منوعات

طبيعة المصريين.. بين تفاؤل عجيب.. وتشاؤم معيب

اختلف الراصدون الاجتماعيون حول طبيعة الشعب المصري، فمن قائل إنه شعب مرح ضحوك مقبل على الحياة لا يحب الغم والنكد ولا يستريح إلى أهلهما، وقائل إنه شعب ميّال إلى الأحزان وحمْل الهموم، وأن دموعه قريبة في جميع الأحوال، ولا يستريح إلى الممازحات الطويلة المتواصلة..

 والحقيقة أن طبيعة المصريين تتوسط المسافة بين التفاؤل والتشاؤم بالضبط، فهي وسط فيهما بالحق والعدل، فليس المصريون بمتفائلين في المطلق، ولا بمتشائمين في المطلق، إلا أنهم، في خضم اضطرابات فتراتهم الأخيرة، مالوا إلى الجهة السوداء من الموضوع للأسف؛ فبدوا كما لو كانوا خلصاء المواجع والآلام، على عكس طبيعتهم المتوازنة، مما أفقدهم الثقة بأنفسهم نوعا ما، وحدا بكثيرين لا يعرفونهم جيدا إلى وصفهم بالعدميين وما إلى ذلك من الأوصاف.

أسباب التفاؤل والتشاؤم

يتفاءل المصريون بساعة الفجر، إذ يعدونها ساعة ندية مباركة، وبداية نهار يرجونه واسع الرزق وديعا. كما يتفاءلون إذا رمَشت أعينهم اليمنى راجين الأقدار خيرا، وإذا أكلتهم جلود بواطن أيديهم اليمنى منتظرين عطاء وافرا أو ضيفا جليلا وسلاما حميما، ويتفاءلون بصوت البلبل والكروان، ورَجْع الطيور إذا أصاب أبدانهم وملابسهم، ودلق القهوة، والأعياد، والورد، والزغاريد، والجمال الأخاذ، والأشياء الجديدة، والأطفال، والناس الكبار الطيبين.

 وعلى الضفة الأخرى يتشاءم المصريون من الظلام، سائلين الله نورا في الدنيا والآخرة، ومن صوت البومة والغراب (ميراثهم من العرب)، ومن ذكر الحوادث والأمراض والموت والأشباح، ورفيف أعينهم اليسرى مستعيذين بالله من شره، ومن أكلان جلود بواطن أيديهم اليسرى داعين لأنفسهم وذويهم بالسلامة، ومن الألوان الغامقة، والأقفال التي على الأبواب، والأحذية المقلوبة على الأرض، وكنس البيوت ومسحها بعد غياب الشمس، والوجوه المقبضة، والأحلام الكئيبة.

في ختام جملتيْ التفاؤل والتشاؤم، على المستوى الشعبي عند المصريين، سواء أكانا يجريان على هذا النحو في كل مناطق الوطن، أو في أجزاء منها كالصعيد والدلتا بالذات، لثراء المنطقتين بالفلكلور، فإننا يجب أن نؤكد سريان المسألتين على جميع المصريين؛ لأن الجزء دال على الكل في الصميم (بلاغيا على الأقل).

ورغم التفاوت في درجات التعليم والثقافة في مجتمع كبير كالمجتمع المصري؛ يقع الجميع تقريبا في الفخيْن النفسييْن.. التفاؤل والتشاؤم، وقد يبدو الأمر محيرا قليلا عند التركيز على علاقة ذوي الدرجات التعليمية والثقافية الرفيعة بالموضوع. لكن بالنظر إلى طبيعة المجتمع غامض الأحداث شحيح المعلومات، المتحرك بمفاهيمه المتوارَثة في الأغلب، الذي يضع مواطنيه في الحيرة مهما اتسعت آفاقهم؛ فإننا نستوعب المسألة تدريجيا. مع الأخذ في الاعتبار أن كثيرين من ذوي الرتب العلمية والثقافية العالية، يتبنون ما يتبناه المجتمع في توجهاته النفسية من باب المشاركة السطحية لا العميقة، كالمجاراة التي تحقق الارتباط بالمجموع، بحكم اتصالهم، الذي لا مفر منه بمجتمعهم، لكن لا يتركون الأمور تتوغل فيهم توغلا معيبا، لا يليق برتبهم الشامخة.. وإن جرى هذا التوغل عند بعضهم؛ فلطغيان الشائع وندرة محاولات تفكيكه وفقدان القدرة على مقاومته.

تفاءلوا.. تصحوا

تحث الأديان معتنقيها على التفاؤل؛ فالوجود الإلهي بذاته باعث على التفاؤل الذي يضرب الشاؤم في مقتل، قال العارفون بالله: من وجد الله فماذا فقد ومن فقد الله فماذا وجد؟

وفي جميع الأديان تبزغ القيمة نفسها بوضوح تام؛ فما دامت السماء تدبر للإنسان ما يدعم تدبيره لنفسه أو ما يعجز عن تدبيره لنفسه؛ فلماذا يتشاءم أصلا؟!

في الدين الإسلامي آيات قرآنية وأحاديث نبوية، تدعو إلى قتل اليأس واعتماد الأمل، منها قول الله في القرآن الكريم  على لسان يعقوب: «يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون». وقوله تعالى: «يأيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور»، وقوله سبحانه: «ومن يتوكل على الله فهو حسبه». وقوله أيضا: «وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين».

وفي السنة المطهرة، القول الصحيح الجامع للنبي صلى الله عليه وسلم: «لا عَدْوَى ولا طِيَرة ولا هامَّة ولا صَفَر، ويعجبني الفأل». العَدْوَى انتقال الداء من المريض به إلى الصحيح بوساطةٍ ما، والطِّيَرة (بكسر ففتح) التَّطَيُّر والتشاؤم، والهامَّة (بتشديد الميم المفتوحة) ما كان له سم من الحيوانات، والصَّفَر صوت الطائر. آيات كثيرة في الحقيقة وأحاديث تترى، تدعو إلى الشيء نفسه، الذي قد تلخصه الحكمة المشهورة: لا تلعنوا الظلام بل أوقدوا شمعة.

ومن المعجم اللغوي نعرف أن التفاؤل يعني الانشراح ورؤية الأشياء في صور جميلة سارة، بعكس التشاؤم الذي هو حالة نفسية تقوم على اليأس والنظر إلى الأمور من الوجهة السيئة، والاعتقاد بأن كل شيء يسير على غير ما يرام. وقد تفرغ فلاسفة ومفكرون للبحث في المسألتين عبر التاريخ، وخلصوا إلى نتائج شتى متوافقة ومتناقضة، لعل أهمها أن المسألتين بالأساس وهميتان وليستا حقيقيتين، وبمثابة وجهين لعملة واحدة، ويتوقف الأمر على الإنسان نفسه. فأما إن كان قوي الروح، مغالبا ما يواجهه مال إلى الناحية التفاؤلية، وإما إن كان هشا ذا طباع هروبية، مال إلى الناحية الثانية.

وكما أشرت، ابتداء، إلى عدم تشدد المصريين في مسألتي التفاؤل والتشاؤم عموما، مع كثافة حدوثهما لدينا، إلا الحالات الفردية المتشددة لمعنى فيهما أو لمعنييهما لكنها لا يقاس عليها بالطبع. لكننا بالطبع نريد انحيازا أكبر إلى جهة الأمل، ولا يكون ذلك سوى بحث جهات المعلومات على بسط يدها بها إلى من يحتاج إليها، لكي لا يتوه الإنسان ويتخبط، بقوة، بين أمل ويأس، وحث المثقفين النيرين على إبراز قيمة التفاؤل في الوجود البشري، مع تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، ودعم التفكير العلمي، والحرص التام على خلق أجواء عامة مطمئنة لا مريبة.   

عبد الرحيم طايع

شاعر وكاتب مصري
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock