فن

حكايات سيد مكاوي.. شيخ عموم المسحراتية في بر مصر

إصحى يا نايم .. إصحى وحد الدايم .. قول نويت بكرة  إن حييت ..الشهر صايم والفجر قايم … إصحى يا نايم وحد الرزاق ..رمضان كريم …

أنا مسحراتي فى البلد جوال ..حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال.. كل شبر وحتة من بلدي حتة من كبدي حتة من موال.. رمضان كريم.

هكذا كان المصريون ولسنوات طويلة يستيقظون في رمضان وقت السحور على وقع طبلة وصوت الشيخ سيد مكاوي مسحراتي مصر، عبر أثير الاذاعة وعلى شاشة التليفزيون، وهو يغنى كلمات العبقري فؤاد حداد. غنى الشيخ سيد أكثر من 100 أغنية للمسحراتي من تأليف حداد، غناها بدون موسيقى وفقط على وقع الطبلة وكان صوته جميلا شجيا رائعا. وحين صوّر سيد مكاوي المسحراتي للشاشة الصغيرة، فإنه كان يظهر بالجلباب والطاقية ما جعله أكثر ألفة وحضورا  وقبولا لدى المصريين.

ورغم أن مطربين كثيرين سبقوا الشيخ سيد ولحقوه في الغناء كمسحراتية، مثل محمد فوزى وعبد العزيز محمود وكارم محمود ومحمد رشدي ومحمد قنديل، فإن الشيخ سيد فقط هو من حفر بصمة وترك أثرا عميقا مستمرا باعتباره مسحراتي مصر الأول، ليرتبط اسم مكاوي برمضان إرتباطا وثيقا ومستمرا.

مطرب في الإذاعة

ولد الشيخ سيد مكاوي في حي الناصرية بالسيدة زينب في الثامن من مايو عام 1928 لأسرة فقيرة رقيقة الحال، وفقد بصره وهو صغير فأدخلته أسرته إلى الكتاب كي يحفظ القرآن الكريم، وعمل في مقتبل عمره مؤذنا وقارئا للقرآن بالمساجد. غير أن الشيخ سيد الذى كان يتمتع بأذن موسيقية إضافة إلى صوته الجميل منذ صباه الباكر، تعرف إلى الشقيقين إسماعيل ومحمود رأفت وكانا ينتميان إلى أسرة ثرية وعاشقين للموسيقى والغناء وعازفين ماهرين، أحدهما يجيد العزف على آلة الكمان، والآخر يعزف على آلة القانون، فكون معهما ما يشبه التخت الشرقي، وكانوا يقومون بإحياء الحفلات العائلية على نطاق ضيق.

وفى تلك الفترة أحب الشيخ سيد الإنشاد الديني وأعجب بأساطينه في ذلك الوقت، مثل الشيخ إسماعيل سكر والشيخ مصطفى عبد الرحيم، واتجه للإنشاد الديني. وتقدم الشيخ سيد إلى اختبارات الإذاعة المصرية ليلتحق بها مطربا، ويغنى عددا من الأغاني الدينية، وكانت أول أغنية غناها للإذاعة هي أغنية «محمد» من ألحان صديقه عبد العظيم عبد الحق ثم غنى عددا من الأغاني الأخرى مثل «تعالى الله أولاك المعالى» ثم أغنية «آمين آمين» وأغنية «يا رفاعي يا رفاعي» وأغنية «حيارى على باب الغفران» ثم توج تلك الأغاني الدينية بأغنية «أسماء الله الحسنى». وبمناسبة هذه الأغنية ذكرت ابنته الكبرى السفيرة إيناس سيد مكاوي مدير إدارة الأزمات بالجامعة العربية، في حوار متلفز مؤخرا، أنها كانت بعد وفاة الشيخ سيد قد علمت أن أحد المطربين غنى أغنية أسماء الله الحسنى، دون أن يعود لأسرة الشيخ سيد، ويستأذنهم باعتبارهم أصحاب الملكية الفكرية للأغنية، فقررت إنذاره قضائيا، وقبل أن تتخذ إجراءات التقاضي جاءها والدها الشيخ سيد في رؤية منامية ليقول لها: «سيبك من موضوع أسماء الله الحسنى دي صدقة جارية».

أول من لحن مقدمة لمسلسل إذاعي

واستمر الشيخ سيد يقدم إبداعاته الغنائية والموسيقية للإذاعة المصرية، ويكفى مثلا أنه أقنع مسئولي الإذاعة بضرورة عمل تترات ومقدمات غنائية للمسلسلات الإذاعية، في سابقة فريدة تؤكد على أن الشيخ سيد، كان يتمتع برؤية فنية تتجاوز عصره. فغنى ولحن مقدمات عدد من المسلسلات الإذاعية الشهيرة مثل شنطة حمزة ورضا بوند وعمارة شطارة وغيرها. وللإذاعة أيضا قدم الشيخ سيد عملا إذاعيا ضخما وكبيرا هو «من نور الخيال وصنع الأجيال» عن تاريخ القاهرة، وكان من كلمات المبدع فؤاد حداد وغنى فيه الشيخ سيد عددا من الأغاني البديعة، وكانت فكرة هذا البرنامج الغنائي الكبير قد عرضت على صلاح جاهين فقال لمن عرض عليه الفكرة، كيف أكتبها وهناك فؤاد حداد؟ ويقول في مقدمة البرنامج  الغنائية: «يا سامعين أبناء بلد واحدة تحت السما الواحدة جيل بعد جيل القاهرة قالت وقولها الحق اشهد بأنك بنى آدم جميل» وحفل هذا العمل الملحمي بعشرات الأغاني الفريدة.

  وربما لا يعلم الكثيرون مثلا أن التتر والمقدمة الغنائية الخالدة لـ«حواديت أبلة فضيلة» «غنوة وحدوتة» إحدى الكلاسيكيات العظيمة في تاريخ الإذاعة المصرية التي كان ملايين الأطفال -والكبار أيضا- ينتظرونها بفارغ الصبر في تمام  العاشرة إلا الربع من صباح كل يوم هي من ألحان سيد مكاوي. ومن منا ينسى«يا ولاد يا ولا د.. توت توت توت.. تعالوا تعالوا.. علشان نسمع أبلة فضيلة.. راح تحكى لنا حكاية جميلة.. وتسلينا وتهنينا.. وتذيع لينا.. كمان أسامينا.. أبلة أبلة فضيلة» مع لحن موسيقى بسيط ومعبر عن الأطفال وبراءتهم يؤكد على عبقرية الشيخ سيد.

 الليلة الكبيرة

يظل أوبريت «الليلة الكبيرة»، الذى لحنه المبدع الكبير سيد مكاوي وكتب كلماته العبقري صلاح جاهين، عملا استثنائيا في تاريخ الغناء والفولكلور المصري، ويظل دائما واحدا من الأعمال الموسيقية الغنائية الشعبية ذات الطابع الخاص والفريد والمختلف، فيه تجلت عبقرية اللحن للشيخ سيد مع إبداع الكلمات لصلاح جاهين، و هو واحد من الأعمال التي تتمتع بخصوصية البيئة المصرية، في التعبير عن فكرة المولد الشعبي في الأحياء الشعبية المصرية، وربما استلهم مبدعا العمل الكبيران (مكاوي وجاهين) تيمة التعبير اللحني والشعرى له من مشاهداتهما المستمرة وترددهما على الموالد الشعبية  التي كانت – ولا تزال – تقام في منطقة السيدة زينب خاصة مولد السيدة زينب. وقد استمر صلاح جاهين وسيد مكاوي يترددان لشهور على تلك الموالد ليسمعا المنشدين وليتفاعلا مع ما يقدم من فقرات وألعاب بالسيرك الشعبي وما يحدث بالمولد من  مسابقات، وذلك أثناء تحضيرهما  للأوبريت ليقدما في النهاية واحدا من أروع الاوبريتات، وحيث تناول الأوبريت بالأغاني والألحان، مهن الأراجوز وبائع البخت وبائع الحمص والقهوجي والمعلم ومدرب الأسود والمصوراتي وغيره من المهن والفئات المشاركة في المولد، في لوحة فنية بديعة حققت قفزة بل وإحياء كبيرا لمسرح العرائس، وقد تولى تنفيذ العرائس، والإشراف علي تحريكها في العمل، فنان العرائس ناجى شاكر وأخرج الأوبريت مخرج العرائس الشهير الراحل صلاح السقا والد الفنان احمد السقا، وعرض الأوبريت لأول مرة في الأول من مايو عام 1961.

 وقد كان «الليلة الكبيرة» «وش السعد» على سيد مكاوي بالنسبة لحياته الخاصة فقد تعرف من خلاله على طالبة كلية التربية الفنية الفنانة التشكيلية زينات خليل التي كانت قد سمعت كثيرا عن موهبة الشيخ سيد الغنائية والموسيقية من إحدى صديقاتها لتقترح أن ترسم اسكتشات أوبريت الليلة الكبيرة، وخلال أدائها لعملها الفني تقربت من الشيخ سيد ليتم الزواج عام 1961 ولينجبا ابنتيهما إيناس وأميرة. وقد اعترف الشيخ سيد لابنتيه بفضل أمهما عليه فقد أدارت له حياته بشكل رائع وقال لهما: «لولاها كنت صرفت كل ما كنت أكسبه من الفن»

مع أم كلثوم

في بدايات سطوع نجم سيد مكاوي، وهو في أواخر العشرينات من عمره اتصلت به سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وكان العمل معها تأليفا أو تلحينا حلما لجميع الشعراء والملحنين. قالت كوكب الشرق لسيد مكاوي:عايزاك تلحن لي أغنية جديدة اسمها «أنساك»، لكنها فوجئت به يقول لها: وها تدفعي كام يا ست، فردت عليه أم كلثوم وقالت له: ألا يكفيك فخرا أنك ستلحن لأم كلثوم؟ فضحك الشيخ سيد وقال لها لكنني لن أذهب إلى البقال واشترى منه احتياجاتي بما سأحصل عليه من فخر بالتلحين لك، فغضبت أم كلثوم ولسنوات لم تفكر في العمل مع الشيخ سيد. لكنها وبحس الفنان الاستثنائي وبإحساسها الفني بأن ألحان الشيخ سيد ستمثل إضافة كبيرة لها، اتصلت به مرة اخرى وقالت له: «هه يا شيخ سيد مش عايز تشتغل معايا برضه؟ فقال لها لا طبعا عايز اشتغل معاكي بس بشرط، فضحكت أم كلثوم وقالت له شرط تاني يا شيخ سيد؟ فأجابها: شرطى أن يكتب الاغنية التي سألحنها لك أحمد رامي ووافقت أم كلثوم وطلبت من أحمد رامي تأليف أغنية  جديدة وكانت أغنية يا مسهرني التي تجلت فيها عبقرية سيد مكاوي في التلحين إلى جانب عبقرية صوت أم كلثوم، وكانت واحدة من أجمل الأغنيات التي شدت بها أم كلثوم، وأكثرها خلودا، ويكفى أن كوكب الشرق، وفى إحدى الحفلات التي غنت فيها  هذه الأغنية، تأبطت ذراع الشيخ سيد بعد انتهاء الحفل ليقوم معها بتحية الجمهور، وهو الامر الذى لم تفعله أم كلثوم مع أي ملحن آخر لأغانيها.

 وبعدها بفترة طلبت سيدة الغناء العربي من الشيخ سيد أن يلحن لها أغنية «أوقاتى بتحلو معاك»، وكانت هناك جلسة مبدئية بين ثومة والشيخ سيد للتحضير للأغنية غير أن أم كلثوم مرضت وسافرت للخارج للعلاج ثم رحلت قبل أن تغنى اللحن الثانى لها من ألحان سيد مكاوي لتذهب الأغنية إلى المطربة وردة فتشدو بها وتحقق نجاحا كبيرا.

ثروة غنائية وموسيقية

لسيد مكاوي رصيد هائل وثروة ضخمة من الأغاني والألحان وتنوعت أعماله ما بين الغناء الوطني والعاطفي والديني، سواء ما غناه بنفسه أو ما لحنه للآخرين، ومن أشهر أعماله بالطبع غير المسحراتى ويا مسهرني والليلة الكبيرة، ما غناه ولحنه من أغاني وطنية مثل هنحارب هنحارب عقب العدوان الثلاثي ومصر دايما مصر التي أذيعت في أكتوبر عام 1974 من تأليف فؤاد حداد، وكذلك أغنية الأرض بتتكلم عربي التي كتبها  له فؤاد حداد، ومن روائعه أيضا رباعيات صلاح جاهين التي أبدع في غنائها، وقد لحن لليلى مراد أغنية حكايتنا احنا الاتنين. وكذلك فإن سيد مكاوي هو صاحب لحن أشهر أغاني الأفراح  مبروك عليك يا معجباني يا غالى عروستك الحلوة قمر بيلالي التي غنتها شريفة فاضل وأصبحت الأغنية الأولى التي يسمعها المصريون ويتغنون بها في أفراحهم، ومن أشهر الأغاني التي لحنها سيد مكاوي لغيره و غناها هو أيضا أغنيات «حلوين من يومنا والله» و«ليلة امبارح» و«عندك شك ف إيه» و«حلاوة الدنيا» و«حياتك يا حبيبي» كما لحن  «أوقاتي بتحلو» لوردة و«أنا هنا يا ابن الحلال» لصباح و«هوى يا هوى» لشادية و «لو بتعزني» لنجاة.

 وقد مثّل سيد مكاوي مرة واحدة في حياته، حين قام بدور في الفيلم السينمائي «العروسة الصغيرة» مع مريم فخر الدين ويحيى شاهين ومحمود المليجي من إخراج أحمد بدرخان، وحصل سيد مكاوي على وسام العلوم والفنون من الطبقة الاولى، وفى 21 أبريل عام 1997 رحل المبدع والفنان الجميل سيد مكاوي مخلفاً وراءه كنزا ثمينا من الأغاني والألحان ومحبة الناس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock