رؤى

الكورونا وانقطاعات الحياة (1-4) عزلة الكائن التي لا تحتمل

أثر الفراشة لا يُرى

أثر الفراشة لا يزول

درويش

كأثر الفراشة الذي لا يُرى تبدو حياتنا هذه الأيام منضبطة على إيقاع فيروس كورونا، الأخير فرض سطوته على العالم في صمت، أجبر الجميع على عزلة غير متوقعة، لم يكن أكثر الناس تشاؤما يتوقع أن تمضي أيام العام 2020 تحت سقف البقاء الإجباري في المنزل، بحث الجميع عن عطلة وعندما حصلنا عليها سقطنا في فخ العزلة، انقطعت سبل الحياة الاعتيادية -الروتينية في أحيان كثيرة- فضاع معها ما كنا نعتاده ونحبه، اكتشفنا فجأة أن العزلة بدأت التسلل خفية إلى نفوسنا، فعرفنا الوحدة وسط الأهل، وعن هذه الظواهر الجديدة التي برزت في زمن كورونا، يقدم لنا الدكتور شاكر عبد الحميد في سلسلة مقالات إضاءة عن الصدع الذي ضرب خبراتنا الخاصة بالزمن.

 

لقد شاهد الكثيرون منا فيلم «الخلاص من شاوشنك» (The Shawshank Redemption)، والذي ترجم عنوانه عندما عرض في دور العرض العربية إلى «وداعا شاوشنك»، ولا بد أن الكثير منا يتذكرون أيضًا شخصية ذلك السجين المسن «بروكس هاتلين»، والذي لعب دوره «جيمس ويتمور»، وقد كان مسؤولاً عن توزيع الكتب على المساجين، والذي لم يشعر بأدنى سعادة عندما تم الإفراج عنه بعد سنوات طويلة قضاها داخل السجن، فبعد أن خرج من سجنه ازدادت تعاسته، ولم يستطع أن يتكيف مع الحياة خارجه، فشنق نفسه.

وقد قال الناقد إيزاك مورهاوس إن هذا الفيلم يقدم لنا مثالاً عظيمًا على تلك الكيفية التي يمكن أن يكون الإنسان من خلالها حرًا حتى لو كان يعيش داخل سجن، وكذلك كيف يمكنه أن يكون سجينًا حتى لو كان حرًا، وإن الأمر يتوقف على الطريقة التي ينظر من خلالها الإنسان إلى الحياة.

كذلك وصف الفيلسوف جان بول سارتر الحرية بأنها مشروع مستمر متواصل، يتطلب منا الاهتمام والمقاومة المرنة –لا التصلب أو ضيق الأفق- وأنه بدونهما سوف يتم التحديد والحصار للإنسان بواسطة الآخرين أو بواسطة أية مؤسسات قامعة أخرى. لقد تجسد ما يماثل هذا الرأي في اعتقاد «ريد» -الذي جسَّد شخصيته في ذلك الفيلم مورجان فريمان- بأن نزلاء السجون يصبحون تدريجيًا معتمدين على السجن في تحديد مدى حياتهم ومعناها. فهل أدخل فيروس الكورونا كل إنسان منا في سجن خاص به؟ وهل قام بتحديد مدى حياتنا ومعناها على نحو خاص؟

جان بول سارتر

عندما يدخل الإنسان إلى السجن فإنه ينقطع عن العالم الخارجي، يتوقف سير حياته السابقة ويبدأ العيش في عالم جديد غريب ومخيف، وبطبيعة الحال هناك فروق كثيرة بين تلك الحياة القاسية داخل أي سجن يدخله الإنسان، وبين شبه السجن هذا الذي يعيش فيه كثيرون عبر العالم الآن، لكن التماثل الحقيقي بينهما، رغم التفاوت الكبير بينهما أيضًا، يتمثل في حدوث هذا الانقطاع في الحياة، على نحو يقترب في كثير من جوانبه بما حدث في رواية «انقطاعات الموت».

انقطاعات الموت

عنوان هذا المقال مستلهم من رواية «انقطاعات الموت» للروائي البرتغالي الشهير جوزيه ساراماجو، الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1998، وهي أشبه بتأملات فلسفية كابوسية مخيفة حول الموت والحياة، وقد جسَّدها من خلال سرد أشبه بالتقرير الصحفي المُتخيَّل الطويل حد الإملال. لقد توقف الموت عن الحدوث في إحدى دول العالم المتخيلة دون غيرها، تعددت الأسباب لكن الموت قد توقف عن الحدوث فيها جميعًا، لقد انقطع وقوعه وتوقف جريانه، فعلى الرغم من مرض الناس بأمراض شتى، وعلى الرغم من إصابات الطرق، ومحاولات الانتحار وتحول البشر كذلك إلى ما يشبه الجثث الحية المتحركة، إلا أن الموت قد توقف عن الحدوث وانقطع، «حيث كان المرضى لا يتحسَّنون ولا يزدادون سوءًا، بل تظل أجسادهم الهشة تتأرجح على حافة الحياة».

الروائي البرتغالي «جوزيه ساراماجو»، وروايته «انقطاعات الموت»

وقد استمر الوضع هكذا حتى اليوم التالي «وحيث لم يكن هناك منذ بدايته خبر آخر سوى هذه القصة، لا أحد يموت، لقد حدثت حالة من الانقطاع في الموت». ثم أن «هدنة الموت» هذه تدوم لمدة سبعة شهور، ثم بدأت هجماته وموجاته تتوالى على حياة البشر في ذلك المكان الذي حدثت فيه تلك الانقطاعات.

في هذه الرواية حدثت انقطاعات للموت، لكننا نعتقد أيضًا أننا نعيش الآن في ظل ظرف معكوس لما كان يحدث فيها، إننا لا نعيش الآن حالة من انقطاعات الموت بقدر ما نعيش حالة من انقطاعات الحياة.

في «لسان العرب» وغيره من المعاجم العربية نجد بعض هذه المعاني الخاصة بالانقطاع، ومنها، تمثيلاً لا حصرًا، انْقَطَعَ الشيءُ: ذهَب وقْتُه. وانْقَطَع الكلامُ: إذا وَقَفَ فلم يَمْضِ وحل الصمت مكانه، وانْقَطَعَ لسانه: ذهبت سَلاطَتُه. وفي العامية المصرية نقول لمن يتقول شيئًا لا يعجبنا أو يسيء إلينا: ينقطع لسانه. وأَقْطَعَ الرجلُ إِذا انْقَطَعَت حُجَّتُه وبَكَّتُوه بالحق فلم يُجِبْ، فهو مُقْطِعٌ. واقْطَعَ الشاعِرُ: انْقَطَعَ شِعْرُه. وأَقْطَعَت الدجاجةُ: انْقَطَعَ بيضُها، وقطع به إذا انقطع رجاؤه. وقُطِعَ به وانْقُطِعَ وأُقْطِعَ وأَقْطَعَ: ضَعُفَ عن النكاح. وقد اقطعتُ الغيثَ: لم يرد إلىَّ مطرٌ ولا رزقٌ ولا خيرٌ. والقطيعة: الهجران وهو ضد الوصل، وقطع رحمه: لم يصله. وانقطع به فهو منقطع إذا عجز عن سفره من نفقة ذهبت، ومنه كذلك ما جاء في الحديث الشريف عن «المنبت الذي لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى»، لمن تقطَّعت به السبل في منتصف الطريق فلم يبلغ غايته. وعن اليتيم نقول: مقطوع من شجرة.

وجاء في الأمثال العربية: «قطعت جهيزة قول كل خطيب» دلالة على حسم النقاش أو الخلاف الدائر حول موضوع معين مُحاط بالشكوك، ونقول كذلك لمن لا نحب أن نذكر اسمه أو سيرته: قطيعة تقطع البعيد وسنينه. كذلك يقول من أصابه التعب الشديد بسبب شيء أو بذل المجهود: «نَفَسي اتقطع». وتستخدم كلمة «القطع» كذلك في الريف المصري للإشارة إلى الختان، كما نستخدم هذه الكلمة كثيرًا في حياتنا اليومية فنقول: انقطع الماء وانقطعت الكهرباء، وانقطع النت وانقطع الاتصال التليفوني… إلخ، وكثيرًا أيضًا ما يقول مذيعو التليفزيون «انقطع الاتصال» في الحالات التي يصدمهم أو يخيفهم ما يقوله المتصل، وذلك الذي كانوا يصفونه قبل تبينهم لمحتوى كلامه «بالمتصل الكريم».

هكذا يحيط فعل القطع والانقطاع بمعانٍ ودلالات شتى؛ بعضها مادي كانقطاع المطر أو انقطاع بيض الدجاجة، وبعضها معنوي كما هو الحال في انقطاع الوقت وانقطاع الكلام أو انقطاع العلاقات الإنسانية وإلى غير ذلك من المعاني التي قد تشير إلى حدوث انقطاعات دائمة أو مؤقتة في مجالات شتى. فتُرى ما الذي أحدثه وباء الكورونا الذي تعاني البشرية منه الآن من قطع وانقطاعات؟

عزلة لا تحتمل

يمكن لأي منا أن يلاحظ أن هذه الانقطاعات كثيرة جدًا دون شك، وعلى نحو لا يُعدُّ ولا يُحصى، ولذلك فإن ما سوف نتطرق إليه هنا مجرد قطرة فقط في محيط هائج من الانقطاعات التي تتلاطم أمواجها وتصطخب وتضرب حياتنا على نحو عنيف.

إن العزلة الاجتماعية والوحدة يمكن أن تكون لهما آثارهما الضارة على الصحة الجسدية والنفسية العامة، وكذلك على حالة الرفاه أو السعادة والرفاهية الاجتماعية. وتشير العزلة الاجتماعية إلى حدوث تفاعلات أو اتصالات اجتماعية قليلة، بينما تشتمل الوحدة على إدراك ذاتي للعزلة. إن هذا يماثل ذلك الفرق أو التفاوت الموجود بين مستوى رغبة المرء في الاتصال أو التفاعل الاجتماعي، وذلك المستوى الخاص بالاتصالات الاجتماعية الفعلية. فقد ينعزل الفرد عن العالم من أجل أن ينجز عملا أو لأنه لا يرغب في التفاعل مع الآخرين، وقد ينعزل عنهم مؤقتًا ثم يعود إليهم بعد ذلك كما كان الأديب الفرنسي بلزاك يفعل. كان ينعزل كي يكتب لكنه لم يكن يشعر بالوحدة، فقد كان يدعو أصدقاءه إلى سهرات وولائم باذخة كي يحتفل معهم بإنجازه لإحدى رواياته، على العكس من كافكا الذي كان يجد في وحدته ملاذًا يقيه من عالم مُخيف غامض لا يريد أن يواجهه.

وعلى الرغم من أن العزلة الاجتماعية، وكذلك الوحدة، قد تحدثان معًا لدى الشخص نفسه، فإن بعض الأفراد قد يكونوا مُنعزِلين دون أن يشعروا بالوحدة، أو أنهم قد يشعرون بالوحدة على الرغم من وجود الآخرين معهم. والعزلة الاجتماعية والوحدة من الموضوعات التي تزايد النقاش حولها في الفترة الأخيرة بوصفهما من قضايا الصحة العامة. أما هذه العزلة الاجتماعية التي جلبها فيروس الكورونا إلينا معه، فهي عزلة لا تُحتمل، إنها عزلة إجبارية قد تجلب معها مشاعر الوحدة حتى لو كان الإنسان يعيش خلالها مع آخرين من أفراد أسرته أو غيرهم، على كل حال، فإننا نعتقد أيضًا أن وباء كورونا لم يجلب معه فقط العزلة والوحدة، بل جلب معه أيضًا صَدْعا ما في خبراتنا الخاصة بالزمن.

د. شاكر عبد الحميد

أستاذ علم النفس - وزير الثقافة الأسبق في مصر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock