدالعزيز المهدوي يقول له مواجهة: (إنك كثير الانتقاد)، وبالجملة فقد كاد أن يلعن زمانه كله (فالزمان يا وليي اليوم شديد، شيطانه مريد، وجباره عنيد: علماء سوء يطلبون ما يأكلون، وأمراء جور يحكمون بما لا يعلمون، وصوفية صوف بأغراض الدنيا موشحون».

كان أول انتقاد وجهه ابن عربي لمتصوفة مصر هو ذلك القول السائد بأن تصوف أهل المغرب العربي تصوف نظري يقوم على الخوض في علم الحقائق، بينما تصوف أهل المشرق تصوف عملي، وهو قول رآه أبن عربي فاسدا، لأنه لا وصول إلى الحقيقة إلا بعد تحصيل الطريقة، وأما قولهم بأنهم أهل طريقة فقط، فإنما يشهدون على أنفسهم كذلك بفراغهم من الحقيقة التي هي ثمرة الطريقة.

 لم يكتف ابن عربي بتصحيح هذه الفكرة، بل عاب على متصوفة مصر أيضا ذلك الاهتمام المبالغ فيه بالمظهر الصوفي، من مبان وملابس وسبح مع خواء الباطن: «فأول ما وصلت إلى هذه البلاد سألت عن أهل هذه الطريقة المثلى، عسى أجد منهم نفحة الرفيق الأعلى، فحملت إلى جماعة جمعتهم خانقاه، علية البناء، واسعة الفناء، فنظرت إلى مغزاهم المطلوب.. تنظيف مُرقّعاتهم، وترجيل لحاهم، حافظوا على السجادات والمرقعات، والمشهرات والعكاكز، وأظهروا السبحات المزينة كالعجائز».

عظمت الدنيا فى قلوبهم

لم ير ابن عربي في أحوال صوفية مصر ما يفيد الزهد في الدنيا ومجاهدة النفس ومصارعة الهوى والتخلي من علائق الدنيا، وإنما رآهم قد عظمت الدنيا في قلوبهم فتكالبوا عليها وصغر الحق في نفوسهم، ووقع عليهم الالتباس في مفهوم هذه الطريقة التي هي في حقيقتها ما تقوم إلا  «بالقعود في مرابض الكلاب – مجاهدة، وتحمل الأذى، وكفه – رياضة، والرحمة والشفقة على الفقراء، والمسلمين كافة تحقيقا، ومعرفة» بل ذهب في نقده إلى حياة التكايا والخنقاوات التي سيطرت على المجتمع الصوفي في مصر منذ العصر الأيوبي والتي توسعت في عهد الدولة المملوكية إلى الاتهام بأنهم إنما يرتكنون في حياتهم هذه إلى ما يمنحه الحكام لهم من عطايا مقابل التخلي عن النطق بالحق، دون تحري الحلال والحرام فيما يقدم لهم من طعام

«اتخذوا من ظاهر الدين شركا للحكام، ولازموا الخوانق، والرباطات، رغبة فيما ياتي إليها من حلال وحرام، وسعوا أردانهم (أكمامهم)، وسمنوا أبدانهم» وهذا النقد من قبل ابن عربي لصوفية التكايا والخنقاوات الذين يعتمدون في مأكلهم على عطايا الحكام، وهو مفسدة لأحوال الحكام والرعية والصوفية على السواء يتسق مع ما نقل من سيرته الشخصية حيث رفض عروض أمراء الموحدين المتكررة لتولي الوزارة أو إمارة أي من أقاليمهم المترامية الأطراف، كما نقل عنه رفضه لعطية أحد الأمراء حين أهديت إليه برفض فيه جرأة وتحد واضحين بقوله لرسول الأمير (هذا طعام من حرام).

يستمر ابن عربي في رسالته «روح القدس» في تقديم نقده لأحوال صوفية المشرق وعلى رأسهم المدرسة المصرية في التصوف فينتقد قول بعضهم بعدم حاجتهم لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم بحجة اتصالهم المباشر بربهم، ولو نظرت في أحوالهم لرأيت نقيصة الكون وما تسخن به العين، ثم إدعاء بعضهم بأنه تحصل في إحدى مكاشفاته بأن الجنة لم تخلق بعد، وهو أمر مناف لعقيدة عموم المسلمين.

العوام «فى الحضرة»

أما القضية التي احتلت مساحة كبيرة من نقد ابن عربي لمتصوفة مصر، فكانت قضية «السماع» ومشروعيته، وما لحق به من ممارسات أضرت بمفهومه، والسماع المقصود به ذكر الحلقة والتمايل على وقع الإنشاد الديني الذي يتغنى به أحد المنشدين، وهي قضية اتخذت مسارات متعددة من التأييد والرفض بين المتصوفة أنفسهم، وحار الباحثون في محاولة اكتشاف أصولها وروافدها إلى الثقافة الإسلامية والصوفية على وجه خاص.

 يبدو أن الطريقة التي كانت يُؤدى بها السماع  في مصر هي التي كانت موضع نقد ورفض من ابن عربي ،وليس السماع في حد ذاته، إذ انه أقره في كتاباته اللاحقة على رسالة «روح القدس» كـ«الفتوحات المكية»، أما في رسالته روح القدس فقد اعتبر أن دخول العوام إلى الحضرة ومحاولة التواجد كثير ما يلفه الإدعاء، ويفتح أبواب الوسوسة الشيطانية التي تتخذ مظهر الواردات الإلهية فتزيد الصوفي خبالا وجنونا وبعدا عن حقيقة الطريقة، ثم تُحدث له شكلا من أشكال التشبع النفسي التي تنعكس في الأغلب على التقصير في الفرائض والسنن المؤكدة أو يؤديها كيفما اتفق بعدما شعر بما تملكه من إجهاد، وما يشعربه من تشبع من تأدية حق الله وعبوديته بالتراقص في الحضرات، وهو يميز في سماع الشيوخ أنفسهم بين نوعين أحدهما سماع قبل التمكين وهو يعتبره للشيخ حراما عليه، وسماع ما بعد التمكين، وبشروطه التي أقرها ومع ذلك اذا استمر الشيخ في ذلك فليعلم أنه بذنب جنته نفسه وليراجع حاله وليعلم أنه نزل من مقامه لحظ نفسه.

على الرغم من هذه الانتقادات فإن ابن عربي كان يؤدي دوره – من وجهة نظره- باعتباره صاحب الولاية الكبرى وختم الأولياء الذي وجه وشدد عليه بتصحيح مسار المتصوفة، دون النيل من الطريقة ذاتها بالرفض أو الإنكار، ولذلك نجده يصف في النهاية تلك الحالات التي استوجبت الوقوف بالنقد عندها، ويعترف بأن هذه الأجواء الموبوءة لا تخلو من وجد الصوفي الحقيقي «ومع هذا يا وليي، فهم الصَدَفُ الذي يخفي رفيع الدرر، والسياج على الروضة ذات الزهر، يدخل بينهم الصادق والصديق فيجهل، والعارف المتمكن فيترك ويهمل».

اقرأ أيضا:

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock