رؤى

«السلفية».. الفكرة الخائفة في عصر عاصف بالأفكار (2-2)

أثار معبد الجهني و الجهم بن صفوان وغيلان الدمشقي جدلا هائلا بأفكارهم عن القدرية وعن الصفات الإلهية، وهم الذين أخذوا بذرة أفكارهم من رجل غامض يدعى سوسن العراقي، وهؤلاء عرفوا بالمتكلمين، وكان تفنيد آرائهم وكلامهم أحد أهم أسباب ظهور ما يعرف بالسلفية في التاريخ الإسلامي.

 وقد قتُل هؤلاء جميعا لأسباب يختلط فيها السياسي بالديني، مما جعل البعض يسمي عصرهم بعصر آباء المتكلمين ،تشبيها بعصر الآباء المسيحي الذي استشهد فيه العديد من اللاهوتيين ورجالات الدين المسيحي.

فأما معبد الجهني فقد مات مصلوبا، بعدما أهين إهانات مريرة أوردتها كتب المؤرخين.. يقول الذهبي في (سير أعلام النبلاء) «كان الحجاج بن يوسف الثقفي يعذب معبدا الجهني بأصناف العذاب، ولا يجزع، ثم قتله، وقال سعيد بن عفير: «في سنة 80 هجريا صلب الخليفة عبد الملك بن مروان معبدا الجهني في دمشق»، أما غيلان فقد قتله الخليفة هشام بن عبد الملك في مجلس الخلافة، ويروى ابن عساكر أن الخليفة الحانق على غيلان قبلها بسنوات، أحضره وزعق فيه قائلا: «مد يدك» فمدها فضربها الخليفة بالسيف فقطعها، ثم قال «مد رجلك» فمدها فقطعها، وبعد أيام مر رجل بغيلان وهو موضوع أمام بيته بالحي الدمشقي الفقير، فقال له الرجل ساخرا: يا غيلان إنه القضاء والقدر. فقال غيلان كذبت والله ما هذا قضاء ولا قدر، فلما سمع الخليفة أرسل إلى غيلان من حملوه من بيته وصلبه على باب دمشق.

وأما الجهم بن صفوان فقد قتله الأمير (سلم بن أحوز) بأصفهان، مع أن الجهم كان لديه عهد أمان من ابن القاتل، وحين أخبر الجهم الأمير بذلك رد عليه سَلم بقوله «ما كان ينبغي له أن يفعل، ولو فعل ما أمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة دنانير، وأبرأك إليَّ عيسى ابن مريم، ما نجوت، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك، وقتله».

فإلى هؤلاء الثلاثة، بالإضافة إلى سابقهم عبد الله بن سبأ وكذلك الجعد بن درهم يرجع السبب في ظهور العديد من الفرق، كالخوارج والروافض، ونشوء العديد من القضايا التي أصبحت موضوعات للجدل بين الفرق الكلامية، مثل الحديث عن الذات والصفات، وقضايا الجبر والاختيار، والإمامة، وموقع العاصي بين الكفر والإيمان، وقضية خلق القرآن التي كاد يهلك فيها الإمام احمد بن حنبل، وغيره من الأئمة،

ثقافة «الفرقة الناجية»

 أسست مقالة الجهمية «نسبة إلى الجهم بن صفوان» لما عٌرف بالتأويل الذي اعتبرته السلفية أصل الفتنة في تعطيل النصوص والتجاوز عن معانيها الظاهرة، التي أنزلت من أجلها لغة وشرعا إلى آراء مدخولة تحملها الجماعات الباطنية والغنوصية وما إليهما من الجماعات السرية التي كانت تكيد للإسلام، وتهدف إلى هدم الشريعة الإسلامية- للنصوص، بهدف بلبلة ما استقر في قلوب المسلمين وامتزج في نفوسهم من عقائد واضحة لا لبس فيها ولا غموض.

كان هذا الطرح تاريخيا كفيلا بأن يدفع جماعة من فقهاء المسلمين إلى التقوقع على ذواتهم، بحجة الدفاع عن نقاء العقيدة الإسلامية من تنطع المؤولين،ومكائد المنافقين الذي حملوا الإسلام رياءً، بينما يسعون إلى إرباك عقائد المسلمين من الداخل، وباتت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم في تفرق المسلمين على اثنين وسبعين شعبة في طريقها للتحقق، وهكذا سادت ثقافة الفرقة الناجية، بحيث ينظر كل فريق للآخرين باعتباره الناجي الوحيد، بينما مصير الآخرين إلى النار.

وقد تصدى علماء السلف، وعلى رأسهم سفيان بن عيينة، والحسن البصري لعقائد هؤلاء المتكلمين الأوائل، غير أن (التأويل) كان قد وجد طريقه لدى عدد من الفرق، وعلى رأسها المتصوفة الذين بدأوا في التحول من المرحلة الأخلاقية إلى المرحلة النفسية والسلوكية، والمعتزلة الذين حاولوا إعمال العقل في إقرار العقائد.

 ثم ظهرت جماعة أخرى في القرن الرابع الهجري استحوذت لنفسها بلقب (السلف)، وكانوا في جملتهم من أتباع مدرسة الإمام أحمد بن حنبل، وقد اعتمد هؤلاء لأنفسهم منهجية تقوم على اتخاذ القرن الأول الهجري معيارا تقاس عليه القضايا التي يثيرها المتكلمون وغيرهم من الطوائف الإسلامية، لإقرارها أو رفضها باعتبارها بدعة، فإذا لم يكن النبي- صلى الله عليه وسلم- وصحابته وتابعوهم قد تناقشوا في هذه القضايا، فهي مرفوضة لأنها بدعة لا أصل لها ولا قيمة، إذ لو كانت من جوهر العقيدة الإسلامية لأثارها النبي وصحابته، وإلا لكانت عقائدهم ناقصة ومحال عليه –صلى الله عليه وسلم- وصحابته ذلك، وبطريقة أخرى لو كان النبي يعلمها وسكت عنها فأولى بنا السكوت عنها، وإن كان (صلعم) لا يعلمها فمن أين لنا بها؟

وقد امتدت هذه المدرسة على مدار التاريخ الإسلامي عبر عدد من التجليات بدءا من الإمام أحمد بن حنبل، مرورا بابن تيمية وإبن القيم الجوزية وانتهاءً بالمدرسة الوهابية وشيخها محمد بن عبدالوهاب في الجزيرة العربية لتنتج لنا ما يعرف بالسلفية المعاصرة، وقد صارت هذه السلفية تزداد تخوفا وحرصا وتحوطا واستنفارا كلما اتسعت مجالات الحياة أمام المسلمين، وتسيطر عليها فكرتان أساسيتان الأولى هي البقاء ضمن ذلك الحيز المطمئن بعيدا عن المغامرة ضمن ما عٌرف بـ «الفرقة الناجية» وهم المدرسة السلفية بكل الحال، وبالتالي لا يكون من الصعب عليهم الحكم على المخالفين من المسلمين بدخول النار، فما بالك بأصحاب الديانات الأخرى.

أما الفكرة الثانية، فهي غربة الإسلام، فأذاعوا بين الناس حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء)،

وأذن هؤلاء في الناس أنه لابد من العودة إلى إسلام السلف، الإسلام الذي مضى وسلف، الإسلام الذي أصبح «غريبا» في مناخ فكري تفلسف وقدم العقل وبراهينه على النصوص والمأثورات.. هكذا قالوا وما زالوا يقولون.

 

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock