رؤى

نهاية عقد مضطرب.. الجهاديون والربيع العربي.. نبوءة خاطئة (1)

تشارلز ليستر – زميل أول ومدير «برنامج مكافحة الإرهاب والتطرف» التابع «لمعهد الشرق الأوسط»

عرض وترجمة: أحمد بركات

في نهاية عام 2010 وبداية عام 2011، عندما اجتاح «الربيع العربي» منطقة شمال أفريقيا ثم الشرق الأوسط في عمومه، ظهر إجماع عام في الغرب على أن هذه الموجة غير المسبوقة من الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية تحمل في طياتها نهاية الحركات الجهادية، وعلى رأسها تنظيم القاعدة. لكن التنظيم كان له رأي آخر. فمن جنوب آسيا إلى شمال أفريقيا، احتفى قادة القاعدة بهذا الخروج الجماهيري المدوي والمفاجئ للتعبير عن حالة الإحباط الناجمة عن عدم الاستقرار السياسي. ورأوا فيه فرصة سانحة لطرح رؤيتهم الأيديولوجية كبديل للأنظمة الاستبدادية المترسخة في المنطقة.

نبوءة خاطئة

وبعد أسابيع قليلة من الاحتجاجات، كتب الرجل الثاني في تنظيم القاعدة آنذاك، عطية عبد الرحمن، إلى أسامة بن لادن يقترح عليه أن «يرسل رجاله إلى تونس وسوريا ودول أخرى» لاغتنام الفرصة الجديدة التي جادت بها الأحداث. وبعد ذلك مباشرة، سُجل لابن لادن أنه قال في حوار خاص مع أسرته إن «حالة الفوضى الإقليمية وغياب القيادة في الثورات هما البيئة المثلى لنشر أفكار القاعدة». لكن، بعد ذلك بشهور قليلة، لقي بن لادن حتفه في  الثانى من مايو عام 2011 فى مدينة أبوت أباد في باكستان على إثر غارة أمريكية.

أسامة بن لادن، عطية عبد الرحمن

 رغم ذلك، فقد فاقت  الفرص التي سنحت للتنظيم جراء سقوط العديد من الأنظمة وتفشي حالة الفوضى، مصابه في فقد زعيمه المؤسس (بن لادن)، أهميةً وربما تأثيراً. وسواء في مالي، أو في تونس وليبيا، أو في سوريا والعراق واليمن، وجدت القاعدة فراغا سياسيا ملائما، ومساحة هائلة للمناورة، وبيئة خصيبة لجذب مئات أو حتى آلاف الشباب للانضمام إلى الحركة الجهادية للتعبير عن غضبهم وتعطشهم للتغيير.

واليوم، يتبين بجلاء أن نبوءة سقوط تنظيم القاعدة، ومن ورائه سائر التنظيمات الجهادية، أمام ثورات الربيع العربي المطالبة بالديمقراطية لم تكن صحيحة. فمنذ عام 2011، نجح التنظيم في توسيع دائرة عملياته في دول جديدة، وجذب إليه جماعات جديدة، وضم إلى صفوفه آلافا مؤلفة من المجندين الجدد.

صدمة «النصرة»

في الوقت نفسه، تكشف نظرة أكثر عمقا في أحداث السنوات الثماني الماضية عن صورة أكثر تعقيدا. ففي استغلال انتهازي لحالة عدم الاستقرار المتفاقمة في منطقة الشرق الأوسط، قامت الجماعات الموالية للقاعدة بتدشين عمليات ذات طابع محلي. وبحكم الضرورة، ازداد انفصال هذه العمليات – وفي حالات عديدة انسلخت هويتها – عن القيادة المركزية للتنظيم. في الوقت نفسه، ضاعفت جهود مكافحة الإرهاب ضد القاعدة هذا التوجه نحو المحلياتية من خلال تقليل التواصل بين قادة التنظيم المركزي والجماعات التابعة له، ومن ثم تحفيز اتجاه مواز داخل التنظيم الأم نحو استراتيجية جديدة تقوم على اللامركزية.

وفي السنوات الأخيرة، تبلورت هذه النزعة المحلية داخل الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة، و تبلورت تلك النزعة نحو عدم المركزية داخل الحركة الأم -أكثر ما تبلورت – على الساحة السورية؛ حيث انخرطت «جماعة جبهة النصرة»، التابعة للتنظيم في سوريا، بقوة في ديناميكيات الصراع الأهلي إلى حد أن اتصالاتها وتنسيقاتها مع القيادة العليا للتنظيم المركزي قد تراجعت تماما أمام حاجتها إلى التعاطي مع ضغوط المعضلات المحلية. وبحلول عام 2017، كانت جبهة النصرة قد غيرت اسمها مرتين وقطعت تماما روابط ولائها لقيادة التنظيم، مما أدى إلى إزالة ما يصل إلى 15 ألف مقاتل من القائمة العالمية الخاصة بالقيادة العليا لتنظيم القاعدة.

أثار انفصال جبهة النصرة، التي كانت حتى ذلك الوقت أكثر الجماعات الموالية لتنظيم القاعدة نجاحا، والطريقة التي انفصلت بها، صدمة بالغة في جميع أرجاء الحركة العالمية، وتحديدا في أوساط القيادات العليا للتنظيم فقبل ذلك، كان نجاح جبهة النصرة في سوريا قد قدم للقاعدة فرصة غير مسبوقة لتجاوز انتكاساتها السابقة وتحسين أوضاعها داخل الحركة الجهادية العالمية، والدائرة الإسلاموية بوجه عام. لكن هذه الفرصة سرعان ما تلاشت بعد أن شقت جبهة النصرة طريقها بمعزل عن القاعدة، وهو ما أثار جدلا موسعا، خاصة أن الانقسامات الداخلية في جسد التنظيم باتت واضحة للعيان.

واليوم، يبدو أيمن الظواهري ممزقا بين العودة إلى نموذج «قاعدة» بن لادن باعتباره «طليعة نخبوية» للحركة الجهادية العالمية من جانب، أومواصلة محاولات الإفادة من الطابع المحلي للحركات الموالية مع إعادة تأكيد هيمنة التنظيم المركزي على صناعة القرار الاستراتيجي من جانب آخر. لكن، ليس من المرجح أن تثبت المحاولة في الاتجاهين أي نجاح للظواهري وغيره من القيادات العليا داخل التنظيم المركزي، خاصة في مناخ يتواصل فيه طرح الأسئلة بشأن ما يمثله تنظيم القاعدة.

أيمن الظواهري

فكر جديد

وبينما كانت ثورات الربيع العربي تتبلور على الأرض، كان قادة القاعدة في خضم سجال داخلي مكثف بشأن أسباب فشل الحركة الجهادية حتى ذلك الوقت في بناء دولة إسلامية شعبية ذات مصداقية، والمحافظة عليها. كانت المحاولة المقتضبة التي قام بها «تنظيم القاعدة في العراق» لبناء «الدولة الإسلامية في العراق» في 2006 – 2007 قد بينت للعديد من القادة الجهاديين أن الاستراتيجية التي ترتكز إلى إطار أيديولوجي استبدادي، وتفرض نفسها بالقوة على المجتمع تبوء دائما بالفشل الذريع. وسواء كان ميل «تنظيم القاعدة في العراق» إلى الوحشية المفرطة والعنف العشوائي، أو حظره للتبغ أو بيع ’الخيار‘ بسبب شكلهما الموحي جنسيا، قد زاد من النظرة الاستهجانية تجاه التنظيم بشكل عام فقد أثار الحماس الأيديولوجي للقاعدة عداء السكان المحليين في العراق، وأسهم بشكل قاطع في تقويض مشروعها. وقد خلص بعض القادة الجهاديين المهمين من هذه التجربة إلى أن هذه الاستراتيجية المتحمسة لفرض حكم إسلامي غير محمودة العواقب. في المقابل، يمثل كسب قلوب وعقول السكان المحليين سياسة منطقية وواعية.

لم تكن هذه الفكرة جديدة تماما على تنظيم القاعدة. فقد خرج هذا التنظيم من رحم تجربة «الأفغان العرب» في ثمانينات القرن الماضي، عندما قاتل المجاهدون الاحتلال السوفيتي في أفغانستان. في خضم هذه التجربة قدم الشيخ عبدالله عزام وبعض القادة التابعين له جهودا جهادية ركزت على دعم نضال محلي مقاوم ضد قوة معتدية غازية. وعبر عدد من المنظمات، مثل «مكتب الخدمات»، سعى عزام إلى تنسيق دور المتطوعين الأجانب على الساحة الأفغانية على نحو أفضل، وتوحيد الفصائل المتنافرة والمتنافسة من أجل تعزيز القضية الجهادية بوجه عام. وقد  قدم تنظيم القاعدة نفسه في خضم الاضطرابات الإقليمية المتفاقمة التي وقعت في أثناء عامي 2011 و2012. مستفيدا بدرجة كبيرة من التفكير المؤسسي لعزام.

عبد الله عزام

وتفتح مقتطفات من رسالة بعث بها أبو مصعب عبد الودود (المعروف أيضا باسم عبد الملك دروكدال)، زعيم «تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي» إلى قادته الفرعيين في مالي في بداية عام 2012 نافذة مهمة على الفكر الجديد الذي بدأ يسري في أوساط القيادة العليا في تنظيم القاعدة: تقول الرسالة:

لا يزال الوليد في أيامه الأولى يحبو على ركبتيه. فإذا أردنا له حقا أن ينهض على قدميه في هذا العالم المليء بالأعداء المتربصين للانقضاض عليه، فعلينا أن نخفف حمله، وأن نأخذ بيديه، وندعمه حتى يتمكن من الوقوف… إحدى السياسات الخاطئة التي نعتقد أنك اتبعتها هي ذلك التعجل المفرط في تطبيق الشريعة… لقد اثبتت تجاربنا الماضية أن تطبيق الشريعة على هذا النحو سيجعل الناس يرفضون الدين، وسيزرع في نفوسهم الكراهية للمجاهدين.

أبو مصعب عبد الودود

لكن توجيهات دروكدال لم تكن كافية، ولعلها وصلت متأخرة للغاية في أعقاب انطلاق حملة التنظيم في مالي. وانتهى المطاف بالحركة بالتعامل بطريقة متطرفة إلى حد أنها فقدت قدرتها على السيطرة على الإقليم والاستمرار في الحكم.

على النقيض من ذلك، كانت المياه في النهر اليمني تجري في الاتجاه الآخر، حيث كان الاعتدال هو السمة الغالبة التي اعتمد عليها تنظيم «أنصار الشريعة» – الواجهة الحقيقية «لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية» – في تطبيق الشريعة. وقد أخذ هذا الاعتدال شكل قيود أقل صرامة، وخدمات أفضل، ووجه يمني أكثر تجليا بهدف الحصول على تأييد السكان المحليين. لكن حتى في ذلك الوقت، لم تكن استراتيجية حرب العصابات الأكثر واقعية، التي اتبعها التنظيم في عامي 2011 و 2012 كافية، لأن الوجه الحقيقي للقاعدة كان لا يزال يبرز من وراء حجبها. ومع ذلك، فقد استمر الفكر المتطور القائم على إضفاء النزعة المحلية على الحركة الجهادية في إلهام قادة التنظيم. وهو ما أكده أيمن الظواهري، قائد التنظيم في سبتمبر 2013، في بيانه الذي حمل عنوان «توجيهات عامة للعمل الجهادي»، حيث وجه الظواهري الجماعات الموالية للتنظيم في جميع أنحاء العالم إلى تجنب استهداف المدنيين، والمسلمين والأماكن العامة وأعضاء الطوائف المنحرفة (في إشارة إلى الشيعة).

(يتبع)

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية ومراجع الدراسة من هنا 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock