ثقافة

حين انتصر الجنوب (6) نسامانكو.. جحيم الإنجليز

المكان: غرب إفريقيا

الزمان:1824

أسرع الإنجليزي جي تي ويليامز الخطى مبتعداً عن أرض مملكة الأشانتي، ثم التفت حوله ليتأكد من أن أحداً لا يتبعه، وما إن اطمأن قلبه لذلك حتى جلس القرفصاء على الأرض محاولاً استعادة أنفاسه اللاهثة. أخرج زمزميته وتجرع منها شربة ماء وتلفت حوله، كان نهر برا الذي يعبر أرض الأشانتي (غانا حالياً) يمتد أمامه، ذاك النهر الذي شهد منذ بضعة أشهر معركة راح ضحيتها مئات من بني جلدته من الإنجليز. أغمض ويليامز عينيه محاولا استرجاع بداية الأحداث، كيف اصطدم بنو قومه من الإنجليز بالأشانتي، المملكة الأكبر والأشد بأساً في غرب إفريقيا. تلك المملكة التي استطاعت في القرن السابع عشر الميلادي أن تمد سلطانها في الغرب الإفريقي حتى بلغت الساحل المطل على المحيط، بفضل ما تملكه من ذهب كان يسيل له لعاب الطامعين.

 

مملكة أشانتي

غرور مكارثي

كان الصدام بين هذه المملكة الآخذة في التوسع وبين بريطانيا الطامعة في ذهبها أمراً حتمياً، وأتى الصدام المرتقب في عام 1823، حين غزت مملكة الأشانتي منافستها الرئيسية مملكة الفاني للسيطرة على طرق التجارة والمواصلات بين الصحراء والساحل.

استنجدت مملكة الفاني ببريطانيا التي طالما تاجرت معها، ولم يكن الجنرال تشارلز مكارثي الحاكم المعين من لندن على منطقة «ساحل الذهب» كما أسماها البريطانيون ليحلم بفرصة أفضل من هذه للانقضاض على الأشانتي.

كان مكارثي استعمارياً بامتياز ولم يخدم فقط جيش بلاده بل خدم الاستعمار الأوروبي كله في إفريقيا في أكثر من موضع، فكان أحد الجنرالات المفضلين لدى الفرنسيين الذين عينوه حاكما لمستعمرتهم في سيراليون، وكان مؤمناً بضرورة إزالة كافة العقبات التي تقف في طريق توسع أوروبا في القارة السمراء، وكانت مملكة الأشانتي بطبيعة الحال في مقدمة هذه العقبات.

انتهز مكارثي هذه الفرصة وأعلن رسمياً الحرب على الأشانتي باسم بلاده وحلفائها من الفاني، وبعد أن أمن عاصمته الإدراية في ساحل «كيب» (جنوب غانا حالياً) بدأ يحشد قواته استعداداً للزحف نحو أراضي العدو.

رمى ويليامز بحصاة نحو النهر في حنق وغيظ وهو يتساءل كيف غرر الطموح والكبرياء بقائده مكارثي الذي كان سكرتيره الخاص إلى هذا الحد؟ كيف تصور أنه يستطيع هزيمة الأشانتي بقوة لا تتجاوز 600 مقاتل على الأكثر، مقسمة بين قوات الإمبراطورية البريطانية وميليشيا محلية استقدمها من الـ «كيب» وكتيبة هندية وبضع مقاتلين من الفاني؟

كان غرور مكارثي قد صور له الأمر على أنه نزهة لا حملة عسكرية، ولم يفق غرور مكارثي إلا ثقة الأشانتي بأنفسهم وبجيشهم، فقد وصلت أخبار الحملة إلى مسامع ملك الأشانتي أوسي توتو كوادو، والذي كان مؤمناً بقدرة مملكته على إحراز النصر على هولاء الغزاة، وبلغت ثقته حد أن تعهد أمام أعضاء بلاطه الملكي بأنه سيحول جمجمة مكارثي إلى كأس يحتسي منه الشراب.

انتصار الأشانتي

تذكر ويليامز كيف سار مع قائده وقواته في اتجاه نهر برا، الذي وصله بحلول ليلة العشرين من يناير من عام 1824. أمر مكارثي قواته أن تخيم على ضفة النهر استعداداً للمعركة المقبلة، ولم يدر أن عشرة آلاف مقاتل من الأشانتي قد رصدوا حركته بالفعل وكمنوا له على الضفة المقابلة من النهر استعداداً لمواجهته.

وما إن أشرقت شمس الحادي والعشرين من يناير عام 1824 حتى ارتكب مكارثي خطأه الثاني على التوالي، فما أن رأى جيش الأشانتي على ضفة النهر حتى بدأ في تطبيق خطة استند فيها إلى معلومات وصلته تبين لاحقاً أنها خاطئة.

كانت المعلومات تفيد أن جيش الأشانتي مكون من عدة فرق مختلفة وأن بعض قادة هذه الفرق على استعداد للانسحاب والانشقاق بمجرد بدء المعركة، لذلك أمر مكارثي جنوده بعزف نشيد «فليحفظ الرب الملكة» منتظراً الانشقاق الذي لم يحدث، بل إن العكس تماماً هو ما حدث، حيث قرع الأشانتي طبول الحرب وبدأوا في التقدم، وأطلق كلا الجانبين النار في اتجاه الآخر، إلا أن استخفاف مكارثي بالعدو بدأت تظهر نتائجه سريعاً حيث لم يجلب معه ذخيرة كافية وما أن فرغت ذخيرة رجاله حتى واصل الأشانتي تقدمهم بسرعة فاجأت الجميع.

هنا حدث الانشقاق ولكن في صفوف قوات مكارثي حيث لاذ حلفاؤه من الفاني بالفرار، وحاول رجاله من الإنجليز الدفاع عن أنفسهم بالسلاح الأبيض إلا أن الأشانتي كانوا أسرع وأبرع في استخدام هذا النوع من السلاح.

ارتجف ويليامز وهو يتذكر مشهد زملائه وهو يسقطون صرعى واحداً تلو الآخر على يد مقاتلي الأشانتي، والذين كانوا يذبحون كل من يقع في أيديهم بلا رحمة، بل إن مكارثي حاول الانسحاب بعد أن أدرك أن المعركة قد حسمت إلا أنه أصيب بعيار ناري وسرعان ما لقي حتفه برصاصة أخرى.

لم يجد ويليامز خياراً بعد ان أخفق في الهرب سوى أن يسلم نفسه لجنود الأشانتي ويتوسل إليهم ليُبقوا على حياته، وبالفعل إصطحبه الجنود المنتصرون إلى بلاط ملكهم.

رسم ويليامز الصليب وشكر الرب على الصدفة التي خدمته حيث التقى في بلاط الملك بنبيل من الأشانتي تعرف عليه وحفظ له خدمة كان أداها له ذات يوم بعيد، وتشفع له هذا النبيل لدى الملك الذي أجابه وحفظ حياة ويليامز.

 لكن هذا لم يعفه من الأسر، حيث بقي أسير الأشانتي لعدة أشهر بعد المعركة، وما زاد الأمر سوءاً هو تعمد المنتصرين إذلاله وتذكيره بهزيمة قائده حين حبسوه في زنزانة وضعوا فيها رؤوس القتلى.

نهض ويليامز وألقى نظرة أخيرة على النهر، وحمد الرب ثانية على اطلاق سراحه الذي تأخر لشهور، وواصل سيره في اتجاه ساحل الكيب، معاهداً نفسه أن يروي لكل من يلتقيه ما كان في معركة نسامانكو علها تكون عبرة وعظة لأمثال مكارثي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock