منوعات

قصة آية (18) أسيد بن الحضير.. عاشق القرآن الذي استمعت الملائكة لتلاوته

في غزوة بني المصطلق، وبعد أن نصر الله رسوله ﷺ، وفي طريق رجعته إلى المدينة، وبينما الناس على بئر ماء، ازدحم بعضهم مع بعض فاقتتلوا فصرخ بعضهم: يا معشر الأنصار، وصرخ الآخر: يا معشر المهاجرين، وتحركت مغايظ عبد الله بن أبيّ ابن سلول زعيم المنافقين بالمدينة وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، غلام حديث السنّ، فقال: قد فعلوها؟، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعُدّنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: «سمّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزُّ منها الأذلَّ»، ثم أقبل على من حضر من قومه، فقال: «هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم».

ورغم صغر سنه إلا أن زيد بن أرقم وجدها سيئة من زعيم قومه، وقرر أن يبلغ بها رسول الله ﷺ فأمر النبي الناس بالرحيل من مكانهم هذا، وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس، فلما استقلّ رسول الله ﷺ لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوّة وسلم عليه، ثم قال: يا رسول الله لقد رُحتَ في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها، فقال له رسول الله ﷺ: «أو ما بَلَغَكَ ما قالَ صَاحِبُكُمْ؟»، قال: فأيّ صاحب يا رسول الله؟، قال: «عبد اللَّه بن أُبيّ»، قال: وما قال؟، قال: «زَعمَ أنَّهُ إنْ رَجَعَ إلى المَدِينَةِ أخْرَجَ الأعَزُّ مِنْها الأذَل»، قال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تُخرجه إن شئت، هو والله الذليل، وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته مُلكاً، ونزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول آية نفاقه: (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) (المنافقون: 8).

كان أسيد بن حضير بن عبد الأشهل الأنصاري رضي الله عنه، فارس قومه ورئيسهم، فأبوه حضير الكتائب زعيم الأوس، وواحد من كبار أشراف العرب في الجاهلية، وكان أسيد أحد النقباء الذين اختارهم الرسول ﷺ ليلة العقبة الثانية، وكان رضي الله عنه قد أسلم بعد بيعة العقبة الأولى، عندما بعث النبي ﷺ مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة، ليعلم ويفقه المسلمين من الأنصار وليدعو غيرهم إلى دين الله، فجلس هو وأسعد بن زرارة في بستان، وحولهما أناس يستمعون إليهما، وبينما هم كذلك، كان أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ زعيما قومهما يتشاوران في أمر مصعب بن عمير الذي جاء يدعو إلى دين جديد، فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذا الرجل، فازجره، فحمل أسيد حربته وذهب إليهما غضبان، وقال لهما: ما جاء بكما إلى حيِّنا، تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا، إذا كنتما تريدان الحياة، فقال له مصعب: أَوَ تَجْلِس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره؟ فقال أسيد: لقد أنصفت، هاتِ ما عندك.

أخذ مصعب يكلم أسيداً عن الإسلام ورحمته وعدله، وراح يقرأ عليه آيات من القرآن، فأشرق وجه أسيد بالنور، وظهرت عليه بشاشة الإسلام حتى قال من حضروا هذا المجلس: والله لقد عرفنا في وجه أسيد الإسلام قبل أن يتكلم، عرفناه في إشراقه وتسهله.

ولم يكد مصعب رضي الله عنه ينتهي من حديثه حتى بادر أسيد قائلاً: ما أحسن هذا الكلام وأجمله، كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين؟، فقال له مصعب: تطهّر بدنك وثوبك، وتشهد شهادة الحق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم تصلي، فقام أسيد فاغتسل وتطهر ثم صلى ركعتين معلناً إسلامه.

وعاد أسيد إلى سعد بن معاذ، وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد لمن حوله: أقسم، لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به، ثم قال له سعد: ماذا فعلت؟ فقال أسيد: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما، فقالا لي: نفعل ما أحببت، ثم قال أسيد لسعد بن معاذ: لقد سمعت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك، فقام سعد غضبان وفي يده حربته، ولما وصل إلى مصعب وأسعد وجدهما جالسين مطمئنين، عندها أدرك أن هذه حيلة من أسيد لكي يحمله على السعي إلى مصعب لسماعه، واستمع سعد لكلام مصعب واقتنع به وأعلن إسلامه، ثم أخذ حربته، وذهب مع أسيد بن حضير إلى قومهما يدعوانهم للإسلام، فأسلموا جميعاً.

أحب أسيد رضي الله عنه القرآن، وكان يصدح به بصوت جميل، وقد روى عن أبي سعيد الخدري عن أسيد بن حضير أن النبي ﷺ قال له: «اقرأ يا أسيد، فقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود»، وذات ليلة أخذ يقرأ القرآن، وفرسه مربوطة بجواره، فهاجت الفرس حتى كادت تقطع الحبل، وعلا صهيلها، فسكت عن القراءة فهدأت الفرس ولم تتحرك، فقرأ مرة ثانية فحدث للفرس ما حدث لها في المرة الأولى، وتكرر هذا المشهد عدة مرات، فسكت خوفًا منها على ابنه الصغير الذي كان ينام في مكان قريب منها، ثم نظر إلى السماء فإذا به يرى غمامة مثل الظلة في وسطها مصابيح مضيئة، وهى ترتفع إلى السماء، فلما أصبح ذهب إلى الرسول ﷺ وحدثه بما رأى، فقال له النبي: «تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم».

عاش أسيد رضي الله عنه عابداً قانتاً، باذلاً روحه وماله في سبيل الله، وروي عن أنس قال: جاء أسيد بن حضير إلى النبي وقد كان قسم طعاماً، فذكر له أهل بيت من الأنصار من بني ظفر فيهم حاجة، وجُلّ أهل ذلك البيت نسوة، فقال له النبي: «تركتنا يا أسيد حتى ذهب ما في أيدينا، فإذا سمعت بشيء قد جاءنا فاذكر لي أهل ذلك البيت»، فجاءه بعد ذلك طعام من خيبر شعير أو تمر، فقسّم رسول الله ﷺ في الناس وقسم في الأنصار فأجزل، وقسم في أهل البيت فأجزل، فقال أسيد بن حضير متشكراً: «جزاك الله أي نبي الله أطيب الجزاء». فقال النبي: «وأنتم معشر الأنصار، فجزاكم الله أطيب الجزاء؛ فإنكم ما علمت أعفة صُبُر، وسترون بعدي أثرة في الأمر والقسم، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض».

وبعد وفاة النبي ﷺ اجتمع فريق من الأنصار في سقيفة بني ساعدة على رأسهم سعد بن عبادة، وأعلنوا أحقيتهم بالخلافة، وطال الحوار، واشتد النقاش بينهم، فوقف أسيد بن حضير رضي الله عنه مخاطبًا الأنصار قائلاً: تعلمون أن رسول الله ﷺ كان من المهاجرين، فخليفته إذن ينبغي أن يكون من المهاجرين، ولقد كنا أنصار رسول الله ﷺ وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته.

وحين ولي أبو بكر رضي الله عنه الخلافة لم يكن يقدم على أسيدٍ أحداً من الأنصار، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد منهم يُلحق في الفضل، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر.

محمد حماد

كاتب وباحث في التاريخ والحضارة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock