منوعات

هيكل يتتبع محطات مبارك من المنصة إلى الميدان

بعد أيام قليلة من احتجازهم على ذمة اعتقالات سبتمبر الشهيرة عام 1981، وصل إلى المعتقلين السياسيين بسجن طرة خبر اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، تضاربت مشاعر هؤلاء بين الفرح لرحيل الرجل الذي احتجزهم خلف الأسوار وبين القلق على مستقبل الدولة التي تمكنت فيها جماعات العنف الأصولي من اغتيال رئيس الدولة وسط أبنائه من قادة وجنود القوات المسلحة.

في تلك الأثناء انسحب الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل من ساحة التريض وذهب إلى زنزانته وأغلق بابها على نفسه، واندفع في بكاء عنيف، سمعه زملاؤه وهو يتلو بصوت جميل قول الله عز وجل: «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير».

الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل

بعد ثلاثة أشهر خرج المعتقلون من السجن جميعا إلى قصر رئاسة الجمهورية، والتقوا بالرئيس الجديد محمد حسني مبارك الذى قال للكل يومها: «أريد أن ننسى ما حدث، وأريد صفحة جديدة وأريد تعاون كل القوى في مصر»، بحسب ما نقل الكاتب الصحفي صلاح عيسى في كتابه «شخصيات لها العجب».

 

الأستاذ والرئيس في قصر الرئاسة

بعد اللقاء الجماعي مع الرئيس الجديد تلقى الأستاذ هيكل دعوة للإفطار مع مبارك، وقبل الموعد المحدد زار هيكل صديقيه القديمين أسامة الباز مستشار الرئيس حينها ومنصور حسن وزير الدولة لشئون الرئاسة، وكلاهما يعرف مبارك معرفة دقيقة، وخلال حواره معهما أكد هيكل لهما أنه لا يريد علاقة خاصة مع مبارك ولا يسعى إلى صدام، وإنما يريد ومن بعيد علاقات عادية.

أسامة الباز، منصور حسن

وسأل هيكل صديقيه حسب ما أورده في كتابه «مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان»: كيف أتعامل مع صاحبكما فى هذه الحدود، خصوصا أننى كما قلت أعرف دواعى التزامه بسياسات لا أعتقد فى صحتها، ومن ناحية ثانية فإننى أراه أمامى شخصية أعقد بكثير من انطباع عام لدى الناس أشاع عنه نكتة «البقرة التى تضحك»، بينما هو فى ظنى شخصية أكثر تعقيدا.

رد الباز على هيكل قائلا: أنك على صواب فى طرح حكاية «البقرة التى تضحك» جانبا، لأنها بالفعل تبسيط لشخصية مركبة، وأضاف ناصحا: إذا طلبت رأيى فلدى ملاحظتان، أولاهما: لا تتطرق فى الحديث معه إلى أى قضية فكرية أو نظرية، فهو ببساطة يجد صعوبة فى متابعة ذلك، لأنه أقرب إلى ما هو عملي منه إلى ما هو فكري أو نظري، وإذا جرت معه محاولة للتبسيط بالشرح، فإنه سوف يشرد من محدثه.

والثانية: أننى أعرف أسلوبك فى الحديث، تستطرد فيه أحيانا، ثم تذهب إلى خاطر يلوح أمامك، ثم تعود إلى سياقك الأصلى بعده. لكن مبارك لن يتابعك فى ذلك، كلِّمه فى موضوع واحد فى المرة الواحدة، ولا تدع الموضوعات تتشعب، وإلا فسوف تجد نفسك تتكلم بعيدا، وهو ليس معك.

في بداية اللقاء، قال هيكل للرئيس الجديد فور جلوسهما إنه «فكر بالأمس أن يطلب الرئاسة، راجيا تغيير موعدنا، لأنه قرأ في الصحف عن مشاورات يجريها مبارك لتعديل وزاري أعلن عنه»، وخطر إلى هيكل، أن موعده مع الرئيس قد يُحدث التباسا وخلطا لا ضرورة له، بين لقاءاته فى إطار التعديل الوزارى، وبين لقاءاته العادية الأخرى وضمنها موعده، وأول الضحايا في هذا الخلط والالتباس سوف يكون فريق الصحفيين الذين يغطون أخبار الرئاسة.

محمد حسنين هيكل وحسني مبارك

فرد مبارك وهو يبتسم: وماذا يضايقك في ذلك.. اتركهم يغلطوا، وأضاف: دول عالم «لَبَطْ»، اتركهم يغلطوا حتى يتأكد الناس أنهم لا يعرفون شيئا، إن الصحفيين يدَّعون أنهم يعرفون كل شيء، وأنهم «فالحين قوي»، والأفضل أن ينكشفوا أمام الناس على حقيقتهم، وأنهم «هجاصين» لا يعرفون شيئا.

فرد عليه هيكل: لكن سيادة الرئيس هذه صحافتك، أقصد «صحافة البلد»، ومن المفيد أن تحتفظ لها بمصداقيتها، ولا بأس هنا من جهد لإبقاء الصحفيين على صلة بالأخبار ومصادرها. لكن مبارك ظل على رأيه لم يغيره وقال: «إنه إذا عرف الصحفيون أكثر، فسوف يتلاعبون بي»، فاحتج هيكل: سيادة الرئيس أنت تسىء الظن بإعلامك، وأنا أعرف بعضا من شيوخ المهنة وشبابها، وأثق أنهم لن يتلاعبوا في أخبار، فضلا عن أسرار.

فقال مبارك: لا تزعل يا محمد بيه، إذا قلت لك إنني لم أكن أقرأ مقالاتك رغم إنني أسمع أن كثيرين يقرأونها، ولا أخفى عليك أننى كنت أمنع ضباط الطيران من قراءتها، فتساءل هيكل عن سبب ذلك فرد عليه مبارك: ما كان يحدث أن مقالك بصراحة يُنشر في «الأهرام» يوم الجمعة، ثم يجىء الضباط يوم السبت وقد قرأوه، وكلهم متحفزون لمناقشته، وكثيرا ما كانوا «يتخانقوا»، وأنا لا أريد في السلاح «خناقات» ولا سياسة.

وأضاف: أما عني أنا، فقد كنت لا أقرأ مقالاتك لأني عندما حاولت، لم أفهم ماذا تريد أن تقول في نهاية المقال، ومقالك دائما ينتهي دون أن «نرسى على بر».

خلال لقاء الست ساعات، طلب مبارك من هيكل الانضمام إلى الحزب الوطني، لكنه رفض متعللا أن الصحفي أفضل له ألا يتحزب، بل وطالبه هو بتجميد عضويته في الحزب لأنه -أي الحزب- يستمد بذلك وجوده من السلطة وليس من الناس وهذا هو الخطر، فرد مبارك: تخوفك من الحزب الوطني مُبالغ فيه، ووجودي فيه ليس المشكلة، المشكلة فى العمل التنفيذي، فى الحكومة وأنت تعرف حجم المشاكل، وزاد علينا خطر الإرهاب، والناس بتطلب «لبن العصفور»، ولابد من الاستقرار قبل أن نستطيع عمل أى شيء، والجماعات الإرهابية كامنة، وتنتشر تحت الأرض.

اتنهى اللقاء، بالاتفاق على لقاءات أخرى، وأعطى مبارك لهيكل أرقام هواتف الرئاسة المباشرة، وطلب منه الاتصال به أو بمستشاره أسامة الباز لو كان هناك ما يريد أن يطرحه أو ينصح به، ألا أن هيكل أدرك قيمة الرجل الذي يتعامل معه، وحدد معالم شخصيته ومفاتيحها من خلال هذا الحوار الذي أعقبته لقاءات واتصالات محدودة.

رحلة البحث عن مبارك

على امتداد صفحات كتاب «مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان» حاول الأستاذ البحث عن الرجل ذاته قبل النظر فى ألبوم صوره، «عُدت إلى ملفاتي وأوراقي، ومذكراتي وذكرياتي عن حسني مبارك، ثم وقع بمحض مصادفة أننى لمحت قصاصة من صحيفة لا أعرف الآن بالتحديد ما دعاني إلى الاحتفاظ بها ثلاثين سنة، لكنى حين نزعتها من حيث كانت وسط المحفوظات ــ رُحت أقرؤها وأعيد قراءتها ــ متفكرا!!»

كانت تلك القصاصة مقالا منشورا فى جريدة «الواشنطن بوست» فى يوم 7 أكتوبر 1981، وفى بداية المقال جملة توقف عندها هيكل، «فى الغالب بنفس الشعور الذى جعلنى أحتفظ بها قبل ثلاثين سنة!!» نقلت الجملة خبر مفاده أن الأخبار من القاهرة بعد اغتيال الرئيس السادات تشير إلى أن الرجل الذى سوف يخلفه على رئاسة مصر هو نائبه حسنى مبارك ــ ثم تجىء جملة تقول بالنص: «إنه حتى هؤلاء الذين يُقال إنهم يعرفون مبارك هم فى الحقيقة لا يعرفون عنه شيئا».

ويضيف هيكل: الآن وبعد ثلاثين سنة وقفت أمام هذه الجملة، وشىء ما فى مكنونها يوحى بأنها «مفتاح» المقال كله، لأننا بالفعل أمام رجل رأيناه كل يوم وكل ساعة، وسمعناه صباح مساء، واستعرضنا الملايين من صوره على امتداد ثلاثين سنة، لكننا لم نكن نعرفه ولا نزال!

«إذا لم تكن للرجل صورة معتمدة تؤدى إلى تصور معقول عنه، فكيف أتفرغ شهورا لجمع ونشر ما سمعت منه مباشرة خلال مرات قليلة تقابلنا فيها، أو ما قلته له بطريق غير مباشر ــ أى بالحوار والكتابة والحديث ثلاثين سنة؟!»، يسترسل هيكل محاولا رسم صورة تفصيلية عن الرجل الذي حكم مصر نحو 30 عاما.

ويقول: ترددت، لكننى بإلحاح أن تلك ثلاثين سنة بأكملها من حياة وطن، وهى نفسها ثلاثين سنة من المتغيرات والتحولات فى الإقليم وفى العالم، قادنا فيها رجل لا نعرفه إلى مصائر لا نعرفها ــ فإن زمان هذا الرجل يصعب تجاوزه أو القفز عليه مهما كانت الأسباب، مع أن هناك أسبابا عديدة أبرزها أن التاريخ لم ينته بعد كما كتب بعض المتفائلين من الفلاسفة الجُدد!!

سئل هيكل نفسه عن السبب الذى دعا الجميع إلى هذا التقصير فى البحث عن الرجل ذاته، وكيف تراكم التقصير فى التعرف عليه ثلاثين سنة؟، «كان التفسير متعدد الأسباب وكلها منطقية، لكنها تاهت فى الزحام: ــ بعض الناس تلقفوه حين وجدوه، ولم يتوقفوا أمام شخصيته وهى تقفز من المنصة إلى الرئاسة، فقد أخذهم هول ما وقع على المنصة، وتمسكوا بمن بقى بعده!!»

وبعضهم أخذه الظاهر من الرئيس الجديد واستخف بما رأى، واعتبره وضعا مؤقتا لعبور أزمة، وبالتالى فالإطالة فى تحليله إضاعة للوقت!! وبعضهم شدته الوقائع التي ظهر الرجل طرفا فى معمعتها، واستطاعت الصورة العامة للأحداث الكبرى التى دهمت المنطقة أن تستوعب دوره ضمن الأدوار، ومع قيمة مصر فإن الجالس على قمتها التحف برايتها، وساعده الطامعون فى إرث الدور المصرى على تحويل هذه الراية إلى برقع يستر ملامح متغيرة للسياسة المصرية!!

وبعضهم خصوصا من أجيال الشباب نشأوا وشبوا ولم يعرفوا رئيسا غيره، وبالتالى فإن أجيالا تعوَّدت عليه، وتأقلمت بالتطبيع على وجوده. وبعضهم رغبة فى راحة البال تجاهل السؤال عن الرجل، واستعاض عنه بقبول جواب معبأ يصنعه إعلام يأتمر بالغلبة ــ غلبة السلطة ــ أو غلبة الثروة فى مصر، وكان لسوء الحظ إعلاما فقد تأثيره، وإن بقى هديره!! «ولعل.. ولعل.. وكلها علامات استفهام تحار فيها الظنون، لكن الواقع قبل وبعد أى شىء أن الرجل بقى على القمة فى مصر ثلاثين سنة!!».

 

سلطة شاخت في مواقعها

جرت في النهر مياه كثيرة، وحدث ما توقعه هيكل، انحيازات مبارك لا تختلف عن انحيازات سلفه، مواقفه من أمريكا وإسرائيل وتعامله مع قضايا الأمن القومي، استئثاره بالسلطة ونقضه لكل عهوده، دفعت الأستاذ إلى الانتقال من مربع المراقب بحذر إلى المعارض لسياسات وتوجهات نظام مبارك.

فى ١٠ يونيو ١٩٩٥ أرسل هيكل رسالة إلى الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين احتجاجا على القانون ٩٣ الذى استهدف وضع قيود على الصحافة والصحفيين، وأطلق عليه حينها قانون «اغتيال الصحافة»، قرأها على الصحفيين يحيى قلاش سكرتير عام النقابة، وكان نصها يحتوى على ما يمكن اعتباره مواجهة مباشرة مع نظام مبارك.

يحيى قلاش

قال هيكل في رسالته: إن هذا القانون استفزنى كما استفزكم، واستفز الرأى العام وحملة الأقلام وكل القوى السياسية والنقابية والثقافية فى هذا البلد، فالأسلوب الذى اُتبع فى تصميمه وإعداده وإقراره هو- فى رأيى – أسوأ من كل ما احتوته مواده من نصوص.

وأضاف: أشهد آسفا أن وقائع إعداد القانون كانت أقرب إلى أجواء ارتكاب جريمة منها إلى أجواء تشريع أحكام.. إن هذا القانون فى ظنى يعكس أزمة سلطة شاخت فى مواقعها، وهى تشعر أن الحوادث تتجاوزها، ثم إنها لا تستطيع فى نفس الوقت أن ترى ضرورات التغيير، وهنا لا يكون الحل بمعاودة المراجعة والتقييم، ولكن بتشديد القيود وتحصين الحدود، وكأن حركة التفكير والحوار والتغيير تستحق أن توضع فى قفص.

ويقول هيكل في كتابه «مبارك وزمانه»: «أصبح تعبير سلطة شاخت فى مواقعها على كل لسان، بل أصبح شعار كل المعارضين لسياسة مبارك، وظل كذلك حتى لحقته قضية التوريث، ثم جاءت محاضرة لى فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة نوفمبر 2002، تحدَّثت فيها عن احتمالات التوريث، ونبَّهت إلى مخاطره، وثارت عواصف الغضب.. وكان داعى الغضب فجائيا: من ناحية لأن السر تفجر فى العلن، ومن ناحية أخرى لأن تفجير السر وقع على غير انتظار.

يعدد هيكل أسباب غضب مبارك منه بعد إذاعة محاضرة الجامعة الأمريكية على قناة دريم ويقول: كانت المحاضرة قد أذيعت على «دريم» ثلاث مرات فى يومين، ثم تنبَّه المحتفلون إلى آثارها، فإذا عاصفة الغضب تطيح بكل من كان له دخل فى إذاعتها وتكرار إذاعتها وتركز الغضب على رجل وسيدة كان لهما دور فى تكرار إذاعة المحاضرة، وهما المهندس أسامة الشيخ «مدير قناة دريم وقتها»، والدكتورة هالة سرحان «منسقة برامجها»، ونجا صاحب القناة الدكتور أحمد بهجت بشبه معجزة، وقال لى بنفسه بعدها: إن إذاعة هذه المحاضرة كانت على وشك أن تكلفه 2 مليار جنيه، لولا أن قدَّر الله ولطف، واستطاع شرح موقفه لمن يعنيهم الأمر.

ورغم تعقد العلاقة بين نظام مبارك وهيكل الذي ضرب أول معول في مشروع التوريث، ألا أن مبارك اتصل به عندما أصيب بأزمة صحية في ديسمبر 2003، وعرض عليه أن تتكفل الدولة بعلاجه، لكن الأستاذ رفض العرض وشكره.

مشاهد النهاية

بعد تلك المكالمة توقفت الاتصالات بين هيكل ومبارك،غير أنه –وكما يقول – «لكن حوارى مع سياساته لم يتوقف، حتى وصلنا إلى سنة 2010، وكان رأيى أن نظام مبارك انتهى تاريخيا، حتى وإن بقى على قمة السلطة فى مصر سياسيا، وأن هناك انتقالا ضروريا للسلطة لابد من الترتيب له، وعرضت تصورا متكاملا يقوم فيه ما سميته مجلس أمناء للدولة والدستور بإدارة مرحلة الانتقال، وفى حضور القوات المسلحة ممثلة فى المشير محمد حسين طنطاوى، ورشحت لعضويته أسماء رجال طرحها الناس فى أحاديثهم بعفوية كمرشحين صالحين للرئاسة، ومن المفارقات أن معظم من رشحتهم الآن على رأس القائمة فى سباق رئاسة الجهمورية بعد 25 يناير 2011».

محمد حسين طنطاوى

ويقول هيكل: حين جاء يناير سنة 2011 فقد حدث أن تذكرت ما بدأت به من استعادة لمقولة أندريه موروا: أن غير المتوقع يحدث دائما، وأبعد الظنون أقربها إلى التحقيق! ذلك أن الذين وضعوا استثماراتهم المهولة على مبارك كانوا أسرع الجميع إلى التخلى عنه بعد أن تجلى إصرار كتل الجماهير وطلائع الشباب معا على أن الشعب يريد إسقاط الرئيس. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية بين أوائل من سحبوا استثماراتهم على مبارك، فقد كان تصميمهم على أن مصر لا يجب أن تضيع من أيديهم مرة أخرى، هو رهانهم الحقيقى. ويطرح هيكل تساؤلاَ: كيف استطاع هذا الرجل أن يجلس على رئاسة مصر ثلاثين سنة؟ ثم كيف استطاع شعب مصر أن يصبر ثلاثين سنة ؟

ويجيب «بالنسبة لـ«كيف» الأولى فالجواب على سؤالها: إنه حظه طالما استطاع البقاء!»، وأما «كيف» الثانية فجواب سؤالها: أنها مسئولية الشعب المصري كله لأنه هو الآخر استطاع – استطاع بالصبر والصمت – وإظهار السأم والملل أحيانا – حتى جاءت ثورة 25 يناير 2011، وعندما لم يعد الصبر قادرا، ولا الصمت ممكنا، ولا الملل كافيا!

ويتساءل هيكل أيضا عن كيف انهارت الصورة الأكثر بهاءً، باعتباره قائداً لما أطلق عليه وصف «الضربة الجوية» – إذن فكيف نزلت «الأسطورة» إلى تلك الصورة التي رأيناها بظهوره ممدداً على سرير طبي وراء جدران قفص في محكمة جنايات مصرية، مبالغاً في إظهار ضعفه، يرخى جفنه بالوهن.

«إذا ما اعتمدنا وصف مبارك لعصره، زاعماً أنه زمن الإنجاز الأعظم في التاريخ المصري منذ محمد على – إذن فكيف يمكن تفسير الأحوال التي ترك مصر عليها، وهى أحوال تفريط وانفراط للموارد والرجال، وتجريف كامل للثقافة والفكر، حتى إنه حين أراد أن ينفى عزمه على توريث حكمه لابنه، رد بحدة على أحد سائليه وهو أمير سعودي تواصل معه من قديم، قائلاً بالنص تقريباً: يا راجل حرام عليك، ماذا أورث ابني – أورثه خرابة؟!»

ويتابع هيكل: لم يسأله سامعه متى وكيف تحولت مصر إلى خرابة حسب وصفه، وهل تولى حكمها وهى على هذا الحال؟ وإذا كان ذلك فماذا فعل لإعادة تعميرها طوال ثلاثين سنة؟ وهذه فترة تزيد مرتين عما أخذته بلاد مثل الصين والهند والملايو لكى تنهض وتتقدم.

ثم إذا كان قد حقق ما لم يستطعه غيره منذ عصر محمد على – إذن فأين ذهب هذا الانجاز، وكيف تحول – تحت نظامه إلى خرابة، ثم لماذا كان هذا الجهد كله من أجل توريث خرابة خصوصاً أن الإلحاح عليه كان حقل الألغام الذي تفجر في وسطه نظام الأب حطاماً وركاماً، مازال يتساقط حتى هذه اللحظة بعد قرابة سنة من بداية تصدعه وتهاويه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock