رؤى

محمد عمارة وطه حسين.. الاحتواء المستحيل

منذ أيام قلائل رحل عن عالمنا الكاتب والمفكر الإسلامي المعروف الدكتور محمد عمارة، وبطبيعة الحال لم يخل  المشروع الفكري للدكتور عمارة من جانب إشكالي نابع من طبيعة حياتنا الثقافية في مصر التي تُكرِّس ممارساتها لتبعية الثقافي للسياسي، بمعنى أن معظم المشروعات الفكرية ومنها بالطبع مشروع عمارة ،عادة ما تتمدد داخل مساحة الاستقطاب السياسي بين التيارين الديني الإسلامي والعلماني التنويري، مما يُغيِّب ملامحها المعرفية ويقلص من حجم إسهامها الفكري، وهو ما بدا جلياً في استقبال الرأي العام لخبر رحيل عمارة منقسماً ما بين من يري فيه امتداداً لنهج رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده الإسلامي التنويري، وبين من يراه نموذجاً للتشدد والتطرف الأصولي.

رؤية استقطابية

ومن ثم فقد كان طبيعياً أن يحمل مشروع الرجل بين طياته آثار ذلك الانقسام والاستقطاب، و لعل أبرز المحطات التي بلورت هذه الحالة كانت صدور كتابه المثير للجدل  «طه حسين.. من الانبهار بالغرب إلي الانتصار للإسلام»، فقد اعتقد عمارة بإمكانية إعادة تدشين مشروع طه حسين التنويري تحت لافتة المشروع الإسلامي بمعناه السياسي من خلال رصده  لعملية التحول الفكري العميق في مشروعه عبر أربع مراحل.

 المرحلة الأولي – في رأى عمارة – هي مرحلة (الشيخ طه) كما يسميها، وهى مرحلة رفض فيها طه حسين العلمانية مع ذهابه إلي ضرورة التزام المسلمين بنشر التوحيد ومحو الشرك وحتى في كتاباته عن قضية كإصلاح أحوال المرأة أعلن أن معايير هذا الاصلاح هي ثوابت الدين، وكان ذلك قبل سفره إلي فرنسا عام 1914.

 أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الانبهار بالمشروع العلماني الغربي بعد عودته من فرنسا مباشرة، والتي خاض خلالها أشرس معاركه مثل معركة كتاب في الشعر الجاهلي كما أشار عمارة أيضاً إلى إسهام طه حسين في كتاب الشيخ على عبد الرازق المثير للجدل «الإسلام وأصول الحكم» مؤكداً أن الجانب المتعلق بتوصيف رسالة الإسلام بأنها رسالة روحية فقط لا علاقة لها بالحكم أو التنفيذ في أمور الدنيا والذى ورد ضمن الكتاب و تبرأ منه الشيخ على عبد الرازق مراراً هو من اجتهادات الدكتور طه حسين وليس الشيخ على عبد الرازق.

 أما المرحلة الثالثة فهي تلك التي امتدت منذ بداية الثلاثينيات وحتى قيام ثورة يوليو 1952 والتي يصفها عمارة بمرحلة الإياب التدريجي التي امتنع فيها طه حسين عن أي كتابة مسيئة للإسلام ثم كتب كتابه الشهير «على هامش السيرة» و خاض بعد ذلك في عام 1933 معركته ضد التنصير بستة مقالات نشرت بجريدة كوكب الشرق مع إشادته بمذهب محمد بن عبد الوهاب و تراجعه عن الأفكار التي كتبها في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» أو ساهم في صياغتها وبلورتها  كما حدث في كتاب «الإسلام وأصول الحكم».

  وأخيرا تأتي المرحلة الرابعة والأخيرة – وفق رؤية عمارة – وهي مرحلة الإياب الصريح والعودة إلي أحضان العروبة والإسلام والتي امتدت منذ عام 1952 إلي عام 1960 وشهدت قمة تحوله الفكري بتأكيده على حاكمية القرآن والانتقال من النزعة الفرعونية إلي العروبة بصيغتها الإسلامية وثنائه على العلماء المجددين ومنهم ابن تيمية وزيارته للأراضي الحجازية عام 1955 التي بعثت فيه روحانيات وإيمانيات ساهمت في بلورة وتأكيد تحوله الفكري ….

ردا على عمارة

ولأن رؤية محمد عمارة قد تمددت كما أشرت في بداية المقال داخل مساحة الاستقطاب الديني العلماني فإن ردود الأفعال داخل الوسط الثقافي المصري بعد صدور كتاب عمارة في أواخر عام 2014 قد أكدت وبلورت ذلك وكانت أقرب إلي منازلة فكرية بين الإسلاميين والعلمانيين حول الكتاب رصدتها جريدة الشرق الأوسط اللندنية في تحقيق صحفي متميز بعنوان: هل يحاول الإسلاميون مصادرة طه حسين بعد 41 عاما علي رحيله؟ وتشير الجريدة في تحقيقها إلى أن الكاتب الإسلامي المعروف فهمى هويدي قد سدد ضربة البداية في تلك المعركة عبر مقال نشره في جريدة الشروق بعنوان (طه حسين أوابا) أشاد فيه بكتاب الدكتور عمارة إضافة إلي مقال للدكتور محمد عبد المطلب في جريدة الأهرام يشيد فيه أيضاً بكتاب محمد عمارة ويؤيده من خلال مرويات على لسان د/مصطفي ناصف مؤلف كتاب «طه حسين والتراث» مما دفع المثقفين التنويريين إلي الانتفاض في مواجهة عمارة  لوأد محاولة احتواء الإسلاميين لطه حسين في مهدها، فقد اشتبكت مؤسسة دار الهلال بشكل مباشر مع أطروحة عمارة بإصدار كتاب «طه حسين.. لغو الصيف وجد الشتاء» للدكتور محمود الضبع والذى يمثل رداً فكريا على كتاب عمارة حيث أكد على أن طه حسين كان حداثياً حقيقياً بفعل إداركه للعلاقة بين الحاضر والتراث ومن ثم فإن كتاباته كانت تنتمى إلي الفكر المتحرر من الحدود الزمانية والمكانية والسياقات التاريخية، كما اشتبك أيضاً الناقد الأدبي الدكتور يسري عبد الله في تلك المعركة بمقال منشور في جريدة الأهرام بعنوان (أسلمة طه حسين) اتهم فيه الإسلاميين بمحاولة اختطاف طه حسين وصبغه برداء إسلامي، مؤكداً أن مقال الكاتب فهمى هويدي في الشروق يرمي لهذا الهدف والذى يُعد محاولة عبثية كما يقول عبد الله لإهالة التراب على المنجز التنويري لطه حسين بتصويره على أنه قد تراجع عنه لصالح الإسلاميات، مشيراً إلي أن تقسيم عمارة للمراحل الفكرية في مشروع طه حسين كان تعسفياً ويتعامل بطريقة الاجتزاء مع كتابات هذا الرائد الكبير بما يؤكد محاولة الإسلاميين العدوان على مشروع طه حسين عبر كتاب عمارة.

محاولة مستحيلة

وبرغم اعتقاد كاتب هذه السطور أن ثمة تطورا أو تحولا فكريا حقيقيا قد حدث لفكر الدكتور طه حسين – وهو أمر طبيعي بل ودليل حيوية في مسيرة الكثير من المفكرين – إلا أن محاولة احتواء الرجل أو السطو على مشروعه الفكري ومصادرته لحساب حركات الإسلام السياسي سوف تبوء بالفشل الذريع لسببين: الأول هو أن ظاهرة المثقف المتحول من الانبهار بالفكر الحديث إلى الاهتمام بالفكر الإسلامي كموضوع للدراسة والبحث، كانت ولازالت بمثابة أحد الخطوط المنهجية والمعرفية لبعض الرموز في خطابنا الثقافي العربي – الذي عرف في المقابل تحولات معاكسة أيضا- ومن ثم فهي ظاهرة تجاوزت بالفعل طه حسين لتمر بمفكرين كبار مثل زكى نجيب محمود أو عبد الرحمن بدوي وصولاً إلي نماذج مثل عبد الوهاب المسيري وطارق البشري، وهى كلها نماذج تشكل تحولها وتبلور بمعزل تام عن حركات الإسلام السياسي ومحاولتها لاحتواء تلك التحولات، وذلك طبعاً باستثناء التحول الذى حدث للدكتور محمد عمارة نفسه، والذى صب بشكل مباشر في كفة حركات الإسلام السياسي وفى مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، وهو استثناء يؤكد القاعدة التي تقول أن ظاهرة تحول المفكرين الكبار في مصر من منهج إلي منهج ومن رؤية إلي رؤية هي وليدة قناعات تعتمل داخل عقل ووجدان المثقف دون وصاية أو سلطان من حركات أو تنظيمات سياسية.

أما السبب الثاني لفشل محاولة احتواء فكر العميد ومصادرته لحساب مشروع الإسلام السياسي فهو سبب يتعلق بالخلل الكامن في بنية الإيديولوجيات السياسية نفسها والذى يدفع نمط المثقفين والمفكرين المؤدلجين مثل الدكتور محمد عمارة إلي مصادرة حقيقة وجودية كبري مثل الدين واختزالها لحساب إيديولوجيا بعينها، فالمُدرَك الديني كما يقول الفيلسوف الوجودي الدنماركي سورين كيركجارد هو أعلى مدركات العقل جميعاً، ومن ثم فإن تحول طه حسين أوغيره من المفكرين الكبار باتجاه الدين هو تحول عقلاني بحت نابع من أن الدين يشكل نمطاً من أنماط المعرفة القبلية الفطرية المختزنة داخل العقل البشري منذ الأزل، تفشل الإيديولوجيا كمفهوم في التعاطي معه تماما تفشل في التعاطي مع القيم والمطلقات الإنسانية كالحرية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني، وهو عيب تشترك فيه كافة الأيديولوجيات، سواء الكونية كالماركسية والليبرالية أو الهوياتية كالقومية والإسلامية، بفعل مصادرتها واختزالها لتلك الحقائق الوجودية والقيم والمطلقات الإنسانية لتحقيق أهداف سياسية بحتة، وهو ما حدث من جانب محمد عمارة تجاه مشروع طه حسين وتحولاته الفكرية بما يعكس خلل الإيديولوجيا ذاتها ويجعل محاولة احتواء طه حسين ومشروعه من قبل تيارات الإسلام السياسي بمثابة محاولة مستحيلة. 

طارق أبو العينين

كاتب وباحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock