رؤى

الأزهر والإخوان.. جدلية الصراع على العقل المصري (1-2)

طارق الجوهري

عرض وترجمة: أحمد بركات

يتدفق في النهر المصري تياران مركزيان في الفكر الإسلامي، ينبع أحدهما من المعرفة التي أنتجتها المؤسسة الأزهرية، بينما ينبع الآخر من الإرث الذي خلفه حسن البنا والحركة التي أسسها.

‎في ضوء ذلك، تشتبك هذه الدراسة مع قضيتين مركزيتين، هما دور الأزهر في صياغة ملامح الإسلام السني القويم في مصر المعاصرة من ناحية، وصعود جماعة الإخوان المسلمين والحركة الإسلامية العابرة للوطنية التي ألهمتها الجماعة من جهة مقابلة، حيث برز كلاهما (الأزهر والإخوان المسلمون) كتيارين متعارضين في الفكر الإسلامي.

ثنائية مضللة.. ولاعبون آخرون

شكلت جماعة الإخوان ومن ورائها الإسلاموية العابرة للوطنية تيارا منافسا «لتيار العلماء الأزهريون»، ويمثل إدراك هذا التعارض بين التيارين، والذي استمر لما يقارب المائة عام، أمرا جوهريا لفهم الأزمة الحالية التي يعانيها الإسلام والتهديد العالمي الذي يفرضه التطرف. ومن ثم، فبينما تمثل مصر الخلفية الأساسية لهذه الدراسة، إلا أنها – في واقع الأمر – ليست سوى نموذجا يمكن تعميمه بدرجات متفاوتة على دول أخرى ذات أغلبية مسلمة.

 أثارت موجة التحديث التي شهدتها مصر قبل ما يزيد على ثلاثة قرون اهتمام العلماء والباحثين على مدى نحو قرن من الزمان، حيث قدمت نموذجا عميقا للتحول صوب الليبرالية لأكثر الدول الإسلامية المعاصرة تأثيرا، وإحدى الدول الأوائل التي شبت عن الطوق العثماني. وسواء كانت هذه الدراسة تتعلق بالنظرية السياسية، أو الاقتصاد، أو الدين، او التعليم، فإن قصة مصر غالبا ما يتم تقديمها على أنها جدلية تطور من الفوضى إلى النظام، ومن القديم إلى الحديث.

‎رغم ذلك، تبقى هذه الثنائية التبسيطية مضللة، لأنها تهمل الدور المهم الذي لعبته الشبكات الإسلامية التقليدية في تطوير ديناميات الاجتماع الديني في مصر، ففي كتابه (مصر بعد مباركEgypt After Mubarak يؤكد «بروس روثرفورد» أن «قوتين متنافستين هما الحركة الوطنية المدنية والحركة الإسلامية وفي مقدمتها الإخوان المسلمون تصارعتا لإثبات من الأقدر علي بناء حكم أفضل وأكثر شفافية». في هذا الكتاب يروي «روثرفورد» القصة المعتادة عن ليبراليين يحملون مشاعل الليبرالية ليضيئوا بها «ظلمات» منظومة المؤسسات الإسلامية العتيقة، في الوقت الذي تظهر فيه جماعة الإخوان المسلمين كمعارضة أساسية تحتكر لنفسها الدين الإسلامي، ويضيف أن إبراز هاتين القوتين المتنافستين دون غيرهما، والفشل في منح المصداقية للدور الذي اضطلع به لاعبون دينيون آخرون غير إسلامويين في المجتمع المصري قد شكل خطأ فادحا قوض من التأثير المحتمل لهؤلاء اللاعبين في حل الأزمة الحالية التي تشكلها الإسلاموية الراديكالية.   

كتابه (مصر بعد مبارك) للكاتب «بروس روثرفورد»

ومن ثم، فإن هذه الدراسة تعكس قراءة أخرى بديلة وأكثر دقة تُعنى بتفسير الإسلام الذي قدمه الأزهر، والذي تمكن من خلاله علماؤه من التكيف بدرجة أو أخرى مع التغيرات التي طرأت على العالم الحديث وصعود الدولة القومية، وذلك من خلال مئات الأعمال التوفيقية بين الشريعة الإسلامية من جانب وقضايا الجندر والمواطنة، والتسلح النووي وتكنولوجيا النانو والرأسمالية والمادية وغيرها من جانب آخر. ويمثل هذا التأثير الفكري العميق والمستمر لمؤسسة الأزهر بُعدا جوهريا لفهم الدور التعريفي الذي يقوم به الإسلام في الدولة المصرية المعاصرة.

خلاف جذري

وبينما لا يمثل الخلط بين المعرفة الإسلامية الحقيقية (أي النتاج الفكري لعلماء الأزهر) من جانب والحركات السياسية التي تستخدم الشعارات الإسلامية (جماعة الإخوان المسلمين ومن على شاكلتها) من جانب آخر شأنا جديدا، إلا أن أحداث الربيع العربي قد سلطت الضوء بقوة على ذلك التمايز الفج، فمنذ ولوج مصر عصر الحداثة مع قدوم الحملة الفرنسية في عام 1798، كان علماء الأزهر في الطليعة في عملية بناء الدولة القومية الإسلامية الحديثة، وفي عملية بناء منظمات المجتمع المدني و المساعدة في صياغة القوانين الشرعية الحديثة، وسعى هؤلاء العلماء بصورة مستمرة إلى وضع تعريف لإسلام عصري في ضوء الحداثة التي تقودها الدولة.

وعلى الرغم من أنها كانت دائما مهمة ذات طبيعة شائكة ومثيرة للجدل، إلا أن الأزهر – كمؤسسة – قد ساعد القادة السياسيين على ولوج عالم الحداثة مستمسكين بهويتهم الإسلامية السنية. وقد كان مفتي مصر، الشيخ «محمد بخيت المطيعي» (المتوفي في عام 1936)، والذي كان أحد عالمين أزهريين شاركا في لجنة صياغة الدستور في عام 1923، مسئولا بشكل شخصي عن إضافة المادة التي تنص على أن «الإسلام هو دين الدولة»، والتي عرفت طريقها منذ ذلك اليوم إلى جميع دساتير الدول الإسلامية.

محمد بخيت المطيعي

‎رغم ذلك، حرص علماء الدين المثقفون على دعم وتمكين القادة السياسيين للمحافظة على الاستقرار السياسي دون الانخراط مباشرة في السياسات الحزبية، وهو ما يشار إليه بوجه عام بـ «فصل الدين عن السياسة».

‎ورغم أن هذه الرؤية غالبا ما يساء فهمها وتأويلها على أنها موقف غير سياسي، إلا أنها تصر على أن الحكم السياسي المنظم أفضل من التناحر المجتمعي، وأنه بدون مجتمع مدني قوي فإن الدولة القومية ستنهار لا محالة. كان هذا الرأي هو التوجه الغالب لدي المذهب السني في إدارة الدولة؛ ولعله يفسر الأسباب الي تدفع بالمؤسسات السنية نحو التركيز على نحو أساسي على الاحتياجات الاجتماعية والروحية للناس، بدلا من السعي للاستيلاء علي السلطة السياسية.

 وبينما تسعى الجماعات الإسلامية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، إلى مقاربة انقلابية لإحداث التغيير في المجتمع، يؤكد علماء الأزهر أن إقحام الدين في السياسات الحزبية يشكل خطرا داهما وعائقا كؤودا أمام المحافظة على حرمة وقداسة الفقه الإسلامي ونزاهة وشفافية العمليات السياسية. ويعتقد هؤلاء العلماء أن بإمكانهم ترسيخ تغيير طويل الأمد من خلال العمل على المستويات الشعبية القاعدية، بدلا من تعبئة الناس لدعم الأحزاب السياسية بإسم الدين.

ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن الخلط بين الدين والسياسات الحزبية سيوفر دعما دينيا لمرشحين معينين ولمنصات سياسية معينة، وهو ما يمثل – من وجهة نظر هؤلاء العلماء – سوء استخدام فج لسلطتهم الدينية، ويؤكدون – في المقابل – أن النظام السياسي والحكومة الفعالة يمثلان احتياجا أساسيا للمجتمع المسلم، وهو ما يمثل بدوره الصيغة السياسية الوحيدة المقبولة لديهم. كما يعتقدون أن الدور الأساسي الذي يجب عليهم الالتزام به هو المساعدة في إرشاد الناس ليكونوا اللبنة التي يقوم عليها مجتمع مسلم يتسم بالمسئولية الاجتماعية والنزوع المدني، والذي يمكن للسياسيين حكمه بصورة فعالة.

‎ونتيجة لهذا التوجه، ينتشر في مصر العلماء التقليديون – خاصة في مئات الطرق الصوفية – وينبرون في طليعة مشروعات ترشيد استخدام المياه، وجهود الحوار بين الأديان، وحملات مناهضة ختان الإناث، والعيادات الطبية وغيرها من المشروعات التنموية. وقد أسهمت هذه الجهود الأزهرية / الصوفية في بناء أفضل للنسيج الاجتماعي للمجتمع المدني المصري بدرجة أكبر من الجهود السياسية التي تركز علي الوصول للسلطة- للجماعات الإسلامية، مثل جماعة الإخوان المسلمين.

جذور إخوانية

‎عارض الإسلاميون مبدأ فصل الدين عن السياسة منذ مطلع القرن العشرين؛ ويشكل صعودهم بعدا مهما في سياق تطور الإسلام في الدولة المصرية الحديثة. وبينما لم يشكل الإسلاميون في مصر كيانا واحدا، إلا أن أصولهم جميعا تعود إلى جماعة الإخوان المسلمين.

‎وتعكس مقاربة الإسلاميين للسياسة حالة عدم رضا مستمرة عن البنى السياسية بدعوى أنها ليست إسلامية بما يكفي، أو ليست إسلامية على الإطلاق، وهو ما يبرر – من وجهة نظرهم – استخدام العنف وإراقة الدماء في بعض الحالات لاستعادة أولوية تفسيرهم المتشدد للشريعة.

وبرغم أن الإسلاميين لا يشكلون جماعة واحدة في نهاية المطاف، إلا أنهم استنكروا مرارا جهود ومشاركات علماء الدين في سن القوانين وصياغة الدستور المدني بهدف المحافظة على سرديتهم المتشددة التي تزعم بأن الحكومة المصرية في الدولة الحديثة غير إسلامية، وأنه من المفترض – حسب منهجهم – أن يتم جعلها إسلامية من خلال الهندسة الاجتماعية وومن خلال الأعمال الانقلابية العنيفة أيضا. ونتيجة لذلك، استخدم بعض الراديكاليين على نطاق أوسع هذا الخط من التفكير لتبرير استخدام العنف ضد من لا يشاركونهم معتقداتهم، وهو ما أدى إلى استهدافهم بعض المجتمعات المسيحية القبطية والشبكات الصوفية.

وفي مصر وفي غيرها من الدول التي وصل فيها الإسلاميون إلى السلطة في فترة الربيع العربي، ارتفعت وتيرة العنف والإرهاب ضد هذه المجتمعات بمعدلات مفزعة. في المقابل، ثمَّن علماء الأزهر مبادرات الحوار بين الأديان، ودعوا إلى المحافظة على التقاليد الثقافية المتنوعة. 

‎في هذا الإطار، ربما يكون مفيدا تقديم عرض مبسط للسياق التاريخي من أجل تبين موضع هذه الحالة الاستثنائية داخل إطار الفكر الإسلامي.

سيد قطب ملهما لداعش والقاعدة

في عام 1928، أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين بهدف رأب العديد من التصدعات الاجتماعية التي خلفها انهيار الخلافة العثمانية، وبينما ركزت الجماعة جهودها بالأساس على توفير الرعاية الاجتماعية والاشتباك مع القضايا التي تؤثر في الطبقة الوسطى الدنيا، إلا أنها سرعان ما وسعت دائرة نشاطاتها لتشمل العمل السياسي، وحصلت على دعم واسع النطاق كبديل شعبوي للدولة المصرية.

‎وفي الأربعينات، شرعت الدولة المصرية في تضييق الخناق على أنشطة الجماعة، وبخاصة بعدما قام جناحها المسلح (الجهاز الخاص) بالعديد من أحداث العنف، مثل اغتيال رئيس الوزراء المصري «محمود فهمي النقراشي» في 28 ديسمبر 1948.

وفي الخمسينات لجأت الجماعة إلى العمل السري، لكنها واصلت قدرتها على كسب مزيد من العناصر المتطرفة نتيجة للتأثير الخطير لكتابات «سيد قطب» المنظر الأهم للإخوان المسلمين. وفي هذا الصدد لا يزال كتابا سيد قطب «معالم في الطريق»، و«في ظلال القرآن» يلهمان الأسس الفكرية والدينية المتشددة للعديد من الجماعات الإسلامية الراديكالية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتنظيم القاعدة، وتمثل هذه النقطة الأخيرة أهمية خاصة، لا سيما أنني أعتقد أنها لم تستوف حقها من البحث، فلا توجد تقريبا حركة إسلامية راديكالية لا تعتمد بشكل أو بآخر على كتابات سيد قطب، ففي كتابه «التطرف الإسلامي في مصر»، يؤكد «جيل كيبل» أن كتابات «قطب»، وبخاصة «معالم في الطريق» تمثل «الطريق الكامل إلى أيديولوجيا تطرف الحركة الإسلامية في السبعينات».

‎وفي عام 2004، لم يغرد «توماس هيجهامر» بعيدا عن هذا السرب حيث أكد في كتابه «سلفيون جهاديون أم ثوريون: تناول الدين والسياسة في دراسات التشدد الإسلاموي» أنه «ليس واضحا على الإطلاق كيف تعمل بشكل متناغم ثنائية السلفية والإخوان في عالم الإسلاموية المتشدد المعاصر؛ إذ لا تزال كتابات سيد قطب تشكل إحدى مرجعيات  السلفية الجهادية والجماعات الراديكالية، الإسلامية الأخري».

‎هذه المادة مترجمة باختصار. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock