رؤى

«العقلاء الأوائل» (8): المعتزلة.. من العقل إلى النزعة الإنسانية

 بات معروفًا أن المعتزلة، كأحد أكبر الفرق الإسلامية وأقدمها (نشأت في البصرة في حدود نهاية المائة الأولى للهجرة)، كانت أول من اعتمدت النزعة العقلية في الفكر الإسلامي، وأسّست للقراءات العقلانية في مجال تأويل النصوص الدينية.

فعلى أيديهم برز العقل كإشكالية كبرى في حقل العقيدة الإسلامية، وتبلْور كمرجع لا غنى عنه، مرتبطًا بظهور علم الكلام الذي كان للمعتزلة الفضل الأول في ظهوره، وتطوير آلياته ومرجعياته كعلم امتاز به عصر التدوين في الحضارة العربية الإسلامية، بخلاف امتيازهم في حقل الطبيعيات والعلم التجريبي، كما هو الحال عند كثير من أعلامهم كإبراهيم بن سيَّار النظّام، والجاحظ، ومعمّر السلَمي، وغيرهم من الأعلام العقلانيين، الذين مثّلوا أبرز طبقة برجوازية مثقفة في الحضارة الإسلامية.

ويكفي دليلا على ذلك أنّ العصر الذي شهد ذروة انبثاقهم وتوهجهم، وهو عصر الخلفاء العباسيين المأمون والمعتصم والواثق، كان عصرًا ذهبيا للحضارة الإسلامية، بل إن المذاهب الفقهية الكلاسيكية، نفسها، لم تنشأ إلا في فترة سيادة المعتزلة علميا وسياسيا، فالنزعة العقلانية للدين، بتطبيقاتها المختلفة، تؤثر في مساراته العلمية والثقافية والإنسانية؛ إذ تجعل الدين منفتحا على الآخر، وديناميكيا في حركته وتفاعلاته، وإنسانيا في احتوائه، لذلك جعلنا من إعادة دراسة المعتزلة وأفكارها وأعلامها مدخلا للتحديث الذي نبتغيه الآن في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.

حركة تقدمية مهدت للفلسفة الإسلامية

 كانت مدرسة المعتزلة، في سياقها التاريخي والحضاري، حركة تقدُّمية ساهمت في النمو الحضاري للإسلام، بصرف النظر عن الظروف الاجتماعية والسياسية التي أفرزتها، وبصرف النظر عن اقترابها أو ابتعادها عن السلطة الحاكمة، أو بعض التناقضات التي تظهر في أفكارهم ورؤاهم. فما يعنينا هو العقل المعتزلي نفسه، الذي أسهَم بشكل واضح لا ينكره أحد في بلورة الفلسفة الإسلامية بالمعنى الدقيق فيما بعد في القرن الثالث الهجري، وهو أمر جدّ خطير. إذ إنَّنا نجزم بأنه لولا انبثاق الاتجاه العقلاني لدى المعتزلة لمَا كانت هناك فلسفة إسلامية استطاعت أن تشقّ طريقها إلى أوروبا، فتملأ الأسماع والأبصار، وتنقل إلى الأوروبيين الفلسفة اليونانية القديمة، بعد أن كانوا يجهلونها ويَغُطّون في سبات عميق.

أنسنة علم الكلام

 وقد كان الاتجاه العقلاني للمعتزلة ذا أثر فعّال في أن يكون الفكر المعتزلي إنساني النزعة، وقد تجلّى ذلك في حزمة من الأفكار الإيجابية التي اشتبكت مع الإنسان وذاته وعالمه وواقعه المعيش، وهذا هو ما يميّز المعتزلة عن سائر الفرق والمدارس الكلامية الأخرى، فالمعتزلة يرفضون تأسيس سلطة الدين على النص والمنقول، حتى إنهم يرون أن ليس ثمة قضية في الكون لا يستطيع العقل فهمها وإدراكها والتفاعل معها، لذلك يمكننا أن ندّعي أن المعتزلة قد تعالَت بالعقل، فإن كان ثمّة نخبوية في أفكارهم وآرائهم، فهي نخبوية متعالية بالعقل، فقد جعلوا سلطان العقل مستمدًّا من سلطان الله، لذلك يقول القاضي عبد الجبار بن أحمد الأسد آبادي: «لم يخاطب الله إلا أهل العقل» لقاضي عبد الجبار بن أحمد، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، طـ تونس، ص 127]

اقرأ أيضا:

«العقلاء الأوائل» (7): ثُمامة بن أشرس.. فيلسوف دولة المعتزلة

 لم يغفل المعتزلة الجانب الإنساني في علم الكلام، وأساس الجانب الإنساني هو أن يصنع الإنسانُ شخصيته عن طريق كل سبيل يسمو بإنسانيته، ويُنمّي طاقاته الروحية والثقافية والاجتماعية والمادية، لذلك ينادي المذهب الإنساني بحرية البشر جميعا لتُحقق هذه الحرية إمكانات الحياة الإنسانية، وهكذا كان المعتزلة؛ فهم أول من أكدّوا حرية الإنسان واتجاهاتها الميتافيزيقية والسياسية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية، على نحو فاق اهتمام نظرائهم من المتكلمين، حتى إن مبحث الحرية الإنسانية وقضية أفعال الإنسان، يُعدُّ أساسا فكريا لديهم، فابتكروا ما يُعرَف باسم (برهان التمانع)، وخلاصته أن الإنسان إذا أراد شيئًا وأراد الله خلاف ذلك الشيء، فإن دواعي فعل الإنسان متحققة، وكذلك الإله، فيحصل بذلك تمانع وتناقض، ويحال الجمع بين مؤثرَين على مؤثر واحد.

إنَّ أهم ما يميز الجانب الإنساني في البناء الفكري للمعتزلة هو اهتمامهم بمسألة الحرية الإنسانية، وبيان العلاقة بين الضرورة الإنسانية والضرورة الإلهية، فبحثوا في العلاقة بين الأسباب ومسبباتها، وهو ما يُعرَف بمبدأ السببية، فغلَّبوا الجانب الإنساني على الجانب الإلهي، إذ أرجعوا أفعال الإنسان جميعا إلى قدرةٍ خاصةٍ بالإنسان أي أن المعتزلة جعلوا الإنسان محور الكون، الأمر الذي يجعلنا ندعو إلى الاهتمام بدراسة القضايا الإنسانية التي تمتُّ إلى الأديان بصلة ضمن مناهج ومباحث علم الكلام الجديد، وهو ما يمكن أن نسمّيه (أنْسَنَة علم الكلام)، فمن دواعي تجديد علم الكلام – الذى وضع المعتزلة بذوره منذ قرون – أن نهتمّ بالأبعاد الأخلاقية والاجتماعية والنفسية والفلسفية لعلم العقيدة، وربط قضايا العقيدة بالإنسان.

مساواة كاملة.. «دية المرأة كالرجل»

ومن بين ما يميز الجانب الإنساني في البناء الفكري للمعتزلة أيضا، تناولهم قضية المساواة والمفاضلة كقضية إنسانية وأخلاقية عظيمة؛ فقد أكدوا مبدأ المساواة بين البشر، فالجاحظ، مثلا، يؤكد أن أجناس البشر هي من الله ولا دخلَ للإنسان فيها، فالإنسان لم يختر جنسه ولا لونه ولا نسبه، وهذا أحد أسباب تفرُّدهم وحيوية منتجهم الفكري.وقد ظلّ الجانب الإنساني يلعب دوره في أفكارهم، حتى إنه ظهر لدى فقهائهم؛ فها هو ذا أبو بكر الأصمّ، وابن عليّة، يذهبان إلى أن دية المرأة مثل دية الرجل، وأن نكاح الصغيرة غير جائز، على خلاف سائر المدارس والمذاهب الفقهية  التقليدية التي تذهب إلى أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، فيما ثمامة بن الأشرس كان لا يجيز السبْي، مستدلا بالآية «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً» [محمد: 4]، وغير ذلك مما هو معروف ومدوّن باسمهم.

فكر المعتزلة منطلقا للمستقبل

لقد أسهم المعتزلة في صبغ البناء الفكري في علم الكلام، خصوصا، وسائر العلوم الإسلامية والعربية، عموما، بالنزعة الإنسانية، والآن حان دورُنا لاستلهام مضمون تلك النزعة، دون تفاصيلها  فى ذات السياق التاريخي المنصرم، للكشف عن سياقات الملامح الإنسانية في الدين، التي غيّبها الموروث والأيديولوجيات المختلفة، بحيث لا يُختزَل الدين في سياق أحادي منسلِخ عن التحضُّر والتقدُّم الإنساني، ولكن بحيث يتناغم مع الكون ومنجزات الحضارة ومباهج الطاقات الروحية والإنسانية في هذا العالَم. يقول الدكتور عبد الجبار الرفاعي، الذي يُعدُّ، حاليا، من أفضل أساتذة الفلسفة العرب الذين تناولوا الأبعاد الإنسانية في علم الكلام الجديد: «إنّ إحياء النزعة الإنسانية في الدين يسارع في تقويض ثقافة الاستبداد، ويفضح المزاعم الزائفة  لطغيانه، وهذا يعني أنه متى تغيب الحرية تذبل النزعة الإنسانية، ومتى تنبعث الحرية وتسود قيم التعددية وحق الاختلاف، تزدهر النزعة الإنسانية، وتسود قيمها وأخلاقياتها، ومفهوماتها التمدينية في المجتمع» [عبد الجبار الرفاعي، الدين والنزعة الإنسانية، دار التنوير، بيروت، طـ 4، 2019، ص 198.

من أجل ذلك، نستلهم أفكار المعتزلة، ونتناولها وننتقدها وَفق ظروفها وسياقاتها التاريخية والحضارية، ثم نبني عليها لانتزاع ما قد يصلح منها في تأسيس التحديث العربي، ومزج الأصالة بالمعاصرة. فلا أبالغ إذا قلت: إن البناء على مرتكزاتهم الفكرية والعقلانية والنقدية يشكل مدخلا إلى الحداثة ومواجهة إشكالية الدين والدنيا التي ما انفكّ الفكر السياسي والثقافي العربي الحديث يدور في فلَكها ومتاهاتها.    

أحمد رمضان الديباوي

مدرس العقيدة والمنطق بالأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock