فن

المنتصر بالله.. ضحكة مجلجلة لا تنتهي

بقيت التركيبة الشكلية للممثل الكوميدي المنتصر بالله حميمة ومبهجة بذاتها على الدوام، والمعنى أن شكله وحده ظل يساعده على إيصال الكوميديا ببساطة ويسر؛ فهو رَبْعَةٌ بكرش صغير، أصلع الرأس، خفيف الحركة، بعينيه حول ظاهر، واختياراته في ملابسه شيقة ومدهشة.. هذا بجانب موهبته العظيمة، وجوده في الأعمال الفنية كفيل بجذب الجمهور لضمان الاستمتاع والسرور بمجرد إطلالته اللطيفة الآسرة، هو نغمة منفردة في تاريخ الكوميديا بمصر، منذ عهد الريحاني وفرقته إلى جيل هنيدي ورفاقه، وليس الخلود في دائرة الكوميديا بالذات شأنا بسيطا في مصر؛ لوفرة العباقرة على مدى هذا الخط الحافل الحاشد، لكن موهبة المنتصر بالله، مع هيئته المشار إليها من البداية، أهلتاه  للانفراد بمكان عال في فن الإضحاك الصعب، و قد صدقته الجماهير  بضحكات لا تنتهي جلجلتها البتة..

علامة كوميدية

«المنتصر بالله رياض عبد السيد».. مواليد 21 فبراير 1950، حاصل على بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1969، ثم ماجستير في الفنون المسرحية 1977، بدأ العمل مع فرقة ثلاثي أضواء المسرح عام 1970، ومنها انطلق متنوعا في الفن، وتعددت شخصياته في المسرح والسينما والتليفزيون، وبرزت طاقته الهائلة للنقاد والمتابعين، وصار مع الوقت علامة من علامات الكوميديا المصرية، ونؤكد على أن الأمر يعني حضورا مدهشا ندر أن يناله إلا الموهوبون الحقيقيون المخلصون، ومعاناة شديدة يصعب تحملها، والتزاما كبيرا ليس من السهل الوفاء به.

أعماله المسرحية: استجواب، حضرات السادة العيال، عائلة سعيدة جدا، شارع محمد علي، علشان خاطر عيونك، مطلوب على وجه السرعة، العالمة باشا.

مسلسلاته: الدنيا لما تلف، عيون، ماكو فكة، آن الأوان، الشراغيش، أرابيسك، أيام المنيرة، أبناء ولكن، الصحيح ما يطيح، لن أمشي طريق الأمس، شارع المواردي، حقا إنها عائلة سعيدة جدا، راجل وست ستات، اجري اجري، حكايات بناتي، أنا وانت وبابا في المشمش.

أفلامه: تجيبها كده تجيلها كده هي كده، أسوار المدابغ، التحدي، الحدق يفهم، الزمن الصعب، الشيطانة التي أحبتني، الطيب أفندي، الفضيحة، المعلمة سماح، المغنواتي، المواطن مصري، حارة الجوهري، حنحب ونقب، شفاه غليظة، ضد الحكومة، فقراء ولكن سعداء، محامي تحت التمرين، ممنوع للطلبة، نأسف لهذا الخطأ، ناس هايصة وناس لايصة، ياما انت كريم يا رب، يا تحب يا تقب.

كنيته في الوسط الفني «أبو البنات»؛ فهو لم ينجب سوى ثلاث بنات من زوجته الفنانة «عزيزة كساب»، وبالمناسبة هي كانت اعتزلت الفن بمجرد اختياره لها، معولة عليه في الحياة ومكتفية بنجاحه الفني المدوي.

 فى أعقاب ثورة يناير، آذاه بشدة أن يشار إليه بصفته «مضحك الرئيس مبارك»؛ وقد نفى الأمر المهين بالجملة والتفصيل، لم ينف علاقته بالرئيس الذي خلعته الثورة، ولا كونه كان يشاركه  فى بعض المناسبات الخاصة في قصره، ومنها عيد ميلاده، كغيره من الضيوف وكلهم شخصيات معتبرة بالطبع، ولا مرافقته في تجواله مرتين، واحدة إلى توشكى بالجنوب والثانية رحلة صغيرة إلى مدينة الإنتاج الإعلامي داخل القاهرة، لم ينف شيئا من ذلك، لكنه نفى المزحة الثقيلة نفسها، والتي تليق بعصور سحيقة لا العصر الحاضر بالبداهة!

حكايته مع المرض

يعد مرض المنتصر بالله فارقا بمسيرته الفنية، ولولاه لطالت قائمة أعماله ولامتد مشواره الفني امتدادا يليق بوهجه الفريد؛ مرضه كان جلطة دماغية أفضت إلى شلل ما، ومفهوم هكذا حجم ما سببه له من التعطل والتأخير، غير أنه مقاوم عظيم بالرغم من التعب الشديد والتغيرات التي طرأت على ملامحه؛ فلا يكف عن التواجد في المناسبات الاجتماعية كالأعراس والجنازات، ولا الفنية كالمعارض ومواقع تصوير الأعمال الجديدة للتهنئة والندوات المتخصصة للتفاعل..

في ديسمبر 2007 اكتشف إصابته بالمرض، وصحيح تمت السيطرة عليه، لكن بقيت الآثار البدنية السلبية واضحة عليه حتى الساعة، بخلاف الآثار المعنوية التي لا تقل خطورة بل تزيد، وأبرزها شعوره بالخذلان؛ إذ قلَّ السائلون عنه وندر أن يواسي وحدته العميقة بإخلاص واحد من زملاء العمر الممتلئ بالأحداث والذكريات، ومن المحبطات أيضا فقدان أكثر ما جمعه من المال على الرحلة العلاجية المكلفة المرهقة، وأخيرا الشائعات المتتالية التي تلاحقه وتلاحق أسرته برحيله، وهي من أقسى ما يواجهه الكوميديان القدير منذ مرضه.

يمكث في بيته أكثر الأوقات، لاهيا مع أحفاده الصغار الذين صاروا عزاءه الوحيد الباقي، برفقة بناته وزوجته الوفية.. وبالرغم من عتابه على معظم المنتمين إلى الوسط الفني، إلا أنه لا يزال يعتز بزميله الكبير الراحل أحمد زكي ويؤكد أنه كان من أحرص الناس على زيارته عموما ولو عاش لمرضه لشاركه آلامه، وبزميلته المبدعة شريهان، متذكرا دفاعها المستميت عن وجوده في مسرحيتها «شارع محمد علي»، بعد أن علمت أن آخرين يريدون استبعاده منها.

حالة المنتصر بالله، وهو النجم اللامع في سماء الفن والقريب من أفئدة الناس وأحد المعدودين الذين ألانوا الحجر بفكاهتهم الألمعية النفاذة، تشير من جديد إلى عجز الجميع عن تقديم الدعم المناسب للمبدعين الكبار الذين يسقطون في الطريق، يسقطون بالمرض أو الإهمال المهين المفضي إلى الإحباط القاتل أو بالإفلاس مع انعدام فرص العمل.. فالدائرة الخطرة شديدة الاتساع.. والفنانون بالذات أكثر حساسية أمام الصدمات المفجعة من غيرهم بحكم الرهافة لا الهشاشة. حالته تؤكد مجددا أن النقابات نفسها، بصيتها العالي، عاجزة عن أن تصنع شيئا ذا قيمة للأبناء الذين كانوا السبب في وجودها وأنالوها مجدها..

ليس ما يجري للناس من الأزمات الشخصية بعار على الإطلاق، بل في ميزان حسناتهم كما لا ننفك نقول ببلادنا، إنما العار الفعلي أن نترك المأزومين في سعير الأزمات، سيما إذا كانوا أذاقونا بهجة لا تنتهى، كما فعل المنتصر بالله (أطال الله بقاءه).

عبد الرحيم طايع

شاعر وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock