ثقافة

جورج بهجوري.. فنان متيم بالتحديق في «وجوه البشر»

في حضرته تستدعي رحيق الماضى  وواقعية الحاضر، ثم يدفعك دفعا لأن تستشف المستقبل، طفولية مدهشة تلتمسها من صاحب الـ87 عامًا، لا تشعر أبدًا بكهولة أو شيخوخة، تندهش من الحضور الطاغي الذي يملؤه، ذهن يتقد بالذكريات. يتحدث عن صباح الخير وروز اليوسف، بحميمية طاغية، يجعلك تصل لإجابة قاطعة عن سرعظمة هؤلاء الرجال. قال عنه ادوار الخراط، إن جورج البهجوري، «روائي مشهدي»، وتنبأ له نجيب محفوظ بـ«العالمية»، بعد انضمامه لشلة الحرافيش.

هو من علّم صلاح جاهين الرسم، واعترف بموهبته الفذة، وسخر من رواية «أنا حرة» برسم كاريكاتوري لاذع، عبر صفحات روز اليوسف، ولم يغضب إحسان عبد القدوس، هذه هي رحلة الفن والجمال، التي يصحبنا فيها «جورج بهجوري».

وجوه البشر

البدايات كانت تدلل على شغف البهجوري بالرسم، التحديق بعيون مفتوحة على آخرها في وجوه البشر، والانشغال دوما بالتفاصيل البسيطة والدقيقة، ليس للوجوه، ولكن لما تشى به في تلك اللحظات التي يحدق فيها. وجد نفسه يرسم صورا لبشر، ويفرح كثيرا عندما يرى أشخاصا يشبهون ما رسم، كان هذا الأمر يزعج أسرته، فكراريس المدرسة مليئة بالصور، ولا مكان فيها لدرس، فقط كان الرسم ضالته الوحيدة التي يجد فيها نفسه.

في البداية، كان العبث والسخرية من وجوه أقاربه، هي المدخل لهذا العالم الأثير، وعن هذا يقول جورج: «كنت أداعبهم برسوماتي لهم، عندما أرى ابتساماتهم مرسومة على وجوههم، كانت هي حافزي لأن أمضي فى طريقي، كنت اتكسب من رسوماتي، الضحك المرسوم على شفاه أصحاب اللوحة الحقيقيين».

كل هذا لم يكن إلا بداية لدخوله كلية الفنون الجميلة، أخذه أخوه الأكبر الفنان كمال أمين، وألحقه بالكلية، وسرعان ما اجتاز اختباراتها بنجاح. كانت ظروفه المادية غير جيدة، فاضطر للعمل في مكتبة لبيع الجرائد بفندق المتروبوليتان، وكان يعمل لمدة ثمانى ساعات طيلة سنتين، بعدها أصبح قادرا على الاعتماد على موهبته في تدبير نفقته.

 فى الكلية كان زملاؤه وأساتذته هدفا لريشته، وكانت «الفنون الجميلة» آنذاك،عامرة بالأسماء الكبيرة والحاضنة للمواهب الجديدة، فهناك عبد الهادى الجزار وصلاح طاهر وبيكار وغيرهم. كانت الكلية أكثر تحررًا ووعيًا من وقتنا الراهن. شُغف البهجوري بالتمرد على الأشكال التقليدية للرسم، ووقع وقتها فى غرام التكعيية، التى كان يُدرّسها لهم الفنان بيكار، وأصبح فى سنواته الأولى، أشهر تلميذ «فنان»، داخل «الفنون الجميلة».

يلفت البهجوري، إلى ان تربيته الدينية والمحافظة، لم تكن حاجزا لدخوله كلية الفنون الجميلة، وتمرده على التقليدية، لم يكن حاجزا بينه وبين الكنيسة.

مدرسة الكاريكاتير

فى بداية الخمسينيات، كانت «روزاليوسف» عامرة بالجيل الأول لفنانى الكاريكاتير آنذاك، الحياة أكثر حرية وأكثر تحررا، و«روزا»، منبر حقيقي ونجمة مضيئة في سماء «الصحافة المصرية». وكان البهجوري من رساميها، حيث وفد إليها من صباح الخير، فوجد كل الرعاية وكل الحب من فريق العمل من الصحفيين الذين كانوا أسرة واحدة. غير ذلك والأهم، أنهم كانوا يتقبلون النقد من بعضهم، ومن الآخرين وبصدور رحبة.

رسم البهجوري كاريكاتيرا يسخر من رواية «أنا حرة» لإحسان عبدالقدوس، وحمل الكاريكاتير سخرية حادة ولاذعة، امرأة تضع قدمها على رأس زوجها، وتقول له «أنا حرة». رأى إحسان الكاريكاتير وضحك وسخر مع بقية أسرة روزاليوسف، ولم يعلق ولم ينتقد، أو يحتد، لأنه ببساطة، يفهم جيدًا طبيعة الفنان، ولم يكن يومًا يضع قيودا على أحد، لذلك كانت «روزاليوسف» و«صباح الخير»، أول مدرسة صحفية عربية تخرج فيها أشهر فنانى الكاريكاتير وأكثرهم موهبة.

صداقة وفن

يقول البهجوري إنه علّم  صلاح جاهين الرسم، ولا أحد يستطيع أن ينكر، ولكن هناك من ينكرون الأمر، فقد جعلتهم عبقرية جاهين وموهبته الكبيرة لا يتقبلون مسألة أن هناك من علمه الرسم.

وعن رأيه في حجازي  ونجوميته، يقول البهجوري: حجازي فنان كبير بالفطرة، عندما جاء إلى «صباح الخير»، كانت له خطوطه التى تميزه، وكان أكثر حدة وأكثر سخرية، والتف حوله صحفيو وكتاب صباح الخير، ونجح فى أن يصل للناس برسوماته، وقد وجدت نفسي بعيدا عن الضوء بعض الوقت، لتألق حجازي، وهذا لم يزعجني، لأن لكل منا طريقته.

روائى مشهدى

يقول البهجوري: «إن الفن هو لغتي الوحيدة، وعيناي تتدربان كثيرًا  على القراءة البصرية»، فالمشهد أكثر حضورًا عنده، وهذا ما جعل ادوارد الخراط يقول عنه إن جورج البهجوري روائي مشهدي، وهو يقول عن نفسه انه داخل إلى باب الأدب عبر المشهدية.

تطل من الوجوه التى تسكن لوحات البهجوري، تشققات وتمزقات يحسبها الكثيرون بعدا عن المباشرة. لكن على عكس ذلك  يرى هو أن تلك التشققات والتمزقات التى تصاحب الوجوه، حالة صفاء نفسي لسرد قسوة ما نعيشه، ويظهر ذلك واضحًا في أغلب لوحاته، لأنه يعبرعما تحمله أعماق تلك الوجوه.

التشكيل والكاريكارتير

يمكن أن نقول إن البهجوري انشغل لبعض الوقت بالتشكيل، ولكن يبقى الكاريكاتير بمثابة حياة يعيشها بكل صورها، فهو يرى أن وظيفة فنان الكاريكاتير، أكبر من أن يُضحك الناس فقط، بل أنه يوظف طاقاته الإبداعية والفكرية، ويحولها إلى رسومات تدهشك، وتضحكك و تجعل عقلك يعمل لتفكر وتنقد بشكل مستمر، أنه يعيش هذه الحالة طوال الوقت، فى تعليقاته ستجد أنه لا يميل إلى الحدة، بل إلى العمق، واللامباشرة، وتهذيب النكتة، لتصل بما تحمله من ارهاصات ومضمون لعقل المتلقي.

 وفى إحدى مراحل فنه انشغل البهجوري بإعادة انتاج لوحات لدافنشي، رامبرانت، بيكاسو، وحجازي، يبدو انها استوقفته كثيرا. فرسم لوحة “الجيوكندة” لدافنشي، ليحول ما يصفه بالجمود في اللوحة إلى حركة، أعاد رسم ما كان يراه خطأ من وجهة نظره، فقدم تركيبة أخرى تخصه.

نبوءة محفوظ

تظهر منطقة الكرنك كثيرا في أعمال البهجورى، فهو يسترجع ذكرياته من زمن الطفولة، فقد ولد في بلدة بهجورة بمدينة الأقصر، وكان بيت الأسرة في شارع المحطة، وهناك تأثر كثيرا برائحة التاريخ، وإحساسه بأنه قطعة منه، تبقى معه أينما ذهب، وحين يرسم يتعدد مشهد الكرنك بلوحاته.

أما عن الوجوه الأفريقية، فيرى البهجورى أنه بدءا من بيكاسو، إلى كل الاتجاهات التي بدأت بولادة للتكعيبية، هي في الأساس جاءت من الفن الأفريقي، حيث وجدوا فيه من البساطة والجمال، الذى خرجت منه العديد من المدارس.

المتابع لـ«البهجوري»، يندهش من أن يكون النحت من ضمن اهتماماته، وتكون صفة الديمومة الملتصقة لمنجز النحات، هى المحرض الأول له، فقد وجد فى جذوع الأشجار ضالته، في أعمال تشكيلية كثيرة يمكن طرحها، على الرغم من أن هذا النوع من الفن يحتاج إلى جهد أكثر.

سافرت لوحات «البهجوري» إلى أرجاء الدنيا، انتقل من المحلية التي تشرب بها، إلى مصاف العالمية كما تنبأ له نجيب محفوظ، عقب انضمامه لـ «شلة الحرافيش»، فحقق نبؤءة أديب نوبل، باحتفاء أكبر متاحف العالم بلوحاته، لكنه ظل متمسكًا بمصريته، وكأن اسميهما ملتصقان، لا تفصلهما إغراءات مهما علا شأنها، الأمر الذي يحرص دائما على ترديده، فضلا عن ترجمته في الواقع.

عن الرواية

جاءت كتابة الرواية، كمنعطف مهم في حياة جورج البهجورى، لتسجيل رؤيته للعالم الذى عاشه ويعيشه الآن، كانت الكتابة فى البدء مستعصية، كونه كائنا مشهديا، وسيلته هي الريشة دوما، لكن من شجعه على هذا كان الروائي الكبير الراحل  إدوارد الخراط، وقال له أنت روائي مشهدي، لذا كانت الرواية جزءا لا يتجزأ من شخصيته. فهو يكتب ما شاهده، وما جرى معه، وستجد أنه لا مكان لتخيل، ولا موضوع تخيلي، إنما واقع ملموس عاشه، إضافة إلى تضفيره الأحاسيس والمشاعر، التى تنتاب الفنان بمهجره وحنينه إلى الوطن، هذا ما دفعه لأن يكتب، وتبقى الأسماء، والمواقف التى عاشت معه، هى أبطال روايته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock