مختارات

تمدد إرهابي.. الساحل الأفريقي.. تعثر فرنسي وصعود روسي

من الملاحظ أن الجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيم «القاعدة» مثل مجموعة «نُصرة الإسلام والمسلمين»، وتلك الموالية لتنظيم «داعش» مثل «الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى»؛ قامت بتوسيع وتصعيد هجماتها على القوات الدولية والساحلية، بما في ذلك بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، وهي المسئولة عن تنفيذ اتفاق السلام بالجزائر ودعم جهود الاستقرار التي تبذلها سلطات دولة مالي في وسط البلاد. كما أن الأنواع المختلفة من التجارة غير المشروعة -ولا سيما تهريب المخدرات والأسلحة، والاتجار بالبشر- والتوترات بين المجتمعات المحلية وعواقب تغير المناخ على الوصول إلى الموارد، تمثل جميعها عوامل مُفضية لا محالة إلى زعزعة الاستقرار والأمن الإنساني بمفهومه الواسع في المنطقة. وعليه فقد أضحى الوجود الفرنسي في الساحل يمثل بحد ذاته معضلة يصعب التعامل معها في ضوء تحولات ‏الظاهرة الإرهابية في الإقليم من جهة، وتباين المقاربات الدولية والإقليمية الخاصة بمحاربة الإرهاب من جهة أخرى.

جغرافيا الإرهاب

في يناير 2013، أطلقت فرنسا عملية «سيرفال» في مالي لمواجهة الجماعات الإرهابية المتطرفة التي كادت أن تطيح بالحكومة في باماكو. وفي أغسطس 2014، تم تحويل «سيرفال» إلى عملية «برخان» التي تضم حوالي 4500 جندي في منطقة الساحل بميزانية تبلغ حوالي 797 مليون دولار في السنة. وهناك ثلاث قواعد رئيسية للوجود العسكري الفرنسي في المنطقة: مركز القيادة في نجامينا (تشاد)، ومركزان آخران في غاو (مالي) ونيامي (النيجر). بيد أنه خلال السنوات الثلاث الماضية، لم تستطع فرنسا من خلال وجودها العسكري أو من خلال القوة المشتركة لدول الساحل الخمسة، التي تعاني من سوء الإعداد والتجهيز وقلة التمويل وغياب العقيدة القتالية، الصمود أمام الجماعات الإرهابية التي نجحت في تنظيم صفوفها والتنسيق فيما بينها على الصعيد العملياتي، وعلى صعيد خلق حواضن اجتماعية بين السكان المحليين.

لقد ظهرت مجموعات إرهابية جديدة استخدمت تكتيكات مختلفة، حيث قامت بالتوسع جنوبًا وغربًا لتشمل وسط مالي وبوركينافاسو والنيجر. وعلى وجه الخصوص، أصبحت منطقة ليبتاكو غورما -وهي شريط حدودي يمتد عبر جميع الدول الثلاث- تمثل مركز عمليات التمرد ومكافحة الإرهاب في المنطقة. وقد شهد هذا المكان هجمات إرهابية منذ سبتمبر 2019 أدت إلى مقتل ما يقرب من مائة جندي من مالي. كما أنها شهدت مقتل ما يربو على سبعين جنديًّا من النيجر يوم 12 ديسمبر 2019 في كارثة هي الأسوأ من نوعها في تاريخ النيجر. ولا شك أن الأنشطة غير المشروعة -مثل: تجارة الأسلحة والمخدرات، والتهريب، وسرقة الماشية، والاستغلال غير القانوني للمعادن، والصيد غير المشروع للحيوانات- تمثل شريان بقاء الجماعات المتطرفة في مناطق الصحراء الشاسعة، ولا سيما على جانبي الحدود. 

المأزق الفرنسي

على الرغم من إنشاء القوات المشتركة لدول الساحل، ووجود أكثر من 14000 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، بالإضافة للقوات الفرنسية، فقد شهد عام 2019 تصعيدًا خطيرًا من قبل الجماعات الجهادية المتطرفة في مالي وبلدان أخرى في المنطقة، بما في ذلك النيجر وبوركينافاسو. ففي نوفمبر 2019، لقي 13 جنديًّا فرنسيًّا حتفهم في مالي عندما اصطدمت طائرتان عموديتان خلال عملية ضد الجهاديين هناك. هذا الوضع الذي يمثل معضلة أمنية بالغة التعقيد يدفع فرنسا باتجاه مستنقع الإرهاب المتنامي في الساحل الإفريقي. إن رحيلها في ظل توسع بؤرة الإرهاب لتشمل منطقة بحيرة تشاد والاتجاه غربًا حتى الوصول إلى ساحل غرب إفريقيا، سوف يضر بصورتها الدولية ويُظهرها بمظهر العاجز عن هزيمة قوى الإرهاب في الساحل. ومن جهة أخرى، سوف يُعزز ذلك العجز من كره السكان المحليين الذين سئموا الوجود الأجنبي في المنطقة. وعليه فقد بدأ الساحل يتحول بالفعل إلى فخٍّ لفرنسا. 

وعلى الرغم من أن فرنسا تظل الدولة الغربية الوحيدة التي لها وجود عسكري كبير في الساحل، كما قامت ‏في عام 2017 بتأسيس مبادرة تحالف الساحل؛ إلا أن علاقتها بمستعمراتها الإفريقية السابقة قد ازدادت توترًا ‏في العام المنصرم. وقد أدى هذا إلى زيادة واضحة في المشاعر المعادية للوجود الفرنسي. وقد دفعت تلك المعضلة ‏الرئيس «ماكرون» إلى مطالبة زعماء دول الساحل الخمس بالتصدي لهذه المشاعر العدائية إذا كانوا ‏يريدون أن تواصل فرنسا عملياتها العسكرية ضد الإرهاب. يقول «ماكرون»: «لا يمكنني أن أحتفظ -ولا أريد أن أحتفظ- ‏بقوات على الأرض في الساحل في الوقت الذي يلتبس فيه موقف السلطات المحلية من الحركات ‏المعادية لفرنسا، وأحيانًا توجد انتقادات من الوزراء والسياسيين». ‏أمام هذه المعضلة لا يستبعد الرئيس الفرنسي أي سيناريو مستقبلي يتعلق بوجود بلاده العسكري في الساحل. لكن يظل السيناريو الأكثر ملاءمة هو الاستفادة من دعم الحلفاء الأوروبيين في مواجهة الجماعات الإرهابية. بيد أن بعض الحلفاء مثل ألمانيا لا يرغبون في مد يد العون بينما يظلون في المقعد الخلفي للقيادة في مواجهة الإرهاب في الساحل. وعليه، لم يتبقّ سوى ‏ملاذ واحد أمام الرئيس «ماكرون» وهو اللجوء إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)‏‎.‎

دبلوماسية «الكلاشنكوف» الروسية

في ظل العجز الفرنسي والغربي المتعلق باحتواء بؤر التطرف والإرهاب في الساحل وغرب إفريقيا، تتجه الأنظار إلى البديل الروسي، ولا سيما بعد الدور البارز الذي قامت به موسكو في الأزمة السورية. ثمة حملات من قبل منظمات المجتمع المدني تطالب بالتدخل الروسي لمقاومة الإرهابيين في الساحل. في 18 أبريل 2019، حضر السفير الروسي في مالي «أليكسي دوليان»، اجتماعًا في ‏العاصمة المالية باماكو لحزب مجموعة الوطنيين الماليين، وهو حزب سياسي مؤيد بشكل صريح ‏لروسيا.‏ كما تشهد باماكو مظاهرات وحملات شعبية لتوقيع عرائض مطالبة بالتدخل الروسي. ويبدو أن التوجه نحو روسيا انتقل إلى المستوى الرسمي في دول الساحل، حيث وقّعت باماكو اتفاقًا للتعاون العسكري مع روسيا في يونيو 2019. وفي المقابل، تحاول روسيا جاهدة تقديم بديل «متوازن» للهيمنة الفرنسية في «منطقة النفوذ» الفرانكفونية من خلال إبراز قدرتها في مجال محاربة الإرهاب. والملاحظ أن موسكو نجحت مؤخرًا في إنشاء «محور نفوذ إفريقي» يربط بين ساحلي المحيط الأطلسي والبحر الأحمر عبر جمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية إفريقيا الوسطى والسودان.

ولا شك أن استمرار الأوضاع في الخروج عن نطاق السيطرة في منطقة الساحل، مع زيادة عدد البؤر الإرهابية، دفع دول الساحل نحو السعي للحصول على خدمات موسكو الأمنية. ويطلق على النهج الروسي في التغلب على تهديدات الحرب الهجينة اسم «دبلوماسية الكلاشنكوف»، وهي تتعلق في الحالة الإفريقية ببيع المعدات العسكرية، وإرسال المستشارين في مجال الأمن، وتوظيف أفراد من شركات الأمن الخاصة «المرتزقة»، والتي أثبتت نجاعتها في جمهورية إفريقيا الوسطى. ووفقًا لتصريحات الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» أثناء القمة الروسية الإفريقية في سوتشي، فإن إفريقيا عمومًا تحتاج إلى دعم من روسيا في مختلف المجالات، كما أنها مستعدة لتزويد بلدان الساحل ‏بالمساعدة في مكافحة الإرهاب. ويسود اعتقاد جازم في دول الساحل اليوم بأن موسكو لديها خبرة كبيرة في هذا المجال‎.‎ وعلى سبيل المثال، فإن 90% من الأسلحة والمعدات العسكرية التي يستخدمها الجيش التشادي تأتي من ‏روسيا . وفي هذا السياق، أصبحت إفريقيا ذات أهمية استراتيجية بالغة في سياسة روسيا الخارجية لعاملين أساسيين على الأقل: من أجل الفوائد الاقتصادية الناجمة عن ‏ثروتها المعدنية، ولتزويد روسيا بسوق لتصدير الأسلحة والمساعدات العسكرية، وغالبًا ما يتم دمج هذين ‏العاملين في مقاربة السلاح مقابل الموارد.

هل يصبح الساحل معضلة عالمية؟

على المستوى الاستراتيجي أشارت القمة الاحتفالية بمناسبة ذكرى 70 عامًا على تأسيس حلف الناتو في ‏واتفورد، بالقرب من لندن، إلى صعود الصين باعتباره تحديًا، وكذلك إلى «التهديد» الذي تمثله «الأعمال ‏العدوانية» من جانب روسيا. ويعني ذلك أن تجاهل الناتو لمنطقة الساحل سوف يفتح الباب على مصراعيه أمام ‏تنامي النفوذ الروسي في المنطقة، الأمر الذي من شأنه أن يدفع دول الناتو إلى الوقوع في براثن فخ استراتيجي مخيف. و‏سوف يحاول الروس -كما بينّا- ترسيخ أقدامهم في الساحل حتى يصلوا إلى سواحل غرب إفريقيا، ومن ثم المحيط ‏الأطلسي للقارة. ‏وفي ظل الخطط الأمريكية المتعلقة بخفض الوجود العسكري في إفريقيا بنسبة 10% وإمكانيات إعادة تقييم فرنسا لوجودها العسكري في الساحل، ربما يحدث فراغ في القوة، وهو ما يُعطي القوى الصاعدة الأخرى فرصة للتدخل. وبالفعل تشارك روسيا في التعاون الأمني مع ‏‏19 دولة في إفريقيا. ويشمل ذلك جمهورية إفريقيا الوسطى والكاميرون وتشاد ونيجيريا والنيجر ورواندا ‏وغامبيا وغانا وإثيوبيا وغيرها. وليس هناك شك في أن بعض دوافع موسكو في حركتها الإفريقية يتعلق اليوم برغبة «بوتين» في إحياء مكانة بلاده كقوة ‏عظمى‎.‎ إنها على ما يبدو ملامح حرب باردة جديدة قيد التشكل في جبهة الساحل الإفريقي بالغة التعقيد والتشابك. 

حمدي عبد الرحمن

أستاذ العلوم السياسية بجامعة زايد والقاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock