منوعات

أئمة وشعراء: الإمام الشبراوي الذي فجرت قصيدته أزمة بين ثومة وحليم بعد قرنين ونصف

«وحقك أنت المنى والطلب.. وأنت المراد وأنت الأرب.. ولي فيك يا هاجري صَبوة.. تحير في وَصفِها كل صَب.. أَبيت أُسامِر نجم السما.. إذا لاحَ لي في الدُجى أو غرب.. وأُعرِض عن عاذِلي في هَواكَ.. إذا نمَّ يا مُهجَتي أو عتب.. أمولاي بالله رفقا بمن.. إليك بذل الغرام انتسب» من قصيدة «وحقك أنت المنى والطلب» للإمام «عبد الله الشبراوي» التي لحنها وتغنى بها الشيخ «أبو العلا محمد» ثم تغنت بها سيدة الغناء العربي «أم كلثوم».

الشيخ «أبو العلا محمد»

يحفل التاريخ الإسلامي بالعديد من الأئمة الذين شغفوا حبا بعالم الشعر والشعراء، البعض منهم دخل هذا العالم البديع من باب السعي وراء مزيد من إتقان فنون اللغة العربية وفقط، والبعض الآخر أبحر فيه حد تقديم إبداع شعري يفوق إبداع معاصريهم من الشعراء. وصارت بعض دواوين الأئمة مصدر إلهام للمتصوفة في كل مكان، ينشدونها بحلقات الذكر وموالد آل البيت ومختلف المناسبات الدينية، مؤكدين على أن الإسلام دين بهجة وجمال. 

تتواصل حلقات رحلة الأئمة الشعراء منذ صدر الإسلام وصولا للشيخ الإمام «عبد الله الشبراوي» وهو الشيخ السابع للأزهر الشريف في تاريخه الحديث.. هذا الإمام الذي تمكن من الجمع ما بين علوم الدين ونظم قصائد الشعر التي تراوحت بين مناجاة الله عز وجل ومناجاة المحبوب والتغني بالوطن، إلى جانب نظم القصائد التي عمدت إلى تيسير بعض العلوم عبر نظمها شعرا.

الشيخ الإمام «عبد الله الشبراوي»

إمام الفقراء والمستضعفين

«الشيخ الإمام الفقيه، المتحدث الأصولي، المتكلم الماهر، الشاعر الأديب».. هكذا قدم المؤرخ العربي «عبد الرحمن الجبرتي» في موسوعته «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» للشيخ «عبد الله بن محمد بن عامر بن شرف الدين الشبراوي الشافعي» الشهير باسم «عبد الله الشبراوي».. فهو الإمام الفقيه الذي جمع بين علوم أصول الدين ونظم الشعر منافسا شعراء عصره ومتفوقا عليهم.

يواصل الجبرتي تقديم الإمام «عبد الله الشبراوي» مشيرا إلى أنه قد ولد بالقاهرة على وجه التقريب سنة «1092هجريا» وتلقى أول إجازة دراسية وهو في الثامنة من عمره من قبل الشيخ «محمد بن عبد الله الخراشي» وهو أول مشايخ الأزهر في العصر الحديث وكان ينتمي للمذهب المالكي، ثم تتلمذ على يد عدد من مشاهير مشايخ عصره وهم: «الشيخ خليل إبراهيم اللقاني، الشيخ الشهاب الخليفي، الشيخ محمد الزرقاني، والشيخ أحمد النفراوي». تدرج «الشبراوي» في تحصيل علوم الدين حتى صار شيخا للجامع الأزهر سنة «1724م» ليصبح بذلك الشيخ السابع للأزهر في تاريخه الحديث.

الشيخ «محمد بن عبد الله الخراشي»

الدكتور «نبيل حنفي محمود» في كتابه «أئمة وشعراء غنائيون» يتناول سيرة الإمام «الشبراوي» مشيرا إلى أنه قد ترأس مشيخة الأزهر لسنوات عدة وصلت إلى نحو «خمسة وثلاثين عاماً»، تمتع خلالها بمكانة عظيمة أتاحت له التدخل في العديد من الشئون السياسية التي حفل بها عصره، حتى أن داره التي بناها على بركة الأزبكية بالقرب من شارعي «البكرية والرويعي» بالقرب من الأزهر كانت توصف بأنها دار عظيمة تردد عليها رجال الدولة والأمراء إلى جانب العامة والفقراء. 

خالط «الشبراوي» الأُمراء غير أنه عُرِفَ بإنحيازه إلى الفقراء، في هذا السياق يروي «الجبرتي» في يومياته العديد من مواقفه الداعمة للفقراء، كان منها موقفه من ذلك المرسوم الملكي الخاص بإلغاء مرتبات لأولاد وميزانيات لمساجد وأسبلة تدعم الفقراء، فما كان منه إلا أن كتب عريضة تطالب بإعادة ما قد أُلغى من مرتبات وهو ما قد صار.

ومثلما كان نصيرا للفقراء، كان الشبراوي أيضا نصيرا وداعما لأقباط مصر وليس أدل على ذلك من موقفه إزاء الحج لبيت المقدس الذي رصده «الجبرتي» مشيرا إلى أنه بينما اعترض بعض شيوخ ذلك العصر على خروج موكب للحجاج الأقباط لزيارة بيت المقدس سنة «1166 هجريا – 1752م» وأوعزوا للعامة أن يغيروا على الموكب كي ينهبوه، كتب «الشبراوي» فتوى جاء فيها: «إن أهل الذمة لا يمنعون من دياناتهم وزياراتهم». 

بين العلم والشعر

يواصل دكتور «نبيل حنفي محمود» تقديم «الشبراوي» مشيرا إلى تعدد المجالات التي أسهم فيها، كان منها تلك الكتابات التي تناولت علوم الدين: «العقد الفريد في استنباط العقائد من كلمة التوحيد.. شرح الجامع الصغير.. شرح أحكام ابن عطاء الله السكندري.. الإتحاف بحب الأشراف». كما ساهم في مجال الأدب بالعديد من الكتابات كان منها: «عروس الآداب وفرحة الألباب في تقديم الأخلاق ونصائح الحكام وتراجم الشعراء.. عنوان الباب وبستان الأذهان في الأدب والأخلاق والوصايا والنصائح.. نزهة الأبصار في رقائق الأشعار.. نظم بحور الشعر وأجزائها». وفي مجال التاريخ أدلى بدلوه بكتاب حمل عنوان: «شرح الصدر في غزوة بدر».

استغل «الشبراوي» شغفه بالشعر في تسهيل بعض العلوم عبر تقديمها للقارىء منظومة شعرا، ومن ذلك نظمه ل«الأجرومية في علم النحو» و«الأجرومية أو متن الأجرومية» وهى عبارة عن دراسة في علم النحو «لأبو عبد الله الصنهاجي» المعروف «بابن أجروم». 

من الشعر للغناء

«أعدْ ذكر مصر، إن قلبي مُولعُ.. بمصر، ومن لي ترى مقلتي مصرا؟.. وكرِّرْ على سمعي أحاديث نيلها.. فقد ردت الأمواج سائله نهرا.. بلاد بها مد السماح جناحه.. وأظهر فيها المجد آيته الكبرى». 

تنوعت قصائد «الشبراوي» ما بين التغني بعشق مصر ومناجاة الرب والمحبوب واشتهرت قصائده حتى صارت منهلا لأهل الفن والغناء.

«أما ومن الجمال أنعم.. وعم بالحسن منك مبسم.. وأودع السحر في العيون.. هاروت من جفنها تعلم.. وما حوى الثغر من لآلى.. فريدها فيه قد تنظم.. وطيب أخلاقك اللواتي.. طيبهن النسيم يعلم».

منح الشيخ «أبو العلا محمد» سيدة الغناء العربي «أم كلثوم» العديد من الأعمال التي قام بتلحينها وكان من أبرزها قصيدة «وحقك أنت المنى والطلب» وهى إحدى أشهر قصائد الإمام «الشبراوي» التي تغنت بها أم كلثوم وتم تسجيلها على أسطوانة لشركة «صوت سيدة» في سنة «1926م». 

المثير حول قصيدة «وحقك أنت المنى والطلب» للإمام «الشبراوي» والتي نجت من الضياع على خلاف الكثير من أعماله، أن خلافا حادا قد نشب بين «أم كلثوم» و«عبد الحليم حافظ» نتيجة غنائه لأغنية «يا سيدي أمرك» التي نظمها «فتحي قورة» ولحنها «محمود الشريف» وتغنى بها «عبد الحليم» بثالث أفلامه «ليالي الحب» حيث أدرج الشاعر الشطر الأول من القصيدة  «وحقك أنت المنى والطلب» بتلك الأغنية الساخرة التي قيل وقتها أن أم كلثوم قد اعتبرتها من قبيل السخرية ليس فقط من الغناء القديم الذي سبق وأن قدمته، وإنما من مجمل ما قدمت من غناء عبر رحلتها الفنية. 

رحلة الإمام «عبد الله الشبراوي» الذي جمع بين علوم الدين ونظم الشعر ليست هي الوحيدة من نوعها، فالتاريخ الإسلامي حافل بتلك النماذج المشرقة التي أضاءت العالم العربي والإسلامي بنور البهجة والمحبة والتسامح.. فتحية إجلال وتعظيم لهؤلاء الأئمة الشعراء في شهر رمضان المعظم الذي يأتي كل عام لينثر على العالم أجمع فيضا من النور والبهجة والسلام والسكينة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock