رؤى

هل تواجه المجتمعات العربية موجة انتحارية فعلا؟

لا تزال الأنباء والتقارير الإعلامية تتواتر منذ أسابيع وبشكل شبه يومي عن حالات انتحار جديدة من تونس إلى مصر ولبنان والمغرب والعراق وغيرها من الدول العربية، إضافة لبعض دول الشرق الأوسط… ولكن يبدو أن هذا التواتر ينطوي على عدد من المفارقات التي تحتاج إلى تفسير.

المفارقة الأولى: أن هذا التواتر الإعلامي الصاخب يتناقض بشكل واضح مع أرقام ومعدلات الانتحار الصادرة عن منظمة الصحة العالمية طوال السنوات الأخيرة، والتي كان آخرها التقرير العالمي بعنوان «منع الانتحار.. ضرورةعالمية» (2014). 

وهو التقرير الذي أكد أن «معدلات الانتحار التقديرية في إقليم شرق المتوسط (الذى يضم 17 دولة عربية من 22 دولة) تبدو عموما أقل بكثير من الأقاليم الأخرى».

أما المفارقة الثانية: فهي أن معظم وسائل الإعلام العربية اعتادت أن تعتمد الأرقام المطلقة لأعداد المنتحرين في تغطياتها وتقاريرها، وهى أرقام تتأثر بطبيعة الحال بعدد سكان كل دولة، وعلى هذا يصبح الترتيب الشائع للإنتحار العربي هو: مصر، السودان، اليمن، الجزائر، العراق، السعودية، مع تجاهل تام من قبل وسائل الإعلام العربية للمؤشر العلمي الدقيق والمعتمد في تقرير الصحة العالمية ذاته والذي ينسب الأرقام المطلقة لعدد السكان، حيث  جاء الترتيب من الأعلى حتى الأقل لكل 100 ألف شخص كالتالي: في المرتبة الأولى السودان: 17.2، ثم المغرب: 5.3، قطر:4.6، اليمن 3.7، الإمارات: 3.2، موريتانيا: 2.9، تونس: 2.4، الأردن:2، الجزائر: 1.9، ليبيا: 1.8، مصر:1.7، العراق:1.7، عمان:1، لبنان 0.9، سوريا:0.4،وأخيرا تأتي السعودية في الترتيب الأخير بمعدل 0.4 لكل 100 ألف شخص.

المفارقة الثالثة: أنه، وسواء كان الاستخدام الخاطئ للأرقام غير مقصود من قبل مؤسسات إعلامية مستقلة، أو كان مقصودا من قبل بعض وسائل الإعلام المعارضة، فإن «تسييس» الأخبار والتقارير عن حالات الانتحار، قد طال الإعلام الرسمي في غير دولة عربية أيضا بهدف إعطاء انطباع بوجود ظاهرة انتحار في دول عربية وإقليمية منافسة أو في حالة عداء على مستوى الإقليم و كذلك بعدف التغطية على الانطباع بتصاعدها في الدولة المعنية، وهو الأمر الذي ساهم في زيادة الضباب الكثيف المحيط بالأنباء والتقارير الإعلامية حول الظاهرة وإلى أى مدى تعبر عن الحجم الحقيقي لوجودها في واقع المجتمعات العربية ومجتمعات الإقليم خاصة تركيا وإيران.  

المفارقة الرابعة: على الرغم من بيانات منظمة الصحة العالمية التي تضع الشرق الأوسط في مرتبة متأخرة للانتحار مقارنة بأقاليم العالم الأخرى، وعلى الرغم من التفسير التقليدي الذي عبر عنه علاء الدين العلوان المدير الإقليمى لشرق المتوسط للمنظمة، من أن «الدين يلعب دوراً في تقليل الانتحار في المنطقة العربية»، على الرغم من ذلك كله فإن العديد من علماء الاجتماع والأطباء النفسيين العرب، معتمدين على الخبرة والملاحظة اليومية المباشرة، يؤكدون وجود اتجاه ملحوظ لارتفاع مؤشرات الاضطراب الاجتماعي والنفسي التي هى المقدمة الطبيعية لزيادة معدلات الانتحار.

المصدر: منظمة الصحة العالمية

تراجع منظومة القيم القديمة

ويمكن تفسير هذه المفارقة بالتشكيك في أرقام ومعدلات تقرير منظمة الصحة العالمية ذاته، فبالتدقيق في تفاصيله يتضح أنه على الرغم من صدوره عام 2014 إلا أن بياناته عبارة عن مقارنة بين إحصائين عالميين جرى تجميعهما عامي 2000 و 2012، أى قبل سبع سنوات كاملة على الأقل من الآن، وهى فترة كافية لحدوث تغير بل تحول محتمل في معدلات الانتحار. ويمكن التفكير أيضا في افتراض آخر مؤداه أن «منظومة القيم التقليدية» القديمة التي كانت تقلل من الإقدام على الانتحار لم تعد تعمل بذات الفاعلية السابقة، خاصة في ظل مرحلة تشهد ضغوطا حادة وغير مسبوقة على كافة الشرائح الاجتماعية خاصة الفقيرة والمتوسطة ولم تعد قاصرة على الشباب الذي يعاني البطالة فقط، لكنها طالت مختلف الفئات العمرية، وصولا إلى أرباب المعاشات. أما المبرر الثالث للتشكيك في مصداقية التقرير في التعبير عن الحالة الراهنة للانتحار في المجتمعات العربية، فهو مبرر منهجي يتعلق بمنهجية جمع البيانات والتي عادة ما تعتمد على البيانات الوطنية التي ترسل من الدول ذاتها، وهى عادة بيانات غير دقيقة وغير منظمة والأهم أنها غير شاملة. إذ أن أقصى ما يمكن أن تضعه في اعتبارها هو الحالات المبلغ عنها، والمسجلة في محاضر رسمية بأقسام الشرطة، في مجتمعات اعتادت إنكار حدوث حالات الانتحار،  حيث يتعامل الأهالي معها في كثير من الأحيان – كوفاة عادية ما يمنع وصولها للتسجيل في محاضر الشرطة.

والخلاصة أن معدلات الانتحار العربي ربما لاتزال أقل من أقاليم أخرى، لكن زيادة ملموسة تم رصدها من قبل الخبراء والممارسين لا بد وأنها حدثت خلال السنوات الأخيرة.

يقدم التضارب والغموض حول أرقام ومعدلات الانتحار في العالم العربي حالة كاشفة لعشوائية المعلومات والبيانات، وافتقارها للدقة والشمول والانضباط الإحصائي، وهى الشروط اللازمة لأى تخطيط ناجح للتعامل مع كافة مشكلاتنا الاجتماعية وليس ظاهرة الانتحار فقط. 

 لكن يبقى أن ظهور ميل واضح لدى قطاعات معتبرة من الرأى العام العربي لتصديق هذه الأرقام والمعدلات غير الدقيقة والمبالغ فيها أحيانا في وسائل الإعلام – وهو ما ظهرت خلال التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي – يكشف في حد ذاته عن حالة من التشاؤم تجاه الواقع والمستقبل الاجتماعي الاقتصادي والسياسي لمجتمعات المنطقة.  

فؤاد السعيد

كاتب وباحث مصري متخصص في الثقافة السياسية felsaid58@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock