منوعات

عندما هزم النبوت الصعيدي المدفع الفرنسي

تحتفل محافظة قنا في اليوم الثالث من مارس من كل عام بعيدها القومي، و من الواجب أن تحتفل مصر كلها، بل كل المقاومين في شتى أنحاء العالم بهذا اليوم، لأنه لم يكن فقط يومًا من أيام قنا، بل كان يومًا من أيام إعلاء معنى المقاومة، والتضحية من أجل نصرة المعنى والقيمة والرمز، وتقديم الرقاب لمواصلة ملحمة انتصار الدم على السيف بل وعلى المدافع والقنابل.

المجاهدون

لأن مصر ليست مصرية فحسب، بل هى عربية وإسلامية وإفريقية وإنسانية فإن نبأ وقوعها تحت الاحتلال الفرنسي قد هز أرجاء العالم عامة، والعالم الإسلامي خاصة.

تلك الهزة العنيفة لم تقف عند حدود التضامن الإنساني المعتاد، لقد تجاوزته ووصلت إلى حد تكوين جماعات من المقاومين المجاهدين خرجوا من صحراء الحجاز ونواحي مكة المكرمة وبقاع عديدة من جزيرة العرب، ليصلوا إلى مصر لمساعدة أشقائهم المصريين في مقاومة الغزو الفرنسي.

تألفت فرق المقاومة من ثلاث مجموعات رئيسية، المصريون أولًا ثم الحجازيون ثم بقايا الجنود المماليك. توحدت تلك الفرق تحت هدف واحد وهو تخليص مصر من الاحتلال الفرنسي.

كانت قوات الغزو مسلحة بأرقى ما وصل إليه العلم في مجال التسليح العسكري، سفن حربية وقنابل ومدافع ميدان ثقيلة، إضافة إلى أن محاربي فرنسا من الجنود والضباط كانوا قد تلقوا تدريبات جادة تقوم على أسس علمية، ثم هم قد خاضوا عشرات المعارك عندما بدأ قائدهم نابليون بونابرت يفكر في إقامة إمبراطورية فرنسا العظمى. أما قوات المقاومة المصرية فكانت أسلحتها متواضعة جدًا، بل في بعض المعارك كان المصريون يستخدمون السكاكين والنبابيت!  

ولكن مَنْ الذي ربح في النهاية؟ لقد انتصر المصريون وتحررت بلادهم، لأن القصة ليست قصة أسلحة، فعلى مكانة السلاح، فإن المقاومة تهزم أعتى الجيوش بفعل الإيمان والتضحية.

الحملة على الصعيد

فرض الفرنسيون كلمتهم على مدن الشمال المصري، كانت المقاومة الشعبية قد جرحت الكبرياء الفرنسي، ولكي لا تنزف الجراح فقد قرر الغزاة دخول معركة حاسمة يسجلون فيها نصرًا باهرًا على أرض الصعيد.

  أحسن الباحث التاريخي المرموق الأستاذ أحمد الجارد عندما خصص كتابًا كاملًا عن معارك الصعيد وتحديدًا المعارك التي كانت محافظة قنا هى مسرحها. نشر الكتاب تحت عنوان «أضواء جديدة على الحملة الفرنسية»، وميزة الأستاذ أحمد الكبرى أنه يتقن الفرنسية ويعتمد على كتابات الفرنسيين ومذكراتهم ، فنحن نقرأ الوقائع من وجهتي النظر، المصرية والفرنسية، في هذا الكتاب الشيق.

يقول الجارد: «تألفت  الحملة الفرنسية على الصعيد من 5 آلاف جندي من المشاة والفرسان والمدفعية والمهندسين، وكان لديها أحدث الأسلحة والذخائر والمدافع والسفن، وانطلقت الحملة في أواخر شهر أغسطس سنه 1799م بهدف إخضاع الصعيد الأعلى للإدارة الفرنسية».

جعلت قنا الثالث من مارس هو عيدها القومي، لأنها في ذلك اليوم تمكنت من تسجيل نصر حاسم على القوات الغازية، في معركة سنعرفها باسم معركة البارود، ولكن الجارد وغيره من الباحثين والمؤرخين يؤكدون أنه قبل معركة البارود وبعدها كانت هناك معارك أخرى.

أنقل عن الجارد «شهدت قنا المعارك الآتية بين المقاومة والقوات الغازية: معركة سمهود في 22 يناير 1799،  ومعركة الرديسية في 11 فبراير 1799،  ومعركة أبو مناع في 17 فبراير 1799، ومعركة اسنا في 25 فبراير 1799، ومعركة البارود في 3 مارس 1799، ومعركة قفط في 8 مارس 1799، ومعركة أبنود من 8 إلي 10 مارس 1799، ومعركة بئر عنبرفي 2 إبريل 1799».

اليأس خيانة

عندما تعتنق المقاومة فلا حديث عن اليأس، المقاومون كانوا يتصدون لأقوى قوة عسكرية في أيامها، خسر المقاومون مرات، وعقب كل خسارة لم يقل أحدهم: كفى. كانوا يعضون على شفاههم كرجال، ويُخزّنون غضبهم مثل الجمال ثم ينطلقون إلى جولة مقاومة جديدة. نابليون نفسه قال عن المقاومين: «إن ضراوتهم لا يعادلها إلا انخفاض مستوي معيشتهم».

نعم الذين كانوا لا يجدون قوت يومهم كانوا هم طلائع المقاومة.

وفق ما ذكره الباحث أحمد الجارد الذي يعتمد على المؤرخين الفرنسيين، كما سبق وذكرت، فإن أولى معارك الصعيد الكبرى كانت في منطقة «سمهود»، وقد جرت في الثاني والعشرين من يناير من العام 1799، وكانت الخسائر الفرنسية تكاد لا تذكر، فقد قتل فرنسي واحد وأصيب اثنان فقط، يومها قدمت المقاومة مئتين وخمسين شهيدًا إضافة إلى مئة مصاب.

ثم نظمت المقاومة صفوفها، وبعد أقل من ثلاثة أسابيع بدأت معركة الرديسية، وكانت النتيجة تميل لصالح المقاومة، فقد خسرت فرنسا سبعًا وثلاثين قتيلًا إضافة إلى واحد وخمسين مصابًا، وكان من بين القتلى ضابط برتبة قائد فرقة، بينما بلغ عدد شهداء المقاومة سبعة وثلاثين شهيدًا وبلغ عدد المصابين أربعة وأربعون مصابًا.

جن جنون الغزاة بعد معركة الرديسية، خاصة وقد خسروا ضابطًا كبيرًا، ولذا قرر الغزاة إبادة المقاومة، فوقعت معركة قنا في الثاني عشر من فبراير من العام 1799 وقد تواصلت ليومين كاملين. كانت خسائر المقاومة فادحة، يومها قدمت المقاومة ثلاثمائة شهيد، ولم يصب من الغزاة سوى ثلاثة بجروح طفيفة!

بعد تلك الخسارة الفادحة كان الطبيعي أن تولي المقاومة الدبر، ولكن منطق الشهداء والمقاومين غير منطق العاديين من البشر، لقد ضمدت المقاومة جراحها وذهبت إلى منطقة «أبو مناع» للمرابطة بداخلها، علم الغزاة بخطط المقاومة فشنوا هجومًا كاسحًا على المقاومة كانت نتيجته سقوط أربعمائة شهيد، ولم يصب من الغزاة سوى عدد محدود من الجنود!

كانت معركة أبو مناع في اليوم السابع عشر من فبراير من العام 1799، وبعدها بأسبوع تدخل القائد المملوكي مراد بك ومعه قرابة 800 من الفرسان لتبدأ معركة «إسنا» ولكن مراد بك وقواته تقهقروا وذهبوا إلى أرمنت.

يوم الحسم

نتائج المعارك السابقة – على ضخامتها – لم تكن ترضي أيًا من الفريقين، فكلاهما كان يسعى خلف نصر حاسم ينهي به الأمر كله لصالحه.

على تلك الخلفية بدأت المعركة الخالدة التي نعرفها باسم معركة البارود.

المقاومة كانت مثخنة بالجراح ولكنها كانت تتنفس أملًا ورغبة في الحرية، الغزاة كانوا قد فقدوا السيطرة على عقولهم، لأنهم لم يصدقوا أن هناك من يستطيع الوقوف في وجوههم.

كانت المقاومة تعرف أن هذه المعركة تحديدًا هى معركة نكون أو لا نكون، ولذا فقد عملت على الاستفادة القصوى من كل المميزات.

ضرب رهبان ورؤساء الأديرة أعظم الأمثلة على صدق الوطنية فقد فتحوا أبواب الأديرة ـ بعد الاتفاق مع المقاومة ـ لتكون ملاذًا للأطفال والنساء والعجائز، وذلك لأن الجميع أدرك أن الغزاة لن يرحموا أحدًا متى سجلوا انتصارًا حاسمًا.

إذن ضمنت المقاومة حماية الجبهة الداخلية وتماسكها، ثم عملت على تهيئة مسرح العمليات، فقد كان على ظهر السفينة الفرنسية التي تقود أسطول الغزو أربعة من المصريين، كانوا بالطبع في خدمة الضباط والجنود، ولكنهم وقد حانت ساعة الحسم، تواصلوا بطريقة ما مع المقاومة وأخبروها بكل ما يتعلق بتحركات الفرنسيين وبكافة خططتهم.

الموقف على الأرض وبكافة الحسابات كان لصالح الغزاة لا شك في ذلك، فهم في سفن والسفن مزودة بمدافع، والمقاومون على الشاطئ ليس بأيديهم سوى بنادق بائسة، فماذا ستفعل البنادق البائسة أمام المدافع؟.

جاء صباح الثالث من مارس، حشود المقاومة راحت تمطر السفينة القائدة بوابل من السهام والرماح، كل سهم كان يصطاد حياة جندي أو ضابط، مفاجأة ذهبت بما بقى من عقل الغزاة، سهام تتصدى لمدافع؟

تساقط جنود وضباط الغزاة جعل الحماس يسيطر على قلوب المقاومين، فمن وجد «فلوكة» صعد إليها ليقترب من السفن، ومن وجد لوحا خشبيا تشبث به ليصل إلى السفن، وبعضهم قطع المسافة سباحة!

 قاتل المقاومون بكل ما في أيديهم، السيوف والرماح والحراب والسهام بل والنبوت الصعيدي الشهير كان حاضرًا في تلك المعركة الفريدة.

تلك المعركة الخالدة جرت في قرية كانت معروفة باسم «وادي بقطر» ولكن في ساعة الاشتباك انفجر معمل البارود بداخل سفينة الغزاة، فأصبحت القرية من يومها معروفة باسم قرية البارود وهى الآن تتبع مركز قفط بمحافظة قنا.

فرنسا بمجدها العسكري تخسر أمام النبوت الصعيدي، لقد صعد المقاومون إلى ظهر السفينة وقتلوا كل الغزاة الذين كان عددهم فوق الخمسمائة، وأغرقوا السفينة ذاتها، وتراجعت القوات الغازية بعد أن أدركت أن الساعة ليست ساعتها وأن المقاومين لن يهزموا.

بعد معركة البارود جرت ثلاث معارك، ولكن يوم البارود ظل خالدًا فبعده لم تحقق قوات الغزو نصرًا حاسمًا، بل تهاوت تحت ضربات المقاومة التي عمَّت مصر فجعلت الحملة الفرنسية تجرجر أذيال الخيبة وتغادر مصر هاربة إلى غير عودة.

اقرأ أيضا:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock