رؤى

هل حكمت تجربة كورونا علي أمريكا بأنها أصبحت دولة فاشلة؟! (2– 2)

جورج باكر – كاتب في مجلة The Atlantic، ومؤلف Our Man: Richard Holbrooke and the End of the American Century (رجلنا: ريتشارد هولبروك ونهاية القرن الأمريكي) (2019)

عرض وترجمة: أحمد بركات

إذا كان فيروس كورونا حقا نوعا من الحروب، فإنه أول حرب تدور رحاها على هذه الأرض منذ قرن ونصف من الزمان. ويكشف الغزو والاحتلال خطوط الصدع في أي مجتمع، فيتضخم ما كان دقيقا وغير ملحوظ، ويبرز الوجه القبيح لما كان مقبولا في أوقات السلم، وتتجلى الحقائق، وتتناثر روائح العفن المطمور.

كان يجب أن يجابه الفيروس أمريكيون متحدون في مواجهة الخطر المشترك. ربما كان يمكن أن يحدث هذا في ظل قيادة مختلفة. بدلا من ذلك، حتى مع انتشاره من المناطق الديمقراطية إلى المناطق الجمهورية، انهارت المواقف على أسس حزبية مألوفة. كان ينبغي أن يكون الفيروس أيضا داعما عظيما للمساواة. لا يتعين أن تكون عسكريا أو أن تكون مدنيا حتى تكون مستهدفا، فقط يكفيك أن تكون إنسانا. لكن، منذ البداية، انحرفت تأثيرات هذا الفيروس بسبب اللامساواة التي سمحنا بها على مدى زمن طويل.

وعندما كان من المستحيل الحصول على اختبارات الفيروس، تمكن الأثرياء والمتصلين بمراكز صناعة القرار، وهايدي كلوم، عارضة الأزياء ومذيعة تليفزيون الواقع، وقائمة فريق «بروكلين نيتس» بأكملها، والمحافظين من حلفاء الرئيس.. تمكن جميع هؤلاء، بطريقة أو أخرى، من الحصول على هذه الاختبارات، رغم أن أغلبهم لم يُظهروا أي أعراض للمرض. ولم تغن معرفة نتائج الاختبارات الفردية شيئا في حماية الصحة العامة. في هذه الأثناء، كان يتعين على الأفراد «العاديين» المصابين بارتفاع درجة الحرارة أو بنوبات البرد الانتظار في طوابير طويلة، ربما تحمل العدوى، فقط ليتم رفضهم لأنهم لا يعانون من نوبات اختناق، وسارت مزحة عبر الإنترنت مفادها أن الطريقة الوحيدة لتعرف ما إذا كنت مصابا بالفيروس أم لا هي أن تسعل في وجه شخص ثري.

فريق «بروكلين نيتس»

وعندما سئل ترمب عن هذا الظلم الصارخ، قطب ما بين حاجبيه، وعبس، وعبر عن استيائه، لكنه قال: «ربما هذه هي قصة الحياة». لم ينتبه معظم الأمريكيين إلى هذا النوع من الامتيازات الخاصة في الأوقات العادية. لكن في الأسابيع الأولى من تفشي الوباء أثار هذا غضبهم، وكأن الأثرياء حصلوا على موافقة بطريقة ما على شراء خروجهم من الخدمة العسكرية وتكديس أقنعة الغاز في وقت تستعد فيه البلاد لخوض غمار حرب ضروس. ومع انتشار العدوى، كان الضحايا على الأرجح من الفقراء، والسود، وأصحاب البشرات الداكنة. وتتجلى اللامساواة الصارخة في نظام الرعاية الصحية لدينا في الشاحنات المبردة التي تصطف خارج المستشفيات العامة.

 فيديو متداول لنقل جثث ضحايا كورونا بشاحنات في نيويورك

لدينا الآن طائفتان من العمال، هما العمال الأساسيون، والعمال غير الأساسيين. تضم الطائفة الأولى العمال في الوظائف متدنية الأجور التي تتطلب حضورا بدنيا، ومن ثم تعرض صحتهم لخطر محدق. من هؤلاء عمال المخازن، والعاملون في المتاجر، ومتسوقو «إنستاكارت»، وسائقو «الدليفري»، وموظفو البلديات، والعاملون في المستشفيات، ومقدمو خدمات الصحة المنزلية، وسائقو الشاحنات لمسافات طويلة. وإذا كان الأطباء والممرضون هم الأبطال المقاتلون في المعركة ضد الوباء، فإن «كاشير» السوبر ماركت التي تحمل زجاجة المطهر الخاصة بها، وسائق «UPS» بقفازاته المطاطية هما قوات الإمدادات والخدمات اللوجستية التي تدعم عمل قوات الخطوط الأمامية. وفي اقتصاد الهواتف الذكية الذي يتخفى وراءه طبقات كاملة من بني البشر، نعلم من أين تأتي المواد الغذائية والسلع التي نعتاش عليها، ومن يساعدنا على البقاء على قيد الحياة. فطلب جرجير الأطفال العضوي من على «AmazonFresh» رخيص الثمن، ويصل بين عشية وضحاها لأن العمال الذين يقومون بزراعته وفرزه وتعبئته وتوصيله يجب عليهم مواصلة العمل حتى وهم مرضى. إننا نعلم تماما أن الإجازة المرضية لعمال الخدمات رفاهية لا سبيل إليها. ويجدر بنا أن نتساءل إذاما كنا نقبل زيادة في الأسعار وتأخرا في التوصيل حتى يمكنهم البقاء في بيوتهم.

أوضح الوباء أيضا معنى العمال غير الأساسيين. أحد الأمثلة لهؤلاء هي كيلي لويفلر، السناتور الجمهورية الشابة عن جورجيا، والتي لا تمتلك أية مؤهلات لشغل ذاك المقعد الشاغر في يناير الماضي، سوى ثروتها الفاحشة. بعد أقل من ثلاثة أسابيع من تبوئها هذا المنصب، وفي أعقاب جلسة استماع خاصة وعاصفة حول الفيروس، صارت لويفلر أكثر ثراء بسبب بيعها أسهمها، ثم سارعت بعد ذلك إلى اتهام الديمقراطيين بالمبالغة في تقدير الخطر، وأغدقت على سكان دائرتها الانتخابية التطمينات الزائفة التي ربما تسببت في مقتلهم. إن دوافع لويفلر للعمل في مجال الخدمة العامة هي تلك الخاصة بطفيلية خطيرة، وإن كيانا سياسيا يضع شخصا كهذه في منصب كهذا لهو كيان شائخ في  طور التفكك والانهيار.

كيلي لويفلر، السناتور الجمهورية عن جورجيا

التجسيد الأنقى «للعدمية السياسية» ليس ترمب نفسه، وإنما صهره وكبير مستشاريه، جاريد كوشنر. فعلى مدى حياته القصيرة، تم الترويج لكوشنر بطريقة احتيالية كشخص جدير بمنصب قيادي مرموق، وكسياسي شعبوي. وُلد كوشنر لأسرة ثرية تعمل في مجال العقارات في نفس الشهر الذي جلس فيه رونالد ريجان على مكتبه البيضاوي في عام 1981 كأحد أمراء العصر الذهبي الثاني. وبرغم سجل كوشنر الأكاديمي غير المتميز، إلا أنه تم قبوله في جامعة «هارفارد» بعد أن تعهد والده – تشارلز – بالتبرع للجامعة بمبلغ 2.5 مليون دولار. ساعد الأب الابن بعد ذلك بمبلغ 10 مليون دولار لبيدأ عمله في مجال العقارات الذي تخصصت فيه العائلة. وبعدها، واصل كوشنر تعليمه النخبوي في كليتي الحقوق والإدارة بجامعة نيويورك التي كان والده قد ساهم فيها بمبلغ 3 مليون دولار.

«جاريد كوشنر» صهر «دونالد ترامب» وكبير مستشاريه

سعى كوشنر إلى الوفاء بجميل أبيه بوقوفه إلى جانبه بتفان شديد عندما حُكم على تشارلز بالسجن لمدة عامين في السجن الفيدرالي في عام 2005 لمحاولته حسم نزاع قانوني داخل العائلة عن طريق حبس زوج أخته مع عاهرة، وتصويره اللقاء.

فشل جاريد كوشنر كمالك لناطحة سحاب، وكناشر لصحيفة، لكنه كان دائما يجد من ينقذه، ولم تزده هذه الإخفاقات إلا ثقة في نفسه. في كتابه American Oligarchs «الأوليغاركيون الأمريكيون» «2020»، يصف أندريا بيرنشتاين كيف كان كوشنر رجل أعمال مخاطرا، و«مخلا» بالاقتصاد الجديد. وعلى خطى معلمه، «روبرت موردوخ»، عثر كوشنر على الطريقة المثلى لجمع مساعيه المالية والسياسية والصحفية في بوتقة واحدة، وجعل من تضارب المصالح نموذج العمل الذي يحتذيه.

لذا، عندما تبوأ ترمب مقعد الرئاسة، حظي كوشنر سريعا بالسلطة في إدارة قدست الهواية والمحسوبية والفساد، ورفعتها إلى مقام المبادئ الحاكمة. لم تكن جهود الوساطة الفاشلة والمنحازة التي قام بها كوشنر في الشرق الأوسط  محط اهتمام أغلب الأمريكيين، ولكن منذ أن أصبح مستشارا مهما لترمب في قضية فيروس كورونا، كانت النتيجة موتا جماعيا.

في أسبوعه الأول في هذه الوظيفة في منتصف مارس الماضي، شارك كوشنر في كتابة أسوأ خطاب للمكتب البيضاوي، وأعاق العمل الحيوي للمسئولين الآخرين، وأخل بالبروتوكولات الأمنية، وغازل تضارب المصالح وانتهاكات القانون الفيدرالي، وقطع وعودا عبثية سرعان ما تحولت إلى سراب. «إن الحكومة الفيدرالية ليست مصممة لحل جميع مشكلاتنا»، كما قال كوشنر في تفسيره لاستغلاله علاقات شركته لإنشاء مواقع اختبار لخدمة السيارات. لكن هذا المشروع لم يتحقق. وعندما حدثه رؤساء الشركات أن ترمب يجب ألا يستخدم سلطاته الرئاسية لإجبار المصانع على تصنيع أجهزة التنفس، ذهب للتفاوض مع شركة «جنرال موتورز» لإبرام هذه الصفقة، إلا أنه عاد – كعادته – بخفي حنين. ودون أن يفقد ثقته في نفسه، ألقى بلائمة نقص المعدات والأدوات الطبية الضرورية على حكام الولايات غير الأكفاء.

ترامب: نأمل خلال الأيام المقبلة في الحصول على آلاف أجهزة التنفس

عندما تشاهد هذا النحيل الهاوي يصل بارتياحية شديدة إلى مرحلة متقدمة في أزمة قاتلة، متشدقا بمصطلحات الإدارة التي تعرف عليها في كلية الإدارة بجامعة نيويورك ليواري بها الإخفاق الذريع لإدارة ترمب، فأنت تشاهد انهيار نهج حكم بأكمله. ويتبين أن الخبراء العلميين والموظفين المدنيين الآخرين ليسوا أعضاء خونة في «دولة عميقة»، وإنما عمال أساسيون، وأن تهميشهم لصالح أيديولوجيين متطرفين ومتملقين خانعين يمثل تهديدا لصحة شعب بأكمله.

ويتبين أن الشركات «الذكية» لا يمكنها أن تواجه كارثة، أو أن توزع سلعا منقذة للحياة، وأن الذي يستطيع ذلك هو فقط حكومة فيدرالية تتمتع بالكفاءة. ويتبين أن لكل شيء ثمن، وأن سنوات من الهجوم على الحكومة، والضغط عليها، واستنزاف معنوياتها يتسبب في تكلفة باهظة يدفعها الناس من أرواحهم. إن جميع البرامج التي توقف تمويلها، والمخزون الاحتياطي الذي استنفذ، والخطط التي ألغيت لم تكن تعني سوى شيء واحد، وهو أننا أصبحنا دولة من الدرجة الثانية. ثم جاء الفيروس وحمل معه هذه الهزيمة الصادمة.

إن معركة التغلب على الوباء يجب أيضا أن تكون معركة من أجل استعادة البلاد عافيتها، وبنائها من جديد، وإلا فلن تبرأ أمريكا من المشقة والتعاسة التي تعيشها الآن. وإذا كانت هجمات 11 سبتمبر، وأزمة 2008 قد استنفذت ثقتنا في المؤسسة السياسية القديمة، فإن كارثة 2020 يجب أن تقتل فينا فكرة الخلاص عبر معاداة السياسة. لكن يبقى وضع نهاية لهذا النظام – بقدر ما هو ضروري ومستحق – مجرد خطوة أولى على طريق طويل.

تأثير كورونا على الاقتصاد العالمي؟

إننا نواجه خيارا جعلته الأزمة واضحا لا لبس فيه. يمكن أن نبقى قابعين في عزلة ذاتية، يخاف بعضنا بعضا، وينكر بعضنا بعضا حتى تتلاشى الروابط المشتركة بيننا، أو أن نستغل هذا التوقف الذي خيم على حياتنا لنولي اهتمامنا لعمال المستشفيات الذين يحملون هواتف محمولة حتى يتمكن مرضاهم من إلقاء تحية الوداع على محبيهم، وإلى حمولة طائرة من العاملين في الفرق الطبية الذين يطيرون من أتلانتا للمساعدة في نيويورك، وإلى العاملين في مجال الطيران في ماساتشوستس الذين يطالبون بتحويل مصنعهم إلى إنتاج أجهزة التنفس، وإلى سكان فلوريدا الذين ينتظرون في صفوف طويلة للوصول إلى مكاتب البطالة بعد أن أخفقوا في الوصول إليها عبر الهاتف، وإلى المقيمين في ميلووكي الذين يتحدون ساعات الانتظار الشاقة والأمطار الغزيرة والعدوى القاتلة للتصويت في انتخابات فرضها عليهم قضاة حزبيون. كما يمكن أن نتعلم من هذه الأيام العصيبة أن الغباء والظلم قاتلان، وأن المواطنة في الديمقراطيات عمل أساسي، وأن بديل التضامن هو الموت. وبعد أن نخرج من مخابئنا، ونخلع أقنعتنا، يجب ألا ننسى ماذا يعني أن تكون وحيدا ومنعزلا.

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock