رؤى

ذكرى شنودة.. واجه السادات والإسلام السياسي وسلمه مبارك مفاتيح الكنيسة

كان للغياب الجماعي لثلاثة من أبرز القيادات المؤثرة في مصر في عام واحد هو العام 1927 بالغ الأثر والدلالة على مستقبل الوطن، بوجه عام، وعلى مستقبل الحياة السياسية والأزهر والكنيسة بشكل خاص. كان أول هؤلاء زعيم ثورة 19، سعد زغلول، وثانيهما بطريرك الأقباط الأرثوذكس، البابا كيرلس الخامس، أما الثالث فكان شيخ الجامع الأزهر، أبو الفضل الجيزاوي.

كانت العقود التي سبقت تلك المرحلة قد أسست وبالتزامن مع وقوع الإحتلال البريطاني لمصر، لتمركز الدين في مفاصل الدولة والمجتمع، وتوظيفه في صراعات وسياقات متفاوتة، بحيث أضحى محدداً للهوية على حساب باقي مكوناتها الوطنية والقومية.

الدولة الوطنية الحديثة تُخفق، دوماً، وهي تبحث عن سؤال استقرارها، وذلك في سبيل سعيها لبناء تصور نظري يحقق لها عملياً هويتها والحفاظ على التنوع داخلها، دونما قمع أو تجزئة، بينما في المقابل، ثمة من يسعى نحو تقديم الهوية الدينية والعقائدية، في صيغتها المتشددة والأصولية؛ باعتبارها ملاذاً آمناً تتسع دوائره في لحظات الإخفاق والاضطراب اللذين تتعرض لهما الدولة.

الإحتلال.. استقلال الكنيسة على المحك

منذ هذا التاريخ، تسللت مشاعر القلق والتوتر إلى الأقباط المصريين فيما يتصل بواقع الكنيسة الأرثوذكسية ومستقبلها، على خلفية ممارسات الإحتلال البريطاني وأدواره التي عمد إلى القيام بها، مثل التحكم في اختيار من يجلس على كرسي البطريركية، ومن ثم، جعل المؤسسة الكنسية والمنصب البابوي في قلب العواصف السياسية وصراعاتها المتباينة، وهو ما خلف ركوداً معنوياً وإحباطاً لدى قطاعات عديدة من الأقباط المصريين، بيد أن ثمة قطاعات أخرى عقدت العزم لمواجهة ذلك، وتجاسرت على رفع لواء خلاص الكنيسة من تلك القبضة.

شنودة.. والركائز الثلاثة

كان العام 1918 هو العام الذي استطاع فيه الأرشيدياكون، حبيب جرجس، أن يجعل من مدارس الأحد هيئة مؤسسية تضطلع بمسؤولية التعليم من أجل نهضة قبطية، وهو ما تصادف مع وجود جيل يحلم بواقع قبطي مختلف. التحم أبناء هذا الجيل، منذ منتصف الثلاثينات بمدارس الأحد، وما لبثوا أن أضحوا هم المعلمون، في النصف الثاني من الأربعينات، وعليه، بدأت تتشكل الفرص والسمات التي تنتظر الشروط التاريخية التي تسمح لهذا الجيل أن يتناوب على مراكز القيادة في المؤسسة الدينية، ويضطلع بمسؤولياته الجمة، كما هو الحال، مع البطريرك شنودة الذي شهد تكوينه ومسيرته ثلاث ركائز رئيسية.

الأرشيدياكون، حبيب جرجس

تمثلت الركيزة الأولى فيما عاصره من نكوص للكنيسة القبطية، بعد وفاة كيرلس الخامس، العام 1927، وقد تعاقب ثلاثة بطاركة على الكرسي البابوي، وسط صراعات كنسية عنيفة هزت المشاعر القبطية واستدعت الرؤى الإصلاحية في كل مرة. دخل الشباب القبطي الذي كان من بينهم «شنودة» وقد وقر في يقينه حينها، أن لا إصلاح إلا بدخول عالم الإكليروس، وهو ما لن يحدث سوى بالتمترس وراء أسوار الرهبنة، وعبر ذلك، عرفت الكنيسة القبطية جيل الرهبان الجامعيين، الذين دخلوا من أجل خلاص الكنيسة، حسب رؤى تلك المرحلة، وبغية تجاوز أزمتها.

والركيزة الثانية، التي تميز بها البابا شنودة عن غيره من جيل الرهبان الجامعيين، كانت خبرته في العمل السياسي ومرافقته للسياسي المصري، مكرم عبيد، بالإضافة لالتحاقه بصفوف حزب الكتلة الوفدية.

وتعد الركيزة الثالثة، التي خبرها البابا شنودة وكان لها التأثير الأكبر على مجريات الأمور الكنسية، وردود فعلها المتباينة فيما يخص الأحداث التي تتصل بها، هي صعود تيارات الإسلام السياسي، منذ منتصف السبعينات، وما ترتب عليه من أحداث عنف طائفي تعددت فصوله وموجاته.

تلك الركائز الثلاث صاغت فكر البابا شنودة على عدة مستويات مختلفة؛ فقد ضغطت على وعيه فيما يخص فكره الكنسي، لاهوتياً، مرة، وكذا، علاقته بالدولة، وتحديد سبل وكيفية إدارة ملف العلاقة بين الكنيسة والدولة، مرة أخرى. ومن ثم، تأميم الصوت القبطي والحفاظ عليه داخل حدود الكنيسة الأرثوذكسية، بحيث يظل محتفظاً بكافة خيوط قيادته للأقباط، باعتباره الصوت الوحيد والرسمي الذي له حق التحدث بكل ما يخص شؤونهم مع الدولة.

وعبر تلك الركائز المؤسسة نستطيع أن تقرأ مسيرة البابا شنودة، منذ سيامته أسقفاً للتعليم، العام 1962، وعلاقته المرتبكة بالبابا كيرلس السادس وصراعاته مع أبناء جيله، مثل، الأنبا غريغوريوس، على خلفية النزاع بينهما على أسقفية التعليم، عندما سيم أسقفاً للبحث العلمي، والقمص متى المسكين، على وقع الخلاف اللاهوتي فيما بينهما، وكذلك ادارة ملف الكنيسة والأقباط مع الدولة المصرية.

البابا كيرلس السادس والبابا شنودة الثالث

رؤية إصلاحية

لا يمكن النظر أو التدقيق والبحث في حبرية البابا شنودة، التي تجاوزت الأربعين عام، باعتبارها مرحلة واحدة تمثل رؤية منسجمة للبطريرك، وعلاقته بالدولة والرئيس، بل يجب التعامل معها باعتبارها مرت بثلاث مراحل:

الأولى، تبدأ مع جلوسه على كرسي البابوية، وحتى منتصف السبعينات، وتستمر الثانية، حتى خروجه من الإقامة الجبرية، بدير الأنبا بيشوي، مطلع العام 1985، وتستمر الثالثة حتى وفاته في مارس العام 2012.

ولد نظير جيد (البابا شنودة الثالث) مع العام 1923، وقد تخرج من كلية الآداب والكلية الإكليريكية العام 1947، ومن خلال ذلك وقر في يقين الشاب نظير جيد أن المؤسسة الدينية المسيحية تحتاج لرؤية إصلاحية، ولن يتأتى ذلك سوى من داخل المؤسسة، مما يستوجب معه أن يلتحق برجالها، الأمر الذي لن يتحقق سوى من خلال الدخول في عالم الرهبنة في العام 1954.

مع شهر أبريل العام 1947 اشترك شنودة مع عدد من زملائه، وبموافقة الأرشيدياكون حبيب جرجس على تأسيس مجلة مدارس الأحد، التي أصبح رئيس تحريرها فيما بعد، وانطلق يضع ملامح رؤاه الإصلاحية عبر مقالاته وصياغاته الفكرية، التي مثلت ملمحاً جديداً في مسار الكنيسة الأرثوذكسية

لم يكن شنودة الثالث في تلك المرحلة وحيداً، بل كان معه عدد من الشباب الذين شغلهم حال الكنيسة، بينما سعوا لوضع بصماتهم في تعديل مسار الكنيسة وإصلاحها من الداخل، وكان من بين أبرز شباب هذا الجيل، الأب متى المسكين، والأنبا غريغوريوس،  والأنبا صموئيل، وغيرهم، وكانوا جميعا من رواد مدرسة الأحد، وتبؤوا  فيما بعد الرتب العليا في الهرم الكنسي إبان حبرية البابا كيرلس السادس.

مع العام 1962 سيم البابا شنودة أسقفا للتعليم والمعاهد التعليمية، مما سمح له أن يضع اللبنات الأولى لبناء فكره الإصلاحي والذي انطلق من نقطة التعليم، وقد أصبح أسقفاً عاماً له، ويتبعه كافة المعاهد التعليمية الكنسية، حيث أضحى من خلال تلك اللحظة يدشن أفكاره ويضخها في أوردة وشرايين الأقباط.

يتميز شهر مارس في دفتر أحوال الكنيسة القبطية بأنه الشهر الذي شهد غياب البابا كيرلس السادس العام 1971، وهو نفس الشهر الذي غيب الموت فيه البابا شنودة الثالث العام 2012، وخلال هذين التاريخين امتدت حبرية البابا شنودة، لتشهد مسيرته في قيادة الكنيسة القبطية، عبر عدد من المتغيرات نستطيع أن نجملها في عنصرين أساسيين؛ أولاهما، صعود تيار الاسلام السياسي مع مطلع السبعينات وتزايد تمركزه في الشارع المصري، مع النصف الثاني من السبعينات، مما ترك ظلاله على الواقع المصري، عموماً، وعلى ذهنية الأقباط، خاصة، وثانيهما، فترة الإقامة الجبرية التي قضاها البابا شنودة في دير الأنبا بيشوي على إثر اعتقالات سبتمبر 1981 الشهيرة، ومساحة الإتفاق التي أبرمت بعد ذلك في فترة الرئيس الراحل مبارك، مما سمح بعقد جديد بين الكنيسة وال، سمح للبابا بالخروج من الدير، يناير العام 1985، وهو يحمل رؤية توافقية تكفل للبابا إدارة ملف الأقباط سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفقا لإرادة الكنيسة، في اجترار واضح لمبدأ التفويض السياسي من قبل الدولة والذي لم يقتصر على الأقباط  فقط، بل امتد لمجموعات من المسلمين ومجموعات أخرى قبلية  وفئوية… وهو المبدأ  الذي يعد أحد معوقات التطور إلى المفهوم المدني الحديث للدولة الوطنية. 

قضايا جوهرية

عبر مطالعة الأعداد التي ظهرت لمجلة مدارس الأحد خلال النصف الاخير من الأربعينات، وقبل انتظام البابا شنودة في عالم الرهبنة، يظهر من مطالعة القضايا التي طرحتها المجلة بكل جرأة ثمة رغبة جامحة في تجاوز محنة الكنيسة.

وتأتي افتتاحية المجلة في عددها الأول الذي يشير إلى منهاج عملها حيث تقول: «لقد اعتزمنا أن تكون مجلة مدارس الأحد صدى لصوت الله الرهيب لإصلاح الفرد والمجتمع». وبما أن جملة من السمات المشتركة قد صاغت أفكار هذا الجيل ورؤاه الفكرية، التي دارت حول الحلم بنهضة كنسية من خلال نظرتهم التي تركزت على ضرورة الإصلاح من أعلى، فلا غرابة أن يأتي شعارهم فيما بعد: «الراعي الصالح هو الهدف، والكلية الاكليريكية هي الوسيلة، هذه مطالبنا في الاصلاح».

العدد الأول من مجلة مدارس الأحد

يذهب كمال زاخر، الباحث في الشؤون القبطية، إلى أن مجلة مدارس الأحد التي ساهم فيها البابا شنودة، بنصيب وافر قبل أن يجلس على كرسي رئيس التحرير، بالإضافة إلى الأنبا غريغوريوس، وسليمان نسيم، سمحت على مدى أعداد كثيرة بفتح قضية بالغة الأهمية وهي عملية اختيار البطريرك، حيث كانت على رأس القضايا التي تؤرق مجموعة شباب مدارس الأحد في الفترة، بين عامي 1947 و1954.

قد يفسر هذا التوجه ويدعمه فشل محاولة الدفع باسم حبيب جرجس، للرسامة أسقفا للجيزة والقليوبية، العام 1949، بعد وفاة مطرانها الأنبا إبرام، حيث تصدى الحرس القديم من المطارنة والأساقفة وقتها لهذه المحاولة بضراوة، رغم أن جرجس كان مشهوداً له من الأباء، ولكن أصر البابا يوساب الثاني، على عدم الاستجابة لمطلب شباب مدارس الأحد، وقام برسم أحد الرهبان وكان يشغل منصب سكرتير البابا، وهو القمص متياس الأنطوني، باسم الأنبا يوأنس. وقد أثارت تلك الحادثة وقائع عنف على خلفية إصرار الأنبا يوساب، تجاوز حبيب جرجس، إذ تظاهر شباب مدارس الأحد وقت سيامة مطران الحيزة، الأنبا يوأنس وهم يرددون: «نريد رعاة صالحين.. أين انت يا مارمرقس.. أين أنتم يا شهداء».

كما هاجمت المجلة بشدة سيطرة المجلس الملي على شؤون الكنيسة، مشيرة إلى أن وضع المجلس الملي وقتها غير كنسي، ولم يحدث في تاريخ الكنيسة، فيما استمر أبناء هذا الجيل وبخاصة البابا شنودة عبر أعداد مجلة مدارس الأحد، ميدان الثورة، ترفع شعار الإصلاح، وقد تصدرت عبارة رسالة البعث الجديد أغلفة المجلة، فضلاً عن صورة السيد المسيح وهو يحمل السياط لطرد المتطفلين الذين دنسوا الهيكل.

ومع النصف الثاني من عام 1954، قرر البابا شنودة الالتحاق بعالم الرهبنة باعتباره البوابة الرئيسية لبلوغ سبيل إصلاح الكنيسة. وفي الفترة بين عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وهي اللحظة التي تبوأ فيها جيل البابا شنودة المناصب الدينية عبر طقس الكنيسة المميز (الرهبنة)، مارس هؤلاء الرهبان كل ما يمكن من آليات التأثير والضغط حتى جلس البابا كيرلس السادس على كرسي البابوية الممتد بين عامي 1959و1971.

وبعد أعوام قليلة قرر البابا كيرلس السادس أن يستعين بهؤلاء الرهبان في قيادة الكنيسة، عبر سيامتهم أساقفة عموم دون إيبارشيات، ومن خلال ذلك أضحى الأنبا شنودة أسقف التعليم، وكذا، المعاهد التعليمية بالكنيسة الارثوذكسية، وأسس تقليداً عرف بدرس الجمعة، وكان محط اعجاب الشباب القبطي، وسجلت تلك الدروس حضور العديد من الأقباط للاستماع الى دروس الأنبا شنودة أسقف التعليم الذي أرسى في تلك الفترة ما بين سيامته أسقفا للتعليم وحتى جلوسه على كرسي البابوية 1971 الكثير من آرائه الاصلاحية، وبعض الإيماءات السياسية، التي لم يرتح لها البابا كيرلس السادس، فقرر على إثرها إعادة الأنبا شنودة إلى الدير، مرة أخرى، كما أصدر الأنبا شنودة مجلة جديدة ورأس تحريرها باسم مجلة «الكرازة»، وظلت تصدر حتى أكتوبر العام 1967، بينما توقف صدورها إثر الصدام بين البابا كيرلس السادس وأسقف التعليم البابا شنودة، ولم تعد المجلة إلا بعد جلوس الأخير على كرسي البطريرك، وكذلك القمص مكاري السرياني (الأنبا صموئيل) أسقف الخدمات العامة، ليضع البابا كيرلس السادس أقدام هذا الجيل على أعتاب القيادة الكنسية، ويضع سؤال الإصلاح والتغيير بين أيديهم، لتبدأ مرحلة جديدة للكنيسة وللأقباط في مصر.

تمثال البابا شنودة تنفيذ المهندس أشرف رؤوف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock