منوعات

فيروس كورونا.. هل هو نقمة إلهية؟

في ظروف قاسية كالظرف الوبائي الذي يمر به العالم بأسره الآن؛ تشيع أفكار شتى من ضمنها فكرة النقمة الإلهية التي تستريح إليها أعداد غفيرة من الناس لأسباب شتى، على رأسها العجز عن خلق الحلول والإيمان بكمون الرحمة في باطن العذاب، هكذا في بلادنا وبلاد الدنيا، لكن ربما كان البشر لدينا أسرع خطًى -في الحقيقة – باتجاه تقبل الفكرة والترويج الهائل لها، ومن ثَمَّ كان الأمر أشد صعوبة؛ لوفرة الموروث الديني في منطقة «النقمة الإلهية» عندنا وتفسيراته الكثيفة التي لا يخلو معظمها من السذاجة والاستسلام المفرط للأقدار.. بل لا يخلو – بكامل الأسى والأسف – من إحساس المتعالين من رجال الدين، ومن قبلهم المتشددون الدينيون، بالسيطرة التامة على الخلق في أثناء النوازل والكوارث، وإخضاعهم لمنطقهم، وما الشدائد إلا فرصة بالنسبة لدعاة يتزايدون مع الوقت في أن يبرزوا ويصعدوا سلم الشهرة ويحققوا مكاسب مادية أيضا من خلال برامجهم التي تزدهر مع البلايا والملمات، تلك البرامج التي تُرعب الخلق من ذنوبهم وترهبهم، وتدعوهم إلى التوبة الجماعية العاجلة والتقرب إلى الله بالطيبات، قبل أن يتضاعف السخط السماوي عليهم فيفنيهم عن آخرهم!

تجار المحن والنوائب

لا ريب طبعا في أن التوبة محمودة والأعمال الصالحة ممدوحة، لكن المشكلة الفعلية أنهم غالبا لا يدعون إلى ندم ولا استغفار ولا إلى فعل حسنة وترك سيئة إلا ليهيئوا الناس لطرقهم في فقه الدين ومذاهبهم الدعوية السلفية بعد ذلك.. بل لا يقولون ما يقولونه، وكأنه الحقيقة الوحيدة، إلا ليقفزوا قفزة إلى الأمام لدى الشارع الذي تراجعت سمعتهم فيه، بعد أن ظهر افتتانهم بالسلطة وحدها.. ولا عجب لو أن جماعة منهم دعت، ضمن ما دعت في نطاق التوبة وتبني الصلاح، إلى إعفاء اللِّحى واستخدام المساويك والالتزام بزي معين «يرونه الشرعي» وما إلى ذلك؛ كي يصبغوا الناس بألوانهم وليس اتباعا للسنة المطهرة.. وفي كل دين سيجد المتأمل الفَطِن أقواما كأمثال هؤلاء لا في الإسلام وحده، وإن كانت الجماعات الإسلامية أطغى -للأمانة – وأكثر توغلا في مجتمعاتنا.

القريب الذي يرعى عباده

في الأديان السماوية الثلاثة، توجد عقوبات إلهية في الكتب المقدسة، عقوبات ينزلها الله بالكافرين والفاسقين والظالمين، وفي الأدبيات الدينية بالإسلام والمسيحية واليهودية، توجد هذه العقوبات باستفاضة في المرويات والقصص والآثار.. والسؤال البسيط الواضح: ما مدى اتساق ذلك كله مع الرحمة الإلهية الشاملة الغامرة، ومع كون الله تعالى «لطيف بعباده» بل هو اللطف الألطف بالبداهة؟!

في الإجابة النابهة الواعية عن هذا السؤال اليسير الصعب «يسير المبنى صعب المعنى» يكمن شيء خفي مهم، بوسعه جعل الأرواح تسكن والقلوب تطمئن، لكن لا يلتفت إليه إلا قليلون من أهل العقل والعلم المؤمنين بالله. 

أقول: لله تصرفه المطلق في ردِّ العالم إلى رشاده بالنِّعم والنِّقم كيف يشاء وقتما يشاء، لكن شيئان هنا: أولهما: سبق المثل من الله العلي القدير في الأزمنة الأولى العاتية، للتعليم والتحذير، فلا داعي إلى تكراره بالإرادة العلوية إذن بعد أن سبق ثبوت القدرة، وإن كان الكتاب أشار إلى إمكانية تكراره فمن باب الزجر والردع بالتهديد، إنما الغالب أن يكون تكرار المثل بالخطأ البشري الذي نهى الرَّبُّ عن اقترافه بالأساس «أي ما يرتكبه العالم بيديه فيؤذي به نفسه» وهاهنا يكون الله علم من الأول بأن النقمة ستجري، في أزمنة معينة، بأيدي الناس لا بأمره «كن فيكون»، فأقرَّها بعلمه الأزلي لا بتقديرها، ولم يصرف شرَّها صرفا كلِّيًّا حتى لا يتدخل في الاختيار البشري الحُرِّ الذي يحبِّذه للعالمين، وليس رغبة منه في تعذيب البشرية والتشفي فيها، حاشاه سبحانه، ومع ذلك تظهر رحمته ويظهر لطفه في أثناء المحن والمصائب، والشواهد الكثيرة حاضرة.

وما يمكن قوله هنا، هو أن علينا الاتعاظ باستمرار، والتعاضد والتكاتف، وأن نقدم صورا باذخة من التضحية والفداء، كلنا كلنا في مصر والدنيا، وأن نبحث عن دواء للداء بجدية، لا أن نجعل السماء التي يجب أن نستعين بها ونلمس عونها هي نفسها معيق الأمل! 

الطاعون في عصر الخليفة العادل

بمدى التاريخ، حصدت الأوبئة والطواعين أرواح خلق من الأنقياء الأطهار ضمن ما حصدت، فلم يقتصر ضررها البالغ على العصاة والمعاندين والفاسدين، حصدت رهبانا وقدِّيسين وأحبارا وعُبُّادا وزُهَّادا وصحابة للنبي الكريم نفسه «صلى الله عليه وسلم»؛ ويكفي هنا أن نذكر أنه في طاعون عمواس الذي جرى في عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» في عام 18 هجرية بأعقاب فتح بيت المقدس؛ أن توفي آلاف من عوام المسلمين الطيبين وأشراف الناس، وتوفي أكابر من الصحابة الأجلاء، ذكر المؤرخون من بينهم: أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث ابن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وضرار بن الأوزر، وأبو جندل بن سهيل.

أبو عبيدة بن الجراح كان أمير الناس وقتئذ، وهو الصحابي الجليل وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وقيل إنه رفض مغادرة البلاد امتثالا لحديث النبي بعدم الخروج من أرض الطاعون، وقال «إذ دعوه للخروج من الشام حينذاك»: إني في جند المسلمين، ولا أجد بنفسي رغبة عنهم.

نشأ الطاعون في بلدة بين الرملة وبين المقدس في فلسطين، اسمها عمواس، وانتقل منها إلى سائر أرض الشام بعد ذلك، وتسمى باسمها طبعا، ومات فيه ما قدَّروه بخمسة وعشرين ألفا، وقيل ثلاثون.

رسم لعمواس يعود لسنة 1886

من حق من يرى وباء كورونا «نقمة إلهية» أن يراه كذلك، مع استغرابنا من كونه يعتبره هكذا وقد جرى بين يدي الخليفة العادل، وفتك بكثير من هؤلاء الشامخين الخيِّرين، ومن حقنا أن نتشكك في مثل هذا الاعتقاد المجاني المريب، ونبحث عن السبب بمنهج كالمادية التاريخية مثلا، ولو لم نهتد إلى سبب لما جرى حين جرى، يبقى ظننا الحسن بربِّنا الذي لا يقع شيء، في أول الأمر وآخره، خارج علمه القديم وبعيدا عن حكمته العظيمة.. جلَّ الله!

عبد الرحيم طايع

شاعر وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock