فن

الأبوان وأرطغرل

بمجرد أن انتهيت من مشاهدة فيلم «الأبوان – The Two Popes» وجدتني أتساءل: هل هناك مساحة ثقافية واجتماعية في مصر لتناول الشخصيات الدينية، التي تحظى بقدر من القدسية، بهذا الطابع الإنساني الذي قدمه الفيلم؟

جاءتني الإجابة أسرع مما تخيلت حين عثرت على خبر تحذر فيه دار الإفتاء المصرية من مشاهدة مسلسل أرطغرل التركي، لأسباب سياسية أوردتها دار الإفتاء!

لست هنا بمعرض الحديث التفصيلي عن فيلم «الأبوان»، وهو من إخراج البرازيلي، فيرناندو ميريليس، ومن بطولة أنتوني هوبكينز وجوناثان برايس. إلا أن ما لفتني هو ذلك التناول لشخصيات دينية كاثوليكية، تحظى بتقديس الملايين من معتنقي المذهب الكاثوليكي، بما فيهم المخرج، ذو الخلفية الكاثوليكية، الذي نزع القدسية عن المقدس.

تجارب أليمة

تعرض الفيلم لأعلى شخصية كاثوليكية، لها قداسة دينية، بشكل شديد الإنسانية، فقدم شخصية البابا بنديكت، المثير للجدل، بسبب آرائه المحافظة، والتي تزامنت مع تورط بعض القساوسة الكاثوليك في التحرش الجنسي بأطفال، وسجن السكرتير الشخصي للبابا عقب تسريبات فضحت علمه بالجريمة التي اقترفت في حق الصغار، ثم الحدث التاريخي الأكبر، وهو تنازل البابا بنديكت عن مقعد البابوية، وانتخاب البابا فرانسيس، برازيلي الأصل، والذي مر بتجارب قاسية، وربما تورط في أفعال سياسية تشعره بالخزي، مما أدى به إلى التطور التدريجي والانتقال من فريق المحافظين إلى فيلق المجددين.

السؤال الذي طرح في الفيلم: لماذا يترك الناس الإيمان الكاثوليكي ويذهبون إلى إيمان آخر، أو إلى اللا إيمان؟

وجاءت الإجابة المفترضة: لأن الكنيسة الكاثوليكية هي الأكثر تشددا فيما يتعلق بحقوق المرأة، والمثليين، والطلاق، وغيرها من القضايا المعاصرة التي طالما تشبثت الكنيسة  بآرائها المحافظة بشأنها.

كفنان، ينحاز ميريليس للمدرسة المجددة في الكنيسة الكاثوليكية، ويقوم بتحليل شخصيتين أحدهما متشبثة بالمحافظة، والأخرى تطورت بسبب تجارب وضعتها في مرآتها.

الفيلم لم يجسد الشخصيات باللونين الأبيض والأسود كما هو المعتاد في الأفلام الدينية العربية على سبيل المثال: فالكافر ملطخ الوجه لا يستحم ولديه حاجبان كثَّان بشكل مبالغ فيه، والمؤمن يرتدي الملابس البيضاء، تخرج الكلمات من فمه متقطعة بتنهدات وهو ينظر دائما للأعلى. أما هذا الفيلم فقد تناول الضعف الإنساني والشعور بالوحدة وربما قلة الخبرة الحياتية التي عانى منها البابا بنديكت، والتي أدت به إلى التشبث بمواقفه المحافظة، ثم الاصطدام بزيف كل ما كان يتشبث به. كما تناول أيضا الاهتزازات النفسية، والشعور بالخزي والعار الذي لحق بالبابا فرانسيس حين كان في الأرجنتين وتواطأ مع السلطة العسكرية ضد أصدقائه، متخليا عنهم، ومتسببا في سجنهم وتعذيبهم. هذه التجربة الأليمة، التي أشعرت جورج ماريو بيرجوليو (البابا فرانسيس) بالصغار وربما احتقار الذات، هي التي أدت إلى عزله من الكنيسة بعد إزاحة الحكم العسكري وانتصار الديمقراطية، ولولا هذا الشعور بالخزي لما فكر بيرجوليو فيما مضى من حياته، ولما غيّر أفكاره وطريقة تناوله للدين.

«- لقد تنازلت..

– لا… لقد تغيرت، التغير شيء آخر

– التغير تنازل»

هذا حوار دار بين البابا بنديكت والكاردينال بيرجوليو، حين طلب الأخير الاستقالة والعودة إلى الوعظ في أي أبرشية في أي قرية نائية، كان بنديكت يلومه على تغيير آرائه بشأن الطلاق والمثليين والنساء.

في هذه اللحظة كان البابا بنديكت يشعر بالقوة، إلا أن تعرض الكنيسة للارتباك بسبب حادث تعرض أطفال للاغتصاب من قبل بعض القساوسة، وسجن السكرتير الخاص به، وشعور بنديكت بالذنب والرغبة في الاعتراف والتطهر، يغير بنديكت ويجعله يفاتح بيرجوليو في أمر تنازله عن مقعد الباباوية، فيتكرر نفس الحوار لكن معكوسا، فيقول له بيرجوليو: لقد تنازلت.

بنيديكت: لا… لقد تغيرت.. التغير شيء آخر.

ينتهي الأمر بتنازل بنديكت وانتخاب بيرجوليو: البابا فرانسيس الحالي.

مافيش بيان إدانة؟!

بالرغم من تعرض الفيلم لشخصيتين من المفترض أنهما مقدستان بالنقد والتحليل وربما تعرية الضعف النفسي والجانب الإنساني المظلم لكل شخصية، لم نسمع عن اعتراض من الكنيسة الكاثوليكية على الفيلم، أو بيان إدانة، أو مطالبة بوقف عرض الفيلم، أو تظاهرات كاثوليكية منددة بالفيلم الذي يهدم الثوابت، أو تدخلات من دول تحمل لواء الكاثوليكية وتمنع عرضه، أو تهديدات بالقتل للمخرج، أو قضية ازدراء باباوات مرفوعة ضد صناع الفيلم، أو حتى قضية سب وقذف يرفعها البابا بنديكت الذي أظهره الفيلم متسترا على مغتصبي أطفال، أو البابا فرانسيس الذي أظهره الفيلم خائنا للثوار البرازيليين.

على الجانب الآخر: لا كهنوت في الإسلام!

لا والله؟

طيب، هيا بنا لنرى.

لن أطرح خيالات بشأن تناول شخصيات دينية تاريخية أو معاصرة، أو أفترض أن الشخصيتين المقدمتين في الفيلم هما لشيخين أزهريين، أو صحابيين، لأن الأمر لا يستدعي ترك العنان للخيال، فلدينا في الواقع ما يفوق الخيال: حول كاتب راحل أبدى رأيه في عمرو بن العاص، أو كاتب حي يرزق أبدى رأيه في خالد بن الوليد، أو كاتب شاب أبدى رأيه في الأئمة الأربعة – الأخير سجن لمدة عام – أو كاتبة أبدت رأيها في طقس ديني ما، أو  شابة كتبت تعليقا حول تأففها من آراء أحد الشيوخ – الشيخ الشعراوي بدون ذكر أسماء – أو رسم كاريكاتيري، أو تسجيل مصور على مواقع التواصل الاجتماعي لمجموعة من المراهقين، فصلوا بعد ذلك من مدارسهم، وكل هذه الأمثلة التي أثارت حفيظة الدولة وبلدي وحبايبي والمجتمع والناس، لم تتعد آراء تم التعبير عنها بجمل خاطفة سريعة، وبعضها كان تعليقات عابرة على مواقع التواصل الاجتماعي، فما بالك بفيلم كامل؟

أما بشأن الكهنوت، فلنعد مرة أخرى للخبر الذي أوردته في بداية المقال:

دار الإفتاء تدعو الناس «لعدم مشاهدة» مسلسل! ثم تبرر التحذير من مشاهدة هذا المسلسل، وتعزي أسباب تحذيرها منه لمرجعية سياسية، حيث قالت دار الإفتاء في تحذيرها من المسلسل: «الرئيس التركى رجب طيب أردوغان لم ولن يتوانى عن إحياء حلمه باستخدام كافة القوى، سياسيًّا أو دينيًّا أو حتى عبر القوى الناعمة عن طريق الأعمال الثقافية والفنية».

وأضافت دار الإفتاء: الرئيس التركى يستخدم كافة أسلحته وكذلك قواه الناعمة لتحقيق الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، ومن أهمها توظيف الخطاب الدينى والفتاوى بنسبة 40% سواء داخليًّا أو خارجيًّا، ولفت المؤشر إلى سعى أردوغان للهيمنة وترسيخ حكمه الديكتاتورى عبر فتاوى الداخل التركى بنسبة 30%، أما في الخارج، وبنسبة 70% فإنه يجنّد بعض مفتي جماعات الإسلام السياسى مثل تنظيم الإخوان الإرهابى وميليشيات التطرف في أكثر من دولة.

ولنا هنا وقفة: ما شأن دار الإفتاء بمسلسل تلفزيوني؟ وما شأن المسلسل التلفزيوني بدعم أردوغان لجماعة الإخوان وداعش؟ وما دخل دار الإفتاء في نقد حكم أردوغان الديكتاتوري؟ وما دخل نقد الديكتاتورية في التحذير من مشاهدة مسلسل؟ وما الذي أتى بالقلعة جنب البحر؟، وأين يقف المواطن المصري المسلم من هذا التحذير؟ هل يجب عليه أن يصلي ركعتين استغفارا لله إذا ما شاهد إحدى حلقات هذا المسلسل – الذي لم أشاهده لإنني لا أحب المسلسلات التركية – أم عليه إخراج صدقة ككفارة على فعلته؟

ما هو دور دار الإفتاء تحديدا في مصر؟، ومن هي الجهة المنوط بها التصدي لمحاولات تركيا للهيمنة على المنطقة؟، وكيف تكون مشاهدة مسلسل ما لها صلة بكل هذا؟

وبما إن دار الإفتاء قد تركت الفتيا الدينية وتفرغت لمتابعة الأعمال الفنية، فلماذا لا تطالب الفنانين المصريين بتقديم أعمال فنية جيدة لدعم «القوى الناعمة» المصرية؟ وقبل أن تطالبهم، عليها أن تعطيهم الأمان: الأمان من قضايا ازدراء الأديان، الأمان من بيانات الإدانة، الأمان من مطالبات المنع، الأمان من السجن، الأمان من التهديدات بالقتل، كي يتمكنوا من الإنتاج والإبداع بحرية، فلا إبداع تحت التهديد.. إلا أننا نحمد الله على عدم وجود كهنوت لدينا. قدر ولطف.

المؤشر العالمي للفتوى يحلل فتاوى- الخطاب الإفتائي في الداخل التركي وخارجه وظِّف لخدمة أعمال أردوغان التوسعية- …

Posted by ‎المؤشر العالمي للفتوى‎ on Saturday, February 8, 2020

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock