رؤى

‎هل حكمت تجربة كورونا علي أمريكا بأنها أصبحت دولة فاشلة؟! (1-2)

جورج باكر – كاتب في مجلة

The Atlantic

‎عرض وترجمة: أحمد بركات

عندما جاء فيروس كورونا إلى هنا، وجدنا دولة تعاني من أوضاع كامنة وخطيرة، فراح يضرب عليها بلا هوادة، كانت قائمة الأمراض المزمنة التي يعاني منها الجسد الأمريكي طويلة، وتضم – من بين أشياء أخرى: طبقة سياسية فاسدة، وبيروقراطية متصلبة، واقتصادا بلا قلب، وشعبا مشتتا، ومنقسما على نفسه

 وعلى مدى سنوات بقيت هذه الأمراض واستفحلت دون علاج، وتعلمنا التعايش مع أعراضها، حتى ولو على نحو غير مريح. وتطلب الأمر شيئا بحجم وكارثية وباء ليكشف عن خطورة هذه الأمراض، وليُحدث هزة في نفوسنا بعدما أدركنا أننا نواجه تهديدا ماحقا.

دولة فاشلة

كانت الأزمة تتطلب استجابة سريعة وعقلانية وجماعية، لكن أمريكا بدت في ردة فعلها دولة تعاني من بنية تحتية متهالكة، وإدارة عاجزة، وقادة فاسدين أو حمقى إلى درجة لا تؤهلهم لمجابهة معاناة مضنية للمجتمع الامريكي. لقد بددت الإدارة شهرين كاملين غير قابلين للتعويض في الاستعداد لمواجهة الأزمة. وصدرت عن الرئيس أكاذيب فجة ومباهاة صبيانية وتعام متعمد ومسارعة إلى تقديم كباش فداء.

ترامب يتوعد الصين بعقوبات حال ثبوت تورطها بتفشي فيروس كورونا

‎كما استفاضت أبواقه في الحديث عن نظريات المؤامرة تارة، وعن العلاجات الخارقة والمعجزة تارة أخرى، ولم يتحرك بالسرعة المطلوبة سوى عدد قليل من أعضاء الكونجرس والمديرين التنفيذيين في الشركات الكبرى، ليس للحيلولة دون وقوع الكارثة، وإنما للتربح منها.

‎وعندما أراد أحد الأطباء الحكوميين تحذير الشعب من الخطر المحدق، أخذ البيت الابيض بتلابيب «الميكروفون» وسارع إلى تسييس الرسالة.

‎وفي كل صباح من أيام شهر مارس، كان الأمريكيون يستيقظون على حقيقة أنهم مواطنون في دولة فاشلة. وفي ظل عدم توافر خطة قومية، تُركت الأسر والمدارس والإدارات لتقرر لنفسها وبنفسها ما إذا كانت ستغلق وتختبئ. وعندما تكشفت حالة العجز المهين في أقنعة الوجه وأدوات الاختبار وملابس الأطقم الطبية وأجهزة التنفس، وغيرها من المستلزمات الطبية الضرورية ناشد الحكام من البيت الابيض عددا من المؤسسات، لكنها كانت قد توقفت، فأعادوا توجيه مناشداتهم إلى المؤسسات الخاصة التي لم تستطع إنجاز المهمة. ووجدت الولايات والمدن نفسها في أتون حرب مزايدات وعطاءات تركتها فريسة لسعار ارتفاع الأسعار وتربح الشركات. وأخرج المدنيون ماكينات الخياطة الخاصة بهم للحفاظ على صحة العاملين بالمستشفيات غير المجهزة وعلى حياة مرضاهم. وأرسلت روسيا وتايوان والأمم المتحدة مساعدات إنسانية إلى أكبر وأغنى قوة في العالم بعد أن استحالت دولة متسولة تعمها فوضى عارمة.

الديمقراطيان بايدن وساندرز يتهمان ترامب بالفشل في احتواء كورونا

الأزمة الثالثة

نظر دونالد ترامب إلى الأزمة بمنظور شخصي وسياسي بحت. وخوفا من الفشل في تحقيق الفوز بفترة رئاسية ثانية، أعلن الوباء حربا، وأعلن نفسه رئيسا في فترة حرب. لكن الزعيم الذي اجتره ترامب من التاريخ لم يكن سوى المارشال فيليب بيتان، الجنرال الفرنسي الذي وقع في عام 1940 هدنة مع الألمان بعد أن سحقوا الدفاعات الفرنسية، ثم شكلوا نظام فيتشي الموالي للنازية. وعلى غرار بيتان، تعاون ترامب مع الغزاة وأسلم بلاده إلى كارثة طويلة الأمد. وعلى غرار فرنسا في عام 1940، باغتت أمريكا نفسها في عام 2020 بانهيار أكبر وأعمق من مجرد زعيم بائس. ربما نطلق على تحليل مستقبلي للوباء اسم «الهزيمة الغريبة» «Strange Defeat» اقتفاء لاسم الدراسة المعاصرة لسقوط فرنسا التي كتبها المؤرخ الفرنسي وأحد مقاتلي المقاومة، مارك بلوخ. وبرغم نماذج الشجاعة والتضحية الشخصية  في جميع أنحاء الولايات المتحدة، إلا أن الإخفاق كان على المستوى الوطني العام، وهو ما سيفرض سؤالا لم يكن معظم الأمريكيين مضطرين إلى طرحه: أما زلنا قادرين على حكم أنفسنا؟

‎هذه هي الأزمة الثالثة الكبرى التي تحل بالبلاد خلال هذا القرن الذي لم يمض منه إلا النذر اليسير. وقعت الأولى في 11 سبتمبر 2001 عندما كان الأمريكيون لا يزالون يعيشون ذهنيا ونفسيا في القرن الماضي، وتعتمل في نفوسهم بقوة ذكريات الكساد والحرب العالمية والحرب الباردة. في ذاك اليوم، لم يكن الناس في قلب الريف ينظرون إلى نيويورك على أنها «حساء» من المهاجرين والليبراليين استحق مصيره المحتوم، وإنما كمدينة أمريكية عظمى تداعى لآلامها سائر الجسد الأمريكي. وقطع رجال الإطفاء من إنديانا 800 ميل بسياراتهم للمساعدة في جهود الإنقاذ في «جروند زيرو». وشكلت استجابتنا المدنية حالة حداد وتعبئة معا. 

هجمات 11 سبتمبر 2001

‎ثم جاءت الصراعات الحزبية والسياسات المريعة، وبخاصة غزو العراق، لتزيل كل مشاعر الوحدة الوطنية وتغذي إحساسا بالمرارة تجاه الطبقة السياسية التي لم يخفت وهجها لحظة واحدة. ثم تفاقم هذا الشعور نتيجة أزمة عام 2008. على مستوى القمة، كان يمكن اعتبار الانهيار المالي نجاحا، حيث مرر الكونجرس مشروع قانون إنقاذ اتفق عليه كلا الحزبين الرئيسيين وتمكن من إنقاذ النظام المالي. وتعاون المسئولون في إدارة بوش المغادرة مع نظرائهم في إدارة أوباما القادمة. واستخدم الخبراء في الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة السياسة النقدية والمالية لمنع «كساد عظيم» ثان. وشعر كبار المصرفيين بالخجل لكنهم ‎لم يقدموا لمحاكمات، واحتفظ أغلبهم بثرواتهم، وبعضهم بوظائفهم. ولم يلبثوا أن عادوا إلى أعمالهم.

‎وقد أخبرني أحد تجار «وول ستريت» أن الأزمة المالية لم تكن سوى مطبا صناعيا».

الأزمة الاقتصادية العالمية وأزمة 2008

‎أما الآلام الحقيقية والمزمنة لهذه الأزمة فقد استبدت بالطبقتين الوسطى والدنيا، حيث الأمريكيين الذين غرقوا في الديون، وفقدوا وظائفهم ومنازلهم ومدخرات تقاعدهم، ولم يتعاف كثير منهم. كما حُكِم على الشباب الذين بلغوا هذه المرحلة العمرية في زمن الركود أن يكونوا أفقر من آبائهم. وتفاقمت اللامساواة.. تلك القوة الجبارة والغاشمة في الحياة الأمريكية منذ نهاية سبعينات القرن الماضي.

‎وخلقت هذه الأزمة حاجزا عملاقا بين الأمريكيين.. بين الطبقات العليا والدنيا، وبين الجمهوريين والديمقراطيين، وبين الحضريين والريفيين، وبين المواطنين والمهاجرين، وبين العامة والقادة. ووُضعت الروابط الاجتماعية تحت رحا الضغوط المتزايدة على مدى عقود، حتى بدأت الآن في التمزق. ولم تترك الإصلاحات التي أجرتها إدارة الرئيس أوباما في مجالات الرعاية الصحية والتنظيم المالي والطاقة الخضراء – على أهميتها – سوى آثارا ملطِفة، ولم ترتق إلى مستوى العلاج الناجع. وأثرى التعافي الذي امتد على مدى سنوات العقد الماضي الشركات والمستثمرين، وهدأ آلام الاختصاصيين، وترك الطبقة العاملة تقبع وحدها بعيدا في نهاية النفق. وتمثل الأثر الدائم الذي طبعته سنوات الركود على الحياة في أمريكا في زيادة الاستقطاب وفقدان الثقة في السلطة، وبخاصة في السلطة الحكومية.

‎واستغرق الحزبان الرئيسيان وقتا طويلا لإدراك حجم ما فقداه من مصداقية. واتسمت السياسات التالية بالشعبوية. لم يكن أوباما هو النذير بين يدي هذه المرحلة، وإنما سارة بالين، المرشحة غير المؤهلة لمنصب نائب الرئيس التي ازدرت الخبرة وفرحت بما لديها من شهرة واسعة وصيت ذائع، وكانت بمثابة «يوحنا المعمدان» الخاص بدونالد ترامب. 

دونالد ترامب، وجو بايدن

ترامب يحرق الحياة المدنية

‎جاء ترامب إلى سدة البيت الأبيض وسط رفض من المؤسسة الجمهورية. لكن الطبقة السياسية المحافظة والقائد الجديد سرعان ما توصلا لصيغة تفاهم؛ إذ مهما بلغ ما بينهما من خلاف بشأن بعض القضايا، مثل التجارة والهجرة، إلا أنهما يتشاركان هدفا أساسيا واحدا، وهو تدمير الممتلكات العامة لحساب المصالح الخاصة. وصار بإمكان السياسيين الجمهوريين والمتبرعين الذين كانوا يريدون حكومة لا تعمل من أجل الصالح العام إلا بمقدار ذر الرماد في العيون العيش بسعادة غامرة في ظل نظام لا يعرف عن الحكم شيئا.

‎وكالطفل الغاشم الذي يلقي بأعواد الثقاب المشتعلة في حقل جاف، بدأ ترامب في حرق ما تبقى من الحياة المدنية الأمريكية؛ بل إنه لم يدع يوما أنه رئيس لكل الأمريكيين، وإنما وضع الجميع في مواجهة الجميع، سواء على أساس العرق، أو النوع، أو الدين، أو المواطنة، أو التعليم، أو – في كل يوم من أيام رئاسته – الانتماء الحزبي.

‎لقد تسلم ترامب إرثا يتألف من حكومة فيدرالية أقعدتها سنوات من الهجوم الأيديولوجي اليميني، والتسييس الذي مارسه كلا الحزبين، ووقف التمويل المطرد. وانطلق الرئيس الجديد لإنهاء المهمة وتدمير الخدمات المدنية المتخصصة؛ فطرد بعض المسئولين الأكثر موهبة وخبرة، وترك المناصب المهمة شاغرة، ونصب الموالين كمراقبين فوق رؤوس المتبقين المذعورين. كان كل ذلك لهدف واحد، هو خدمة مصالحه. كما منح إنجازه التشريعي الأضخم، المتمثل في أحد أكبر التخفيضات الضريبية في التاريخ، مئات المليارات من الدولارات للشركات والأثرياء. وكان الكذب وسيلته لاستخدام السلطة، تماما مثلما كان الفساد غايته من ورائها. 

 أهم قرارات «ترامب» منذ توليه الرئاسة الأمريكية

‎كان هذا هو المشهد الأمريكي الذي فتح ذراعيه للوباء:

‎في مدن مزدهرة، فئة من العاملين المكتبيين المتصلين عالميا تعتمد على فئة من العمال الخدميين غير المرئيين وغير المستقرين.

‎وفي المناطق الريفية، مجتمعات متهالكة تعلن الثورة على العالم الحديث.

‎وفي مواقع التواصل الاجتماعي، كراهية متبادلة وصدام لانهائي بين معسكرات متباينة.

‎وفي الاقتصاد هوة سحيقة ومتفاقمة بين رأس المال المنتصر والعمالة المحاصرة.

‎وفي واشنطن، حكومة مفرغة من الكفاءات يقودها محتال برفقة حزبه المفلس فكريا.

‎وفي جميع أنحاء البلاد، حالة من الإنهاك السوداوي بلا رؤية لهوية موحدة أو مستقبل مشترك.

‎(يُتبع)

‎*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock