منوعات

بعد 18 عاما من حروب الاستنزاف والأخطاء الغربية.. داعش يخلف القاعدة في أفغانستان

*بول روجرز: زميل أول في «مجموعة أكسفورد للأبحاث»، واستاذ دراسات السلام في جامعة برادفورد

*عرض وترجمة: أحمد بركات

في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى إنهاء حربها التي استمرت ثمانية عشر عاما في أفغانستان عبرالتفاوض مع حركة طالبان، تحاول هذه الدراسة الصادرة عن «مجموعة أكسفورد للأبحاث» (Oxford Research Group) مراجعة الطريقة التي استجابت بها واشنطن والتحالف الغربي التابع لها، لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، وأججت من خلالها دورة العنف التي مكّنت لظهور تنظيمات مثل القاعدة والدولة الإسلامية، وغيرهما من الحركات المتطرفة المعادية للغرب.   

كانت «مجموعة أكسفورد للأبحاث» قد نشرت في أكتوبر 2001 – أي بعد أيام من هجمات 11 سبتمبر – دراسة عن النتائج المحتملة لرد الفعل العسكري الجامح الذي يمكن أن تتخذه الولايات المتحدة. وعلى عكس معظم المحللين والمعلقين،أكدت الباحثة «وسيلا إلورثي»، أن الحرب ضد تنظيم القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان تمثل رد فعل خاطئ، وستقود على الأرجح إلى تأجيج صراع استنزافي طويل الأمد.

وقد تضمنت هذه الدراسة، ما أعتبره الباحثون مخططا مفيدا لكسر دائرة العنف التي اتسمت بها الصراعات المسلحة الأخرى، واقترحت في هذا الصدد ثلاثة مسارات، يمكن من خلالها توجيه الغضب المبرر الذي شعر به كثيرون في الولايات المتحدة بطريقة إيجابية للتعامل مع تهديدات تنظيم القاعدة. لكن، مع الأسف، لم يكن هذا هو الطريق الذي سارت فيه الأمور.

في هذا الوقت، لم يحظ هذا النهج سوى بدعم سياسي هزيل وتغطية إعلامية شحيحة حتى ألقى الرئيس  الأمريكى الأسبق جورج دبليو بوش خطابه عن حالة الاتحاد في يناير 2002. وقد استغل الرئيس هذه المناسبة لتمديد الحرب إلى “محور الشر” في العراق وإيران وكوريا الشمالية (وهي ’الدول المارقة‘، كما كان يطلق عليها في عهد الرئيس كلينتون، التي تطور أسلحة دمار شامل وتدعم الإرهاب). كان للولايات المتحدة الحق في استباق مثل هذه التهديدات، ولو بالقضاء على الأنظمة الحاكمة في هذه الدول؛ مما أدى إلى شعور عام بالقلق خاصة في دول غرب أوربا.

تنظيم الدولة الإسلامية.. بعث جديد

تمخضت تجربة الأعوام الثمانية عشر الماضية في واقع الأمر عن حروب استنزافية طويلة الأمد، وعنف أججته مشاعر الكراهية والتعطش للانتقام في الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأجزاء من أفريقيا. ويتجلى أحدث التطورات الناجمة عن هذه الحرب – فيما يبدو – فى إعادة تأسيس لتنظيم الدولة الإسلامية عبر عدد كبير من الأنشطة التي تشكل في الوقت نفسه جزءا من زيادة عامة في الحركات الإسلامية شبه العسكرية.في هذا الإطار، تهدف هذه الدراسة إلى وضع الظرف الراهن في سياق أكثر امتدادا من الناحية الزمنية، مع التركيز على تفصيل الأسباب التي أدت إلى استمرار دعم تنظيم الدولة والحركات المماثلة.

تركز الدراسات الصادرة عن هذه السلسلة ،على الأسباب التي أدت إلى تمدد تنظيم الدولة، ففي فبراير الماضي، نشرت «مجموعة أكسفورد للأبحاث» دراسة موجزة حملت عنوان Caliphate Interrupted: Towards A Stateless IS (إعاقة استمرار دولة الخلافة: نحو ’تنظيم الدولة بلا دولة‘). وتناولت هذه الدراسة تدمير ’دولة الخلافة‘ في العراق وسوريا من خلال حرب جوية مكثفة امتدت من منتصف عام 2014 إلى بداية عام 2018، وشملت 300 ألف عملية جوية، واستُخدم فيها أكثر من 100 ألف صاروخ وقنابل دقيقة التوجيه، ما أسفر عن مقتل حوالي 60 ألفا من أنصار تنظيم الدولة وعدة آلاف من المدنيين.

وفي الشهر التالى (مارس 2019)، صدرت دراسة أخرى ضمن السلسلة نفسها بعنوان After Baghouz: A Jihadi Archipelago (بعد الباغوز: الأرخبيل الجهادي). وقد عمدت هذه الدراسة إلى تحليل المراحل النهائية للحرب ضد دولة الخلافة، وبخاصة الوقت الذي سيطرت فيه قوات سوريا الديمقراطية بقيادة الأكراد على مدينة الباغوز، آخر معاقل تنظيم الدولة في شرق سوريا. وأبرزت الدراسة العدد الهائل من الوحدات شبه العسكرية التابعة لتنظيم الدولة، والتي تضم ما يقرب من 10 آلاف مقاتل، تمكن كثير منهم من تفادي الوقوع في الأسر، كما أشارت إلى استمرار نشاط تنظيم الدولة عن طريق العمل من خلال خلايا صغيرة متعددة بدلا من السيطرة المباشرة على المدن والأقاليم (دولة الخلافة). مكَن هذا تنظيم الدولة من شن هجمات متعددة في العام الماضي بلغت 3670 هجوما، منها 79% في العراق وسوريا فقط (48% في العراق، و31% في سوريا). وأشارت الدراسة أيضا إلى العمليات المرتبطة بتنظيمات تابعة لتنظيم الدولة في منطقة الساحل بالصحراء الكبرى والصومال والفلبين. وتخلص الدراسة إلى أنه برغم الاستخدام المكثف والفريد من نوعه لاستراتيجية “الحرب عن بعد” من قبل التحالف العسكري الغربي، إلا أن تنظيم الدولة تمكن بمهارة فائقة من التكيف مع البيئة المتغيرة، سواء عن طريق العودة إلى ’تكتيك‘ حرب العصابات في العراق وسوريا، أو تمديد انتشاره عبر قارتين.

وعلى مدى الشهور القليلة الماضية، استمر هذا الاتجاه الداعشي قدما، وتسارعت وتيرته، وتمكن تنظيم الدولة من إنشاء مناطق جديدة ومتميزة جغرافيا، بما يمكنه من السيطرة عليها بسهولة. على سبيل المثال، في منطقة الساحل الإفريقي، عزز تنظيم الدولة أوضاعه في عدد من الدول والولايات، وبخاصة في شمال شرق نيجيريا، حيث قام  فرع التنظيم ىفي غرب أفريقيا بدعم تنظيم بوكو حرام في بعض المناطق، وأنشأ بالفعل ما يمكن وصفه بـ ’دولة بدائية‘ وحشية ومهيمنة، لكنها ربما أكثر تنظيما وأسعد حالا قياسا على حالة الفوضى الناجمة عن ضعف الحكومة المركزية.

يبقى الأمر الأكثر أهمية هو قيام الدولة الإسلامية في أفغانستان، أو ما يطلق عليه “تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان”، بإنشاء ’خلافة بدائية‘ في ولايات ننجرهار ونورستان وكونار ولجمان. وتقع هذه الولايات في شمال شرق أفغانستان، بين كابل والحدود الباكستانية، وتمثل جبال كونار المعقل الرئيسى ومحط اهتمام التنظيم في الفترة الحالية. وعلى النقيض من حركة طالبان، التي تتسم بالمحلية، ينظر تنظيم الدولة في أفغانستان / خراسان إلى الهيمنة على عدد من الولايات باعتباره خطوة ضرورية لاستعادة نشاطه العملياتي في الخارج ضد “العدو البعيد” في الغرب.

وبرغم سقوط آلاف القتلى من صفوف تنظيم الدولة في الحرب الجوية التي شنتها قوات التحالف بقيادة واشنطن، تقدر مصادر حكومية أمريكية قوة تنظيم الدولة في العراق وسوريا وحدهما بـ 18 ألف مقاتل، وأنه يتمتع بإمكانية الوصول إلى 400 مليون دولار أمريكي  في عدد من المواقع الآمنة، فضلا عن استثمارات تتنوع بين تجارة السيارات ومزارع الأسماك وإنتاج القنب. كل هذا بطبيعة الحال بخلاف امتداداته الواسعة خارج العراق وسوريا.

تفسيرات

أكدت الدراسات التى صدرت عن «مجموعة أكسفورد للأبحاث» في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر أن الذهاب إلى الحرب ضد تنظيم القاعدة سيؤدي إلى نتائج عكسية بدرجة كبيرة ،لأن هذا – ببساطة – هو ما كان يهدف إليه التنظيم. فالتنظيمات من شاكلة تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة وغيرهما من التنظيمات الجهادية عادة ما تنظر إلى نفسها باعتبارها تجليا لما تعده الإسلام «الحقيقي»ـ وتقنع بهذه الرؤية – حد الإيمان – سائر الحركات المتطرفة، لكن فقط في السياق المُتَصور للإسلام الذي يتعرض لموجات متلاحقة من الهجمات، خاصة من قبل التحالف الصهيو صليبي، الذي تنظر إليه هذه الحركات باعتباره محور الشر الحقيقي.

تنظر القاعدة، والتجليات الأكثر حداثة لهذا التيار بوجه عام – إذن – إلى نفسها باعتبارها المدافع الحقيقي عن الإسلام، بما يعني أن مقاومة أي هجوم يشنه هذا المحور يمثل جزءا أصيلا من أهدافها الوجودية. علاوة على ذلك، تصبح هذه الرؤية أكثر فاعلية عبر التأطير للصراع من رؤية إسكاتولوجية (أخروية) باعتباره صراعا متجاوزا لهذه الحياة الدنيا. ورغم أن النصر الحاسم والكامل يمثل ضمانة إلهية لا يمكن أن تتخلف، إلا أن الطريق إليه محفوف ببعض الانتكاسات التكتيكية. ومن ثم، فإنه من الأفضل النظر إلى العمليات الانتحارية – من زاوية ما – باعتبارها تعبيرا عن العالم الإسلامي على امتداداه متمثلا في قوة وأهمية تنظيم القاعدة.

كانت الحركة تنظر إلى هذا الصراع باعتباره فصلا ثانيا في حرب طويلة الأمد نجحت بامتياز في فصلها الأول بإجلاء السوفيت عن أفغانستان. ومن شأن هجمات الحادي عشر من سبتمبر أن تغري واشنطن بالقيام برد فعل قوي، يؤدي بدوره إلى إشعال فتيل حرب طويلة الأمد في أفغانستان، تنتهي هي الأخرى بترك أثر غائر في الجسد الأمريكي على غرار ما حدث في الجسد السوفيتي الغابر. كانت قوة عظمى قد جاءت – أو جئ بها – حبوا إلى أفغانستان، وستتبعها بعد هذه الهجمات قوة أخرى بلا ريب.

لم تتحقق هذه الرؤية؛ لكن الحرب استمرت على مدى 18 عاما، وها هو الرئيس ترامب ينكب اليوم على التفاوض على الانسحاب.

اغراء «تجديد النفوذ»

بالنسبة لخلفاء تنظيم القاعدة، مثل تنظيم الدولة الإسلامية، فإن الأوضاع الراهنة تغريهم بتجديد نفوذهم وبناء نقطة انطلاق جديدة لتحقيق مزيد من الانتشار والتمدد في هذه المنطقة، حتى في الوقت الذي يزداد فيه نفوذها- إضافة إلى جماعات أخرى- في شمال أفريقيا وعلى امتداد جنوب آسيا.        

هناك عنصران آخران يدعمان بقوة هذه الرؤية المتجذرة عند هذه الحركات، حتى وإن كانت منحرفة وجامحة. يتمثل الأول في أن ردة الفعل الغربية على مدى ما يقرب من عقدين من الزمان قد ارتكزت على الاستخدام المفرط للقوة وتصفية الحسابات مع عدد من الخصوم، وهو ما أسفر عن سقوط مئات الآلاف من القتلى، وجرح المزيد، إضافة إلى تدمير عدد من الدول على رأسها أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا وأجزاء من باكستان والصومال واليمن ومالي، وغيرها. وبغض النظر عن الفشل الذي حاق بهذا النهج في الانتصار على القاعدة وتنظيم الدولة وغيرهما من الحركات المماثلة، إلا أنه ترك إرثا مروعا من الغضب والرغبة الجامحة في الانتقام. كان الصراع يمثل حربا وجودية بالنسبة إلى الغرب، لكنه كان يمثل للطرف الآخر دليلا إضافيا على تصميم الغرب على قمع النسخة الحقيقية والمستقلة للإسلام.

أما العنصر الثاني فيتمثل في توافر الفرص في كثير من مناطق النمو المحتمل أمام تنظيم الدولة، وغيره من الحركات المماثلة، لتجنيد مزيد من العناصر، خاصة من فئة الشباب، الذين ينتمون إلى جنسيات متعددة، لا سيما في ظل حالة الاستياء واليأس التي تسيطر على هؤلاء جراء تراجع فرصهم في الحياة، واستسلامهم، تحت هذه الضغوط، لوعود ترتكز إلى أسس ثيولوجية بمستقبل مغاير ليس فقط في هذه الحياة، وإنما أيضا في الحياة الأبدية. وقد أكدت العديد من البحوث التي صدرت مؤخرا على الدوافع، التي تنبعث بالأساس من تهميش حقيقي – أو على الأقل مُتصَور – حتى في المجتمعات المستقرة والمزدهرة نسبيا مثل تونس والمغرب.

إن هذه الأوضاع الضاغطة غالبا ما يُنظر إليها على أنها مظهر آخر من مظاهر الهيمنة الأجنبية – بما في ذلك السياسات الاقتصادية المدمرة، وسلوكيات بعض الشركات متعددة الجنسيات، وإغلاق أبواب الهجرة إلى الدول الأكثر ثراء – حتى لو كان ذلك كله يحظى بدعم الانظمة المحلية، التي تحصل بدورها على دعم اقتصادي ودبلوماسي وعسكري من خلال «شراكتها الاستراتيجية» مع الدول الغربية في الحرب على الإرهاب. وتمثل أفغانستان وتشاد واليمن (قبل انهيارها في عام 2015) أمثلة صارخة على ذلك.

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا ?

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock