رؤى

نهاية عقد مضطرب: الجهاديون والربيع العربي.. نبوءة خاطئة (3)

تشارلز ليستر – زميل أول ومدير «برنامج مكافحة الإرهاب والتطرف» التابع «لمعهد الشرق الأوسط»

عرض وترجمة: أحمد بركات

أظهرت تجربة «تنظيم القاعدة» في سوريا منذ عام 2011 أن الاستجابة العملية للانتفاضات العربية في 2010 – 2011، والصعود الدراماتيكي لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا في عام 2014، يجب أن تأخذ طابع التحول نحو مزيد من المحلية، والسعي من أجل بناء قاعدة شعبية عريضة. لكن عواقب النجاح في هذا النهج فرضت تحديا مباشرا على قدرة التنظيم المركزي على السيطرة على الجماعات الموالية بمجرد أن شرعت الأخيرة في التطور وفقا لديناميات الصراعات المحلية.

توازن مُشكِل وخلاف نخبوى

  مثل تحول «جبهة النصرة» إلى «هيئة تحرير الشام» تطورا مذلا للقاعدة، خاصة على مستوى قيادتها العليا التي ظهرت في هذا السياق كمؤسسة شائخة تعيش في جزر منعزلة عن واقع الصراع الذي تدور رحاه في سوريا، ويتسم بالمحلية المطلقة والسيولة التامة والتطور السريع.

وقد تمثلت استجابة القيادة العليا لتنظيم القاعدة لهذا الإدراك في السنوات الأخيرة في النكوص إلى النموذج الأصلي الذي تبناه بن لادن باعتبار التنظيم حركة «طليعية» تمثل قوة مقاومة نخبوية ومنغلقة نسبيا لمواجهة الأعداء القريبين والبعيدين على السواء، وهو ما يمكن تحقيقه دون المساس المفرط بقدرات التنظيم، أو تبديد موارده على الهيمنة الإقليمية والحكم وإدارة الشعوب، على غرار ما أثبتته  التجربة الداعشية في العراق وسوريا. رغم ذلك، لم تتمكن القيادة العليا لتنظيم القاعدة من تجاهل الفرص التي جادت بها تداعيات هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا في مارس 2019، وتقديم القاعدة كبديل أكثر استدامة ونجاحا للمجندين الجهاديين المحتملين. والحقيقة أن القيادة العليا لتنظيم القاعدة تبدو على وعي تام بقيمة هذه الفرصة، وهو ما يجعلها تحاول، من آن لآخر، ترسيم حد دقيق بين مستوى التطرف في حقبة بن لادن والاعتدال الطفيف في نموذج «هيئة تحرير الشام».

بدا هذا التوازن المشكِل جليا للجميع في يونيو 2019، في أعقاب وفاة الرئيس الإخواني المصري، محمد مرسي. في هذا الوقت، احتدم الخلاف بين اثنين من أبرز الوجوه الأيديولوجية النافذة في تنظيم القاعدة، وهما أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني بشأن ما كان يمثله مرسي. ففي مقالة بعنوان Mourning Morsi: The Death of an Islamist and Jihadist Divisions (الحداد على مرسي: موت الانقسامات بين الإسلاميين والجهاديين) يذكر الكاتب، كول بونزل، أن أبا قتادة هرع إلى الشبكة العنكبوتية فيما يشبه تقديم واجب العزاء في رفيق «أيديولوجي» مقرب: «…أسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يتقبله في الصالحين… أناشد جميع المسلمين في جميع أنحاء العالم أن يستغفروا له وأن يترحموا عليه جراء ما لاقى من صنوف الظلم في سبيل دينه ودعوته. لم يساورني شك للحظة واحدة في أنه كان مخلصا لدينه ومحبا لأمته».

وفي التو – كما ورد في المقال المشار إليه – بادر المقدسي برد عنيف انتقد فيه بقوة موقف أبي قتادة لإسهابه في مديح مرسي الذي «اختار طريق الديمقراطية غير الشرعي»، وأضاف: «إننا لا نكن له أي شعور بالمودة، وما ينبغي لنا» لأنه سيكون إقرارا بـ «بدعة تستوجب التكفير».

تبع ذلك نزاع علني وحاد ربما إلى درجة غير مسبوقة ارتدى فيه أبو قتادة مسوح المدافع الصلد عن مقاربة استيعابية جامعة للملمة شتات الحركة الجهادية، بينما رسخ فيه المقدسي صورته كأحد أبرز الوجوه الأيديولوجية الإقصائية. كان الجدل بين المقدسي وأبو قتادة محتدما منذ سنوات، لكن خلافهما بشأن مرسي كشف عما بينهما من خلاف فكري بدرجة غير مسبوقة. وفي معرض الرد على تجربة «هيئة تحرير الشام» على وجه التحديد بدا ابو قتادة مقتنعا بضرورة المضي قدما باتجاه مشروع جهادي أكثر مظلية واستيعابية، بينما تبنى المقدسي النموذج المضاد الذي يتجه بالمشروع الجهادي نحو الداخل ويتمسك بالقيود العملياتية والأيديولوجية الأكثر تشددا، والتي تتناغم مع تفسيره للإسلام.

الظواهرى.. فى المنطقة الرمادية

ولكن من المثير للاهتمام أنه برغم عداء تنظيم القاعدة الراسخ لجماعة الإخوان المسلمين منذ أمد بعيد، إلا أنه تبين أن المقدسي – في أعقاب الخلاف بشأن مرسي – كان لا يمثل سوى أقلية قليلة، بينما انحازت الغالبية الغالبة من رموز «تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي»، و«حركة طالبان» (التي يدين لها تنظيم القاعدة بالولاء) وغيرهم من الرموز المتحالفة مع  التنظيم إلى صف أبي قتادة. وقد وضع البيان الصادر عن «القيادة العامة لتنظيم القاعدة»، في 27 يونيو 2019، حدادا على وفاة مرسي، وابتهل إلى الله «أن يغفر له ويرحمه»، نهاية سريعة لهذا الجدل. لكنه كشف عن خلاف صارخ في الرأي بين أعضاء شبكة القيادة الفكرية في التنظيم.

والحقيقة أنه يجب فهم بيان «القيادة العامة لتنظيم القاعدة» على أنه امتداد لمحاولات الظواهري الجديدة نسبيا للسير في المنطقة الرمادية بين التوجه الإقصائي الجامح والتوجه الاستيعابي الخاضع للسيطرة داخل حركة عالمية تعاني بشدة من حالة تشظي متفاقمة. إن مجرد وجود هذه الاختلافات يكشف بجلاء أيضا عن الوهن الذي أصاب القيادة العليا للتنظيم، بحيث باتت غير قادرة على السيطرة على الشبكة الممتدة بالطريقة التي كانت عليها في بداية هذه الألفية تحت قيادة بن لادن. وبمحاولة تحقيق التوازن بين التوجهين، ربما يفاقم الظواهري من وهن مكانته على رأس الحركة، مخلفا مصدرا آخر لحالة الفصام ومساحات فراغ جديدة يقفز من خلالها المنتقدون، سواء من المعسكر فائق التشدد أو من المعسكر الأقل تشددا.

الاستراتيجية المحلية.. تحكم

في النهاية، ستواصل القيادة العليا للتنظيم المركزي كفاحها المرير طالما أنها قد باتت – على نحو مبرر – غير ملهِمة وبعيدة كل البعد عن واقع الصراعات المحلية سريعة التطور، سواء في سوريا أو مالي أو اليمن أو المغرب أو في أي مكان آخر من العالم. فالحركة الجهادية بوجه عام تتجه بكل قوتها وعلى نحو متزايد صوب المحلية، حيث يخطو تنظيما القاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام خطوات وئيدة في طريق ديناميات صراعات محلية غير مسبوقة، سواء كانت ناجمة عن العداءات الناشبة بين مجتمعات الرعاة المتنقلة ومجتمعات المزارعين المستقرة في غرب أفريقيا، أو عن عداءات قبلية وجيوسياسية في أجزاء من اليمن.

لقد نكصت رسائل وتعليمات القيادة العليا لتنظيم القاعدة إلى الحركة – على امتدادها – بوضوح إلى استرايجية «الطليعة النخبوية» التي انتهجها بن لادن في عهد غابر، لكن يبدو أن الجماعات الموالية للتنظيم في جميع أنحاء العالم تسير حثيثا في الاتجاه الآخر. وتبقى الاستراتيجية المحلية المبدأ الموجه والحاكم لعمليات هذه الجماعات. على سبيل المثال، يبدو قرار تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بالاحتفاء بالاستفادة من الاحتجاجات السلمية في الجزائر، والتعبير عن «الأمل» في أن يفي «اللاعنف» بتحقيق التغيير المرجو، لا يشبه في شيء التنظيم المركزي الذي يعود أدراجه إلى حقبة بن لادن «فائقة التطرف».

معضلات معقدة

لا يشير أي مما سبق بالضرورة إلى أن التهديد الذي يفرضه تنظيم القاعدة سيتراجع على الأرجح بدرجة كبيرة، وإنما فقط إلى أن طبيعة هذا التهديد ربما ستتباين عما كانت عليه، وستجد قوى مكافحة الإرهاب نفسها نتيجة لذلك أمام معضلات سياسية متفاقمة التعقيد. فالجماعات من شاكلة «هيئة تحرير الشام» ليس لديها أية مصالح في تعقب أهداف خارج الحدود الوطنية السورية، لكن الملاذات الجهادية الآمنة – كما أظهرت حالة طالبان في عام 2001 – يمكن أن تقدم فوائد كبرى للتنظيمات الأقل حجما والأكثر قدرة والتي تسعى إلى ضرب أهداف أبعد من ذلك. ومن خلال التحكم في المعابر الحدودية، وإقامة أنظمة حكم بدائية، تستطيع أيضا جماعات، مثل «هيئة تحريرالشام»، أن تتحول إلى جهات فاعلة حاكمة شبه معترف بها. ومن الممكن أن يدفع الدعم التركي لهيئة تحرير الشام بالجماعة إلى التحول بشكل متزايد إلى نموذج حركة حماس، وهو السيناريو الذي من شأنه أن يحول شمال غرب سوريا إلى ملاذ أكثر أمنا للإرهابيين، ويفاقم أيضا من خطر إضفاء الشرعية على مقاربة «الجهاد الإسلامي» التي تتبناها الجماعات التي تحذو حذو «هيئة تحريرالشام». وإذا أخذنا في الاعتبار الطبيعة الراهنة للعلاقات الروسية التركية، فإن هذا السيناريو القائم على تحول النموذج السوري إلى «النموذج الغزاوي» يبرز بدرجة أكبر باعتباره النتيجة الأكثر احتمالا على المدى المتوسط للصراع المحيط بإدلب.

في البيئة الحالية، يبدو توجه القاعدة نحو مزيد من اللامركزية حتميا في ضوء التحزب المتزايد والتنافس البيني على القيادة داخل الحركة الجهادية. في الوقت نفسه، فإن بواعث ومحفزات تشكيل جماعات شديدة الإحكام وفائقة التشدد من الجهاديين الملتزمين ذوي الخبرات تبقى قائمة وبقوة. ينطبق الأمر نفسه على رغبة تنظيم القاعدة في مواصلة تنفيذ عمليات إرهابية لافتة ضد أهداف كبرى ومهمة، تضم – من بين كيانات أخرى – الدول الغربية. إن ظهور وتضامن جماعات من شاكلة «تنظيم حراس الدين» يقرع بقوة أجراس الخطر. وليس من المحتمل أن تكون هذه التنظيمات آخر ما يخرج من رحم حركة القاعدة، التي ستتأجج رغبتها في تجديد نفسها وبعث الحياة في جسدها بصورة متكررة عبر العمل الميداني.

(انتهى)

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية ومراجع الدراسة من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock