فن

أبو بكر عزت.. النجم الزاهد في النجومية

ككل المهتمين بفن التمثيل، كنت أتابع الأداء العبقري المنوع الذي يؤديه العملاق أبو بكر عزت، سواء في المسرح والسينما والتلفزيون أو من خلال صوته المميز بواسطة الإذاعة، فتلتصق أدواره بالروح، وأجده في زمرة من نطلق عليهم «الفنانين الشاملين»، لكن شموليته عميقة بكل معنى الكلمة، والمعنى أن الممثل القدير لم يكن مجرد شخص موهوب، يوزع موهبته على القوالب الفنية والأدوار المتباينة بحكم الوظيفة، لكنه يبرز في الآفاق بروزا مثيرا للانتباه، ولا يقبل دورا إلا لو كانت إضافته الواضحة له وللمتلقين معا هي خلاصة الدور وزبدته. 

أبو بكر عزت

بدايات قوية

هو قادر على أداء الكوميديا كما التراجيديا، بل لا يكاد متابعه يعرف له خانة يضعه فيها؛ لأنه صورة عالية من صور الممثل البارع في كل ما يوكل إليه، وبصمته طاغية ولو لم ينل بطولات يستحقها، على الرغم من كثافة الخبرات وحجم الظهور الطويل المؤثر. 

أبو بكر عزت قاهري صميم؛ فقد ولد في أحد أعرق أحياء القاهرة الشعبية حي السيدة زينب في عام 1933، حصل على الليسانس من كلية الآداب قسم الاجتماع من جامعة القاهرة، وفي أثناء دراسته الجامعية مارس الإخراج المسرحي لزملائه، والتحق بمعهد التمثيل وحصل على مؤهله عام 1959، وفي نفس العام انضم إلى فرقة المسرح الحر، وانطلق في التمثيل، مبديا تجلياته التي من أبرزها في تلك الفترة: الدبور، والدخول بالملابس الرسمية. تتالت أعماله المسرحية بعد ذلك، وكان من بينها: على جناح التبريزي وتابعه قفة، حماتي والمنديل، سكر زيادة، بداية ونهاية، الزيارة انتهت، والعالمة باشا. 

مقطع من مسرحية الدخول بالملابس الرسمية

علامات فنية

كان طبيعيا، مع بداياته القوية، أن تناديه السينما ويطلبه التلفزيون وتستقطبه الإذاعة، وهو ما حدث فعليا؛ فعمل في السينما منذ أوائل الستينيات إلى قرب نهايات التسعينيات «من فيلم زوجة ليوم واحد 1962 إلى المرأة والساطور 1997»، مرورا بأفلام مهمة مثَّل بعضها علامات في تاريخ السينما المصرية، كالنظارة السوداء، الحياة حلوة، 30 يوم في السجن، معبودة الجماهير، ميرامار، أفواه وأرانب، خائفة من شيء ما، كلاب الحراسة، امرأة متمردة، الإمبراطور، الهروب ،ضد الحكومة، دموع صاحبة الجلالة والزمن والكلاب.

مقطع من فيلم ضد الحكومة

وفي التلفزيون، عبر السنين، كانت مشاركاته الرفيعة في مسلسلات كثيرة، ضمنها: عصفور في القفص، علي الزيبق «دوره الشهير للغاية سنقر الكلبي»، رأفت الهجان «الجزء الثالث»، طعم الأيام، بنت أفندينا، مكان في القلب، وجع البعاد، حلم الجنوبي، زيزينيا، أرابيسك و الناس والفلوس. 

مقطع من مسلسل أرابيسك

بالإضافة لعشرات الأعمال الإذاعية المحفورة في ذاكرة الإذاعة المصرية العريقة.

كلام في الفن

طوال رحلته الزاخرة باللآلئ، كبحر كبير متلاطمة أمواجه، كان أبو بكر عزت متنبها لكل خطوة يخطوها في المجال الفني، لم يغفل قط مهما كان الزحام من حوله يشد للغرق والغفلة، حياته الزاخرة تستحق التأمل النابه والتدريس والتكريم.. كان قنوعا أيضا فيما يبدو؛ فقد كان من الممكن أن يترك عددا من الأعمال يفوق ما تركه مقدار ضعف وضعفين، إلا أنه عرف قدر نفسه في منتصف الرحلة، بعد أن جاوز الانتشار، وصار انتقائيا، بعكس المرحلة الأولى، والانتقائية بالمناسبة، في بعد من أبعادها المتصل بالأخلاق، تؤكد القناعة وعدم الطمع. 

لم يحزنه قط عدم حصوله على البطولة التي حصل عليها من هم أدنى منه موهبة ووزنا في تاريخ فن التمثيل؛ ففي حواراته للصحف والمجلات المعتبرة التي طالما تلححت عليه لإجراء حوارات مع أقسامها الفنية، قال كثيرا: لا أشعر بالظلم.. بالعكس أنا نلت حظي وزيادة. ما أحزنه حقا حال الكوميديا في المسرح؛ فقد رثى حال الكوميديا المصرية في حوارات ذائعة أجريت معه بالصحافة العربية والمحلية قبيل موته بسنوات قليلة، قائلا: إن الكوميديا أصبحت مهنة لا مهنة له.. وإنه بعد انسحابه من المسرح تركه كبار كفؤاد المهندس ومحمد عوض.. وإن الأمل باق في عادل إمام ومحمد صبحي وسمير غانم الذين ينحتون في الصخر ليحافظوا على استمرار اللون الكوميدي الراقي في مسرحنا المصري «كان مسرحهم أيامها متوهجا فعليا وكانوا الأكثر وفاء وإخلاصا للمسرح وكانوا الأبرز وبمثابة مدارس مستقلة منوعة».

أين التكريم الذي يستحقه؟

من أغسطس شهر ميلاده إلى فبراير شهر رحيله؛ لا يتذكر الفن أبا بكر عزت بما هو أهل له، لا يتذكر قيمته التي تعلو على أعماله نفسها، قيمة شموليته وعمقه داخل هذه الشمولية نفسها، ولا يحرص على إيصاله بهذا المعنى الرفيع لطلاب فن التمثيل ومحبيه. هي مشكلة تتجاوز الرجل إلى جميع الخالدين في مهنهم لو شئنا الحقيقة، ليست مشكلة الفن بالذات لكن مشكلة مجتمع بأسره، تعود أن يعرف الثقل الحقيقي لأفراده متأخرا تماما، بعد موتهم أو بعد أن يقرع القارعون المنصفون أجراسا ضخمة يوقظون بها النيام من سباتهم العميق.. هذا بالضبط هدف هذه الكتابة التي أرجو أن تكون وافية عن واحد من أفذاذنا في فن التمثيل، بمدى وجوده وجدت الحياة الفنية زهوها عنده، وبانطفاء مصباحه غاب قمر مكتمل كان يحول لياليها المدلهمة إلى نهارات باذخة. إن التجاهل، كان عمدا أو كان سهوا، سلوك لا يليق بمصريتنا الوفية، ويجب أن يختفي من أرضنا الطيبة؛ بحيث ينال الجديرون بالحقوق حقوقهم كاملة في حيواتهم، وإن عز الأمر، فالأقرب للعدل أن يناله أقرباؤهم وأحبتهم وجمهورهم في ذكراهم ممتنين للنبهاء المنصفين لا عاتبين على ظلم الأيام.   

مات أبو بكر عزت عن عمر ناهز الثلاثة والسبعين عاما في إثر أزمة قلبية فجائية، مات في يوم مشهود على المستوى الشخصي لأسرته الصغيرة «27 فبراير 2006»، هو الموافق لعيد زواجه بالكاتبة كوثر هيكل التي عاش معها فوق الأربعين عاما، وتعاونا في تسعة أعمال من تأليفها، وله منها ابنتاهما السيدة سماح الإعلامية وكاتبة الأطفال، زوجة الكاتب المستنير الدكتور خالد منتصر، والسيدة أمل زوجة المخرج خالد الإتربي.

أبو بكر عزت مع اسرته زوجته كوثر هيكل وابنتهما السيدة سماح 

عبد الرحيم طايع

شاعر وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock