رؤى

قراءة في أسباب ومستقبل الظاهرة.. صعود الجماعات المسلحة في العالم العربي (1)

   شكل الصعود اللافت للجماعات الإرهابية المسلحة التي تتستر بشعارات الدين، أحد التداعيات التي رافقت  رياح التغيير أو ما سمى الربيع العربي الذي اندلعت شرارته في تونس في أواخر عام 2010، لكن ذلك كان أيضا – وفق ما يتفق كثير من دارسي العلوم السياسية- أحد تجليات أزمة الدولة الوطنية العربية وفشل مؤسساتها في الاستجابة لاستحقاقات اجتماعية وسياسية ملحة، ومن ثم خرج الناس احتجاجا عليها. وقد بدا جليا حال الضعف والتصدع الذي وصلت اليه هذه المؤسسات، وهو ما تمثل في حالة الفراغ والاضطراب التي خلفتها ارتدادت رياح التغيير التي ضربت بعنف عددا من البلدان العربية، وهو ما استغلته تلك الجماعات المتطرفة للصعود والتمدد.

   خصوم الربيع العربي يحمّلونه المسؤولية الكبرى عن ظهور الجماعات الإرهابية المسلحة، وما باتت تشكله من خطر وجودي على الدول والمجتمعات العربية، إلا أن ربط بروز هذه الجماعات باندلاع الانتفاضات الشعبية في العالم العربي، يبدو – في رأينا – افتئاتا على الحقيقة التاريخية التي تقول إن نشأة ما يسمى في العلوم السياسية بـ «الفاعلون المسلحون من غير الدول» كظاهرة عالمية، كان أمرا سابقا زمنيا بكثير على أحداث الربيع العربي. فقد برزت تلك الظاهرة بشكل ملفت في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، نتيجة ما جرى من حروب وصراعات دخل عدد من الدول ولاسيما عقب انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي ومكوناته.

ربما يكون من المنصف الاقرار بأن انتفاضات الربيع العربي وما أحدثته من زعزعة لأركان الأنظمة السياسية القائمة وما تلا ذلك من مرحلة فراغ واضطراب سياسي وأمني، رافقها وأعقبها صعود لافت في عدد الجماعات المتشددة التي رفعت السلاح في وجه خصومها في الوطن، سواء كانوا في السلطة، أو الشركاء الاخرين من خارج السلطة، مستغلة حالة عدم الاستقرار والفوضى الأمنية والسياسية.

   وقد تمثل ذلك في ظهور وتوالد العديد من التنظميات المتطرفة مثل فروع تنظيم القاعدة، ثم تنظيم داعش ومن هم على شاكلته من جماعات موالية له أو منبثقة عنه في أكثر من قطر عربي. فعلى سبيل المثال أشار تقرير لمؤسسة راند البحثية الأمريكية صدر عام 2014، إلى أن تنظيمات السلفية الجهادية في العالم العربي زادت بين عامي 2010 و2013 بنسبة 58 في المائة، وقد اقترن ذلك في جانب منه بتفكك أجهزة الدولة ومؤسساتها  كما حدث في ليبيا وسوريا واليمن، والعراق قبل ذلك.  

    وقد خلقت حالة الفراغ الأمني والاضطراب السياسي التي خلفها تصدع الأنظمة السياسية أو سقوطها وانهيار أجهزة الدولة وعجزها عن فرض سيطرتها على اقليمها وتأمين حدودها، وتحول الانتفاضات الشعبية إلى في بعض هذه البلدان إلى احتراب أهلي مسلح، وضعا مثاليا لتمدد وبروز نشاط ودور تلك الجماعات المسلحة بشكل لافت. وقد تعزز هذا الدور بشكل كبير مع انخراط بعض هذه الجماعات والتنظيمات في الحروب الاهلية الداخلية التي شهدتها تلك الدول، مثلما أشرنا آنفا، وهو ما ساهم في تعقيد الامور وجعل التوصل لتسوية للأزمات فيها مسألة بالغة الصعوبة. وزاد من تعقيد الأوضاع ارتباط بعض تلك الجماعات بعلاقات خارجية، بحيث أصبح بعضها مجرد أدوات في يد بعض الأطراف الاقليمية والدولية التي تقوم بتوظيفها وفقا  لأجندة مصالحها.

   وقد تحولت هذه الجماعات، ليس فقط عقبة أمام أي تحول ديمقراطي منشود في البلدان العربية، التي شهدت انتفاضات شعبية مطالبة بالحرية والديمقراطية، بل إنها صارت خطرا على وجود الدولة الوطنية نفسها. فقد سعت تلك الجماعات المسلحة، ليس إلى إصلاح وإعادة بناء الدولة الوطنية على أسس جديدة تلبي مطالب الجماهير التي خرجت تنشد التغيير، بل لكي تحل محل الدولة نفسها، أو لاقامة كيانات موازية للدولة على جزء من أراضيها والاستقلال بمواردها وسكانها. مثلما حدث في قيام تنظيم الدولة الاسلاميية في العراق والشام (داعش)، والذي نجح اقامة ما اطلق عليه دولة الخلافة على أجراء كبيرة من الاراضي العراقية والسورية. كما حاولت جماعات متشددة أخرى موالية لداعش، تكرار السيناريو ذاته في ليبيا (سرت)، وحتى في مصر (ولاية سيناء).

في ورقة بحثية مهمة نشرت قبل عدة أشهرضمن سلسلة كراسات استراتيجية، والتي يصدرها مركز الأهرام للدارسات السياسية والاستراتيجية قدّم الدكتور حسنين توفيق إبراهيم أستاذ العلوم السياسية بجامعتي القاهرة وزايد، مجموعة من الأسباب والعوامل التي أدت لتزايد عدد الفاعلين المسلحين من غير الدول وتصاعد تأثيرهم في العالم العربي في مرحلة ما بعد الربيع العربي، كما يستعرض الدكتور حسنين في ورقته التي جاءت تحت عنوان «الفاعلون المسلحون من غير الدول في العالم العربي.. تحديات راهنة وآفاق مستقبلية» طبيعة المخاطر والتهديدات التي يمثلها هولاء الفاعلون المسلحون على الأمن الوطني والاقليمي والدولي، والاستراتيجيات المتبعة في العالم العربي للتعامل مع هذه الظاهرة، والافاق المستقبلية لها في ضوء مستقبل الدولة الوطنية في العالم العربي.

د. حسنين توفيق إبراهيم

خمس جماعات

  يقسم الدكتور حسنين توفيق التنظيمات والجماعات المسلحة الأكثر تأثيرا في العالم العربي في مرحلة ما بعد الربيع العربي إلى خمس مجموعات:

1- التنظيمات الهجينة: وهي تنظيمات متعددة الهويات والأدوار ويمثل كل من حزب الله  في لبنان وحركة حماس في فلسطين وحركة أنصار الله (الحوثيون) في اليمن حالات نموذجية لها – كما يرى الدكتور توفيق، فحزب الله الذي تأسس في اوائل الثمانيات من القرن الماضي، هو حزب سياسي وهو جزء من النظام السياسي اللبناني، وفي الوقت ذاته فان الحزب يصنف نفسه باعتباره حركة مقاومة مسلحة ضد الاحتلال الاسرائيلي  ويمتلك قدرات عسكرية كبيرة، كما أن له سياسة خارجية مستقلة إلى حد بعيد عن السياسة الخارجية للدولة اللبنانية. أما حركة حماس، فهي حزب سياسي على الساحة الفلسطينية وحركة مقاومة لها جناحها العسكري الذي يخوض نضالا مسلحا ضد الاحتلال الاسرائيلي، كما أن لها اجهزتها الادارية والتنفيذية التي تعتمد عليها في حكم غزة. أي انها سلطة موازية للسلطة الوطنية الفلسطينية. أما الحوثييون أو حركة انصار الله في اليمن، فهي جماعة دينية وحركة سياسية وتنظيم مسلح، حيث خاضت العديد من الحروب  ضد نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وفي اعقاب خروج صالح من الحكم شاركت في الحوار الوطني اليمني، ثم انقلبت على مخرجاته، وصولا إلى سيطرتها على العاصمة صنعاء عام 2014.

2- التنظيمات السلفية الجهادية: وتعد هذه التنظيمات- كما يقول الدكتور حسنين توفيق – من أبزز الفاعلين المسلحين  من غير الدول، في العالم العربي، وهي تنقسم إلى نوعين.. تنظيمات ذات طابع محلي وهي تلك التي تمارس أنشطتها داخل حدود الدول التي تنشأ فيها، حتى وإن كان لبعضها ارتباطات بتنظيمات أخرى خارج الحدود، مثل تنظيم بيت المقدس، جماعة اجناد مصر، وحركة العقاب الثوري، وحركة حسم التابعة للاخوان المسلمين، وفي سوريا هناك جبهة النصرة، وجبهة فتح الشام، هيئة تحرير الشام، وغيرها من التنظيمات الجهادية المحلية. أما النوع الثاني فهو النتنظيمات الجهادية العابرة للحدود وهي تنظيمات لها فروع وخلايا في العديد من دول العالم وتتسم انشطتها بطابع دولي. ويأتي في مقدمتها تنظيما القاعدة وداعش سواء على مستوى تنوع جنسيات المنتسبين اليهما، او تعدد الفروع والخلايا، أو اتساع النطاق الجغرافي لعمليات التنظيمين. ورغم أن تنظيم القاعدة هوي التنظيم الام الذي خرج من رحمه تنظيم داعش، الا ان الاخير اصبح التنظيم الأكثر تأثيرا على المستوى العالمي.

3-الكتائب المسلحة والقوات شبه العسكريةوفي هذا الصدد تمثل ليبيا وسوريا حالتين نموذجيتين لانتشار الكتائب المسلحة والقوات شبه العسكرية، ففي اعقاب سقوط نظام العقيد القذافي وتفكك أجهزة الدولة وخاصة الجيش  والمؤسسات الأمنية، سقطت مساحات واسعة من اراضي ليبيبا تحت سيطرة العديد من التنظيمات والميلشييات المسلحة، سواء التنظيمات السلفية الجهادية، أو الجماعات المسلحة ذات المكون القبلي، أو جماعات الجريمة المنظمة، وتتسم هذه الجماعات بتعدد ولاءاتها وانتماءاتها السياسية.

أما في سوريا، فقد ظهرت العديد من الكتائب والميليشيات المسلحة التي انخرطت في الحرب الاهلية التي تعيشها البلاد  من عام 2011، وتنقسم هذه الميليشيات ما بين كتائب موالية للنظام وأخرى معارضة له، من أبرز مؤيدي النظام، قوات الدفاع الوطني، التي تأسست عام 2012 وتضم نحو 90 الف مقاتل. وفي المقابل هناك العديد من الكتائب والملييشيات المسلحة  المناوئة للنظام مثل الجيش السوري الحر، وكتائب ثوار الشام.

4-الميليشات المسلحة التي تستند الى اسس طائفية او عرقية او قبلية: وتنتشر هذه الميلشييات على نطاق واسع في الدول المنهارة والهشة مثل سوريا وليبيا والعراق والسودان واليمن. 

5-شبكات الجريمة المنظمةإذ تمثل الدولة المتصدعة والتي تعاني من الحرب الاهلية والصراعات الداخلية بيئة خصبة  وملائمة لظهور شبكات الجريمة المنظمة وتمددها، حيث انتعش نشاط هذه المنظمات في دول مثل ليبيا وسوريا الأمر الذي تمثّل في ظاهرة الإتجار بالبشر، وظاهرة قوارب الموت التي تحمل لاجئين من هذه الدول، كما أصبحت تجارة المخدارت اكثر رواجا في سوريا بسبب ظروف الحرب الأهلية.

(يتبع)

شحاتة عوض

رئيس التحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock