ثقافة

بين جائحة الكوليرا وآفة العمى.. كيف وصف طه حسن بيئته الجنوبية الفقيرة؟

   في رواية «العمى» يقدم الكاتب البرتغالى ساراماجو صورة لعالم انتشرت فيه عاهة العمى بحيث أصبحت وباء عاما يعانى منه الجميع بكل مايحمله العمى من دلالات رمزية، وفي رواية «الحب فى زمن الكوليرا» لماركيز، يشيع البطل العاشق انتشار وباء الكوليرا لكى يظل مع حبيبته التى حرم منها فى شبابه وتصادف وجودها معه فى السفينة. الأمر إذن عند ساراماجو وماركيز مجرد حيلة فنية لطرح أفكار تتجاوز فكرة الوباء فى حد ذاتها، لكن أحدا لم يلتفت إلى حضور جائحتين تاريخيتين بصورة اكثر عمقا لدي كاتب ثالث لايقل عالمية هو عميد الأدب العربي د طه حسين  وجاءتا فى سيرة «الأيام».. وتحديدا فى الجزء الأول منها الذى صدر عام 1926 مصوِّرا طفولة الكاتب وصباه فى تلك البيئة الريفية الجنوبية البسيطة التى استطاع طه حسين أن يتحدى تقاليدها ويصنع – رغم قسوتها عليه – معجزته الشخصية.

   لم يتحدث طه حسين عن آفة العمى بوصفها حدثا فرديا فحسب، بل بوصفها وباء عاما يقع تحت بلائه الكثيرون خاصة في الريف، ففى مقدمة طبعة «برايل» لسيرة «الأيام» يقول: «الذين يقرأون هذا الحديث من المكفوفين سيرون فيه حياة صديق لهم فى أيام الصبا، تأثر بمحنتهم قليلا قليلا حتى عرفها وهو لم يعرفها إلا شيئا فشيئا حين لاحظ ما بينه وبين أخوته من فروق فى تصور الأشياء وممارستها» («الأيام» طه حسين ص9 مركز الأهرام للترجمة والنشر 2004). إن طه حسين مفكر اجتماعى – بالإضافة إلى صفاته الكثيرة الأخرى – ويكفى أن نتذكر كتابه السردى «المعذبون فى الأرض» الذى جر عليه العديد من المشاكل فى الفترة الملكية، ولهذا لانستطيع أن ننظر إلى «الأيام» بوصفها سيرة ذاتية فقط فهى تحمل – أيضا – طابع الوثيقة الاجتماعية حيث يتحول فيها طه حسين إلى «مؤرخ ينقد البيئة ويصفها (ويتناول) الموضوعات التى تهم الحياة العامة وتنأى عن الحياة الشخصية» («السيرة الذاتية فى الأدب العربى الحديث» محمد الباردى فصول ص69م 16ع 3- 1997) .

   نحن إذن أمام سيرة ذاتية واجتماعية معا، الأمر الذى يمكننا من القول إن آفة العمى كانت تعد وباء عاما فى هذه البيئة. واللافت أنه يصور فقده لعينيه فى سياق حديثه عن موت أخته الصغرى الذى تسبب فيه إهمال المرض فى بداياته ثم علاجه بعد أن يشتد بما يتيسر فى هذه البيئة دون معرفة بضرره أو نفعه وهو ماحدث مع الصبى أيضا حيث «أصابه الرمد فأُهمِل أياما ثم دُعِىَ الحلاق فعالجه علاجا ذهب بعينيه»، ولنا أن نتأكد أن ماحدث مع هذا الصبى قد حدث مع آلاف غيره مادام العلم الآثم للأهالي مسيطرا ..هذا العلم الذى يزدرى الطبيب ويعتمد على الوصفات الشعبية.

جائحة الكوليرا 1902

   يبدو لى أن طه حسين كان يمهد – بتصوير موت أخته الصغرى وماتلاه من موت الجد والجدة – للحديث عن الجائحة الكبرى التى راح ضحيتها أخوه الأكبر الذى أتم «البكالوريا» ويستعد للالتحاق بمدرسة الطب، ويحدد الكاتب تاريخ هذا اليوم الذى ترك آثاره الموجعة على الأبوين فقد كان هذا يوم 21 أغسطس 1902حيث «كان وباء الكوليرا قد هبط إلى مصر ففتك بأهلها فتكا ذريعا: «دمرمدنا وقرى ومحا أسرا كاملة».

وإلى هنا لايذكر طه حسين ماحدث لأخيه بل يصور اجتياح هذا الوباء العام للمدن والقرى ومحوه لأسر كاملة كأنه يرسم مسرح الأحداث القادمة وإزاء هذا الحدث المدمر تتباين ردود أفعال الناس فيكثر مقرىء القرية من عمل «الأحجبة» كما أغلقت المدارس والكتاتيب و«كان الأطباء ورسل مصلحة الصحة قد انبثوا فى الأرض ومعهم أدواتهم وخيامهم يحجزون فيها المرضى وكان الهلع قد ملأ النفوس.. وكانت الحياة قد هانت على الناس وتتحدث كل أسرة بما أصاب الأسر الأخرى وتنتظر حظها من المصيبة، وكانت أم الصبى فى هلع مستمر وكانت تسأل نفسها ألف مرة فى كل يوم بمن تنزل النازلة من أبنائها وبناتها» «وتبدو المفارقة واضحة بين سيدنا الذى يكثر من عمل «الحجب» كتعويذة لحفظ الإنسان وبين مصلحة الصحة والأطباء الذين يعتمدون وسائل الطب الحديث بينما ظل عامة الناس فى هلع دائم من اتشار الموت الذى أدى إلى هوان الحياة عليهم فكان سؤال الأم عمن سوف تنزل النازلة به إرهاصا بموت ذلك الابن النجيب».

الوباء يخطف الطبيب المنتظر

   لم يتوان شقيق الكاتب – الطبيب المنتظر – عن مساعدة طبيب المدينة فى مقاومة هذا الوباء حتى كان يوم 20 أغسطس حين فزعت الأسرة على صوت ابنها الشاب  وهو يعاني القىء وهكذا وجد الوباء طريقه إلى الدار وعرفت الأم بأى أبنائها تنزل النازلة. وقد أظهرت هذه الفاجعة قوة إيمان الأبوين وتجلدهما رغم انفطار قلبيهما فقد كان الأب هادئا رزينا يملك نفسه وكانت الأم جلدة مؤمنة ترفع يدها ووجهها إلى السماء وتَفنى فى الدعاء والصلاة، كما أظهرت هذه الفاجعة  التفاف الجميع – كما هى عادة المصريين – حول هذه الأسرة المكلومة فقد كان «خارج الدار» يزدحم بالناس الذين أقبلوا إلى الشيخ- والد طه- يواسونه بينما كان داخل الدار مزدحما بالنساء اللاتى أقبلن يواسين أم الفتى، وهكذا حتى أسر الطبيب إلى رجلين من أقرب أصحاب الشيخ أن الفتى يحتضر ومنذ هذه الفاجعة تغيرت نفسية الصبى – طه حسين – تغيرا تاما فقدعرف الله و ظل يتقرب إليه بالصدقة وبالصلاة وبتلاوة القرآن.

   وأخيرا نستطيع أن نستنتج أن طه حسين يقدم بيئة اجتماعية تقوم على التآلف وقت الشدة وتواجه المصائب بجلد مستمد من قوة إيمانها دون أن تفقد رجاءها فى أن يرد الله قضاءه بالدعاء والتضرع إليه.. وهو أمر فطرت عليه الشخصية المصرية منذ القدم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock