مختارات

بؤرة ملتهبة.. هل تُشكّل إفريقيا جبهة جديدة للإرهاب المعولم؟

طبقًا للإصدار الأخير من مؤشر الإرهاب العالمي 2019، الذي أعده معهد الاقتصاد والسلام ومقره مدينة سيدني الأسترالية، وله مكاتب إقليمية في نيويورك ولاهاي ومكسيكو سيتي وهراري وبروكسل، فقد انخفض إجمالي عدد الوفيات الناجمة عن حوادث الإرهاب في عام 2018‏ على مستوى العالم للعام الرابع على التوالي، حيث بلغت نسبة الانخفاض 15.2 %. وتشير المتابعات الأمنية إلى استمرار تراجع هجمات تنظيم «داعش» للعام الثاني على التوالي. كما انخفضت الوفيات المنسوبة إلى هذه المجموعة الإرهابية بنسبة 69 %. ومن جهة أخرى، سجلت الصومال ثاني أكبر انخفاض في عدد الوفيات للسنة الثانية على التوالي، حيث بلغ عدد الوفيات نتيجة أحداث إرهابية 824 حالة عام 2018. وربما يُعزَى ذلك إلى انخفاض هجمات حركة الشباب بنسبة 24% بعد زيادة الغارات الجوية التي تقودها الولايات المتحدة ضد هذه الجماعة الإرهابية.

توجه الإرهاب جنوباً

يقوم مؤشر الإرهاب العالمي الذي بدأ في الصدور عام 2012 بتصنيف 163 دولة في العالم طبقًا لعدد من المعايير، مثل: عدد الهجمات والوفيات والإصابات، ومدى الأضرار التي لحقت بالممتلكات. ويبدو من الواضح أن تعريف الإرهاب الذي يأخذ به المؤشر يقتصر فقط على أعمال العنف المتعمدة التي تقوم بها الجهات الفاعلة من غير الدول وليس أعمال العنف التي ترعاها الدول. وعليه، فإنه يقدم فقط نظرة محدودة لمفهوم العنف أو الحريات السياسية حول العالم. ولم يكن مستغربًا أن نجد العديد من البلدان تُصنّف بأنها أكثر أمانًا رغم كونها الأكثر قمعًا في العالم، مثل حالتي كوريا الشمالية وإريتريا.

ورغم تحسن الوضع في كثيرٍ من مناطق العالم؛ إلا أن الأمور في أجزاء أخرى من العالم تزداد سوءًا. ففي العام الماضي، سجلت أربع دول زيادة كبيرة في الوفيات الناجمة عن الإرهاب. فقد شهدت كلٌّ من مالي وموزمبيق ونيجيريا أكثر من 100 حالة وفاة إضافية. وطبقًا للتقرير، قد تمثل إفريقيا بؤرة الإرهاب الملتهبة في العالم خلال المستقبل القريب، إذ سجلت إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ثاني أكبر ‏عدد من الوفيات الناجمة عن الإرهاب بعد منطقة جنوب آسيا، متجاوزةً منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي أصبحت عام 2018 في المرتبة الثالثة. وهذه هي ‏السنة الأولى منذ بداية المؤشر الذي تظهر فيه إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في وضع أسوأ من حيث ضحايا الإرهاب مقارنة بمناطق الجوار القريب. وربما يُعزَى الدافع ‏الرئيسي لزيادة الإرهاب في المنطقة إلى ارتفاع وتيرة النشاط الإرهابي في نيجيريا. وعلى أية حال فإن من بين ‏المجموعات أو الحركات الإرهابية الـ13 التي سجلت أكثر من 100 حالة وفاة، تنشط ستة منها بشكل أساسي في إفريقيا جنوب الصحراء ‏الكبرى.‏

1- لقد سجّلت نيجيريا، التي تحتل المرتبة الثالثة في قائمة أسوأ الدول تضررًا من الإرهاب، 13% من إجمالي عدد الوفيات المرتبطة بالإرهاب على مستوى العالم في عام 2018، مع زيادة بنسبة 33% في عدد الوفيات مقارنة بالعام السابق، وهذا يترجم إلى 2040 حالة وفاة و772 إصابة ناجمة عن 562 حادثًا إرهابيًّا. وعلى الرغم من هذا الارتفاع الملحوظ، يظل إجمالي عدد الوفيات أقل بنسبة 72% عما كان عليه عام 2014. ولا تزال جماعة «بوكو حرام» بجناحيها، تتعرض لضربات موجعة من قبل القوة متعددة الجنسيات التي تقودها نيجيريا بمساعدة من الكاميرون وتشاد والنيجر. وقد أدى ذلك إلى انقسام «بوكو حرام» إلى فصيلين كبيرين، يشكل الأول ولاية غرب إفريقيا بقيادة «مصعب البرناوي»، والذي يسيطر على الأراضي المحيطة ببحيرة تشاد. أما المجموعة الثانية فهي بقيادة «أبو بكر شيكاو». ومع ذلك فقد برزت مخاطر جماعات أخرى مثل تنظيمات الفولاني المتطرفة التي أصبحت أكثر نشاطًا، وتسببت في مقتل 1158 حالة وفاة العام الماضي (مقارنة بـ589 تسببت بها جماعة «بوكو حرام»). وطبقًا لمؤشر الإرهاب، تحتل «بوكو حرام» المرتبة الرابعة بين أكثر الجماعات الإرهابية دموية في عام 2018، كما أنها لا تزال الأكثر دموية في إفريقيا جنوب الصحراء.

2- تحتل الصومال المرتبة السادسة في قائمة أسوأ الدول تضررًا من الإرهاب في العالم. وبرغم ذلك فقد كان هناك انخفاض كبير في عدد الوفيات المرتبطة بالإرهاب في الصومال العام الماضي، ويُعزَى ذلك -إلى حد كبير- إلى انخفاض بنسبة 57% في الوفيات الناجمة عن هجمات حركة «الشباب» الموالية لتنظيم «القاعدة». ونتيجة لذلك، بلغت الوفيات الناجمة عن الإرهاب في الصومال أدنى مستوى لها منذ عام 2013. بيد أن ذلك لا يعكس حقيقة الصورة المؤلمة في الصومال، حيث قُتل 646 شخصًا وأُصيب 638 في 286 حادثًا إرهابيًّا على مدار العام الماضي. إن الغالبية العظمى (91%) من تلك الوفيات نتجت عن هجمات حركة «الشباب»، التي استهدفتها القوات الأمريكية بشكل أساسي، كما أنها أيضًا تعد محور مهمة عملية حفظ السلام بقيادة الاتحاد الإفريقي. وثمة مجموعة إرهابية أخرى، هي «جبهة شرق إفريقيا» المناوئة لحركة «الشباب»، وهي مسئولة عن عدد صغير نسبيًّا من الوفيات. وربما كانت أسوأ حادثة إرهابية وقعت في العام الماضي هي الهجوم الانتحاري المزدوج الذي استهدف «فندق الصحفي» الواقع بجوار مقر دائرة المباحث الجنائية وسط العاصمة الصومالية مقديشو وأسفر عن مقتل 65 شخصًا وجرح 106 آخرين.

في عام 2018، دعمت الولايات المتحدة والاتحاد الإفريقي عمليات مكافحة الإرهاب التي يقودها الجيش الوطني الصومالي. وعلى الرغم من أن هذه الجهود قللت -إلى حدًّ كبير- من النشاط الإرهابي في الصومال، إلا أن جماعة «الشباب المجاهدين» لا تزال تحتفظ بملاذات آمنة في جميع أنحاء وسط وجنوب الصومال. وتشير البيانات الأولية لعام 2019 إلى حدوث تصاعد في أعمال العنف التي تشهدها العاصمة مقديشو.

3- لقد احتلت جمهورية الكونغو الديمقراطية قبل عام المرتبة الحادية عشرة في العالم من حيث تأثير الإرهاب، لكن تم إدراجها هذا العام بين أسوأ 10 دول، نتيجة تزايد أنشطة مجموعات إرهابية، مثل: تحالف القوات الديمقراطية، والجبهة الديمقراطية لتحرير رواندا، وميليشيات ماي ماي. في العام الماضي، وقع 135 حادثًا إرهابيًّا في هذه الدولة المضطربة الواقعة في وسط إفريقيا، مما أسفر عن مقتل 410 أشخاص وإصابة 145 آخرين. وعادة ما تميل الهجمات إلى التركيز على المنطقة القلقة في شرق البلاد، بالقرب من الحدود مع أوغندا ورواندا وبوروندي. ولعل أكثر أشكال الإرهاب شيوعًا في عام 2018 يتمثل في أخذ الرهائن والاعتداء المسلح، والتي شكلت نحو 84% من إجمالي الهجمات.

نحو محاولةٍ للتفسير

‏يقول العسكري الصيني الشهير «سن تزو» في كتابه «فن الحرب»: «إن كنت تعرف قدرات نفسك وتجهل خصمك، فسوف تعاني من هزيمة ‏ما بعد كل نصر»، ويعني ذلك أن فهم عقلية التطرف ودوافع المتطرفين يُعد مسألة حاسمة في مواجهتهم والقضاء عليهم.‏ وعليه، يمكن القول إن ثمة مجموعة من التحديات والعوامل التي تدفع بإفريقيا جنوب الصحراء لتتصدر مشهد الإرهاب العالمي:

1-تمثل كثير من الأقاليم الفرعية -مثل الساحل والقرن الإفريقي- مركبات أمنية معقدة، حيث تعاني من تحديات أمنية وبيئية وديموغرافية. كثير من البلدان في هذه المناطق تعاني من غياب المساءلة والحكم الرشيد، ويكفي أن نشير إلى أن جائزة مؤسسة «محمد إبراهيم للحكم الرشيد» قد حجبت 6 مرات من إجمالي 11 سنة هي عمر الجائزة نظرًا لعدم توافر الشروط في الزعماء المرشحين. ومن جهة أخرى، نجد أن التوسع الحضري قد طرح إشكاليات معقدة، مثل: التواصل بين الجماعات الإثنية المختلفة، والبطالة، وانعدام الأمن. وعلى سبيل المثال، تواجه منطقة الساحل أزمات على جبهات متعددة، بما في ذلك التأثير المتسارع لتغير المناخ والنمو السكاني السريع والفقر المدقع ‏والتخلف. ومع زيادة ضغط هذه التحديات، زاد التدافع الدولي على دول المنطقة، ولا سيما بوركينا وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، نظرًا لمخاطر انتشار التطرف ‏العنيف واستخدام المنطقة كطريق عبور للمهاجرين إلى أوروبا. 

2- تستغل الجماعات المتطرفة الانقسامات الموجودة داخل المجتمعات العرقية والدينية المتنافسة. على سبيل المثال، منذ الثمانينيات كان هناك صراع بين ‏الفولاني ودوسحاق الطارقية على الحدود بين مالي والنيجر، والسبب جزئيًّا في المنافسة هو الوصول إلى الموارد الطبيعية والأنشطة الإجرامية ‏مثل سرقة الماشية. ‏لقد ظل الرعاة من الفولاني يرعون ماشيتهم عبر منطقة الساحل الإفريقي في العديد من دول غرب ووسط إفريقيا، وخاصة نيجيريا، وقد تصاعدت حدة الخلافات بين الرعاة والمزارعين في الآونة الأخيرة بسبب الزيادة في عدد السكان التي ساهمت في ندرة الموارد والتصحر. كما أن قوانين الأراضي غير حاسمة، فضلًا عن غياب مفهوم سيادة القانون، ولا سيما في المناطق الريفية. وقد استغلت الجماعات الإسلامية المتطرفة -مثل جبهة تحرير ماسينا في مالي- هذه الانقسامات الأساسية وقامت بتجنيد أعضائها من أفراد مجموعة الفولاني العرقية من خلال استخدام وتوظيف الروايات الدينية العرقية.

3- احتدام حدة معارك التكالب الدولي على إفريقيا أدى إلى عولمة الظاهرة الإرهابية في إفريقيا بسبب تضارب مصالح الدول الفاعلة في القارة، لقد حاولت الدول الإفريقية الهروب من مشروطية «اتفاق واشنطن» بسياساته النيوليبرالية لتولّي وجهها شطر الشرق الحضاري الذي تقوده الصين الصاعدة من خلال تبني سياسات «إعلان بكين» التي تُعطي الأولوية للاقتصادي على السياسي في الممارسة التنموية. وها هي اليوم تجد نفسها فريسة «فخ الديون الصينية» محاولة التدثر برداء الدب الروسي الذي يسعى إلى أن يسلك طريقًا وسطًا يخالف كلًّا من واشنطن وبكين. وعلى أية حال فإن هذا التدافع له تداعيات أمنية سلبية على المجتمعات الإفريقية. ولنتذكر حالة الجنرال «تيمان أرديمي»، الذي استقبلته قطر بعد محاولة انقلاب فاشلة في تشاد بهدف استخدامه في إعادة صياغة المشهد السياسي في كل من ليبيا ومنطقة الساحل. بيد أن الدعم الفرنسي لحكومة «إدريس ديبي» وقف حائلًا دون ذلك.

وأيًّا كان الأمر فإن تناقض الاستراتيجيات الدولية في مكافحة الإرهاب قد تدفع باتجاه أن تتخذ كافة التنظيمات الإرهابية من إفريقيا ملجأ وملاذًا آمنًا. فعلى سبيل المثال، يقوم الجيش الأمريكي بتقليص قوات الكوماندوز في إفريقيا بحوالي 25%، ولا سيما في غرب القارة، وذلك لصالح استراتيجية الرئيس «ترامب» الخاصة باحتواء كلٍّ من النفوذ الروسي والصيني في المنطقة. في الوقت نفسه، تزداد حدة هجمات الجماعات المتطرفة على شمال بوركينا فاسو، ويدفعون بتنظيماتهم جنوبًا على طول الحدود مع النيجر باتجاه مناطق لم تمسّها في السابق أعمال عنف متطرفة، بما في ذلك كوت ديفوار وبنين وتوجو وغانا.

نقلا عن: مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

حمدي عبد الرحمن

أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايد والقاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock