رؤى

رؤية صينية حول كورونا (2-3): «الكبرياء والتحامل».. تجربة الصين التي ينكرها الغرب

جيا زنغ – باحثة دكتوراه في العلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة وارويك ببريطانيا، وتتركز اهتماماتها البحثية حول التقاطعات بين الثقافة السياسية والسياسة العامة الصينية وحوكمة الإنترنت.

عرض وترجمة: أحمد بركات

عندما أدركت الصين أن كوفيد- 19 مرضا معديا، وليس له علاج فعال، راحت تتلمس وسائل أخرى لمواجهته، وكان الإغلاق على رأس هذه الوسائل. وعلى النقيض، ارتأت معظم الدول المتقدمة في هذا الوقت أن هذا المرض مجرد «مرض أخطر قليلا من الإنفلونزا».

لكن الجائحة سرعان ما انتقلت إلى دول أخرى، وصعدت الولايات المتحدة الأميركية إلى صدارة الدول المتضررة من الوباء، بعدما عاشت الحكومة الفيدرالية شهورًا من التجاهل، أو الاستهانة، أو حتى الكذب والتضليل بشأن الخطر الذي يشكله الفيروس، فعلى سبيل المثال، في مؤتمر صحافي عقد في البيت الأبيض في 26 فبراير الماضي، ادعى الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه «عندما تصاب به، تدرك أن الأمر بسيط جدًا، وتدرك أنه لا توجد مشكلة من الأساس». 

وفي المملكة المتحدة، التي اجتاحها الوباء أيضًا، تمسك العلماء والسياسيون بأن كوفيد-19، ليس سوى شكل من أشكال الإنفلونزا. وساد الاعتقاد بأن السبب في الصعوبات التي تجابهها الصين في السيطرة على هذا الوباء ترجع بالأساس إما إلى تداعي منظومتها للصحة العامة، أو عدم الوعي بأساليب النظافة الشخصية من قبل أبناء الشعب الصيني، أو حتى إلى النظام الاستبدادي الحاكم. 

وفي إيطاليا -وهي أول دولة أوروبية تقع فريسة لمخالب هذا الوباء بصورة مفجعة- خرجت وسائل الإعلام وأخبرت الجماهير في يوم 24 فبراير، بأن يطردوا عن أنفسهم القلق بشأن عدم قدرة بلادهم على التعامل مع الفيروس المستجد، لأن منظومة الرعاية الصحية في إيطاليا أكثر تقدمًا بكثير مما هي عليه في الصين، وأن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الصين لا يمكن مقارنتها بنظيرتها في أوروبا، ولم تغرد صحيفة Nikkei Asian Review بعيدًا عن السرب الأوروبي في رد أسباب هزيمة الصين في المعركة ضد فيروس كورونا إلى منظومتها الصحية الفقيرة. 

رئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانغ يتحدث مع العاملين الطبيين في مستشفى ووهان جينينتان يوم 27 يناير

وذهبت صحيفة «شبيغل أون لاين» الألمانية -وهي إحدى الصحف الأكثر تأثيرًا في ألمانيا عبر الإنترنت- أبعد من ذلك، حيث نشرت الصحيفة تقريرًا بعنوان Sie jetzt tun können müssen «ماذا يجب أن تفعل الآن؟»، تؤكد فيه أن «قليلا من العنصرية لا يضر»، لأنه «في النهاية بفضل هذه العيون التي تقبع في شقوق منحوتة في بشرة صفراء قد نموت جميعًا في غضون وقت قصير»، وأضافت: «لماذا يجب عليهم دائمًا أن يشربوا حساء الخفافيش، وينهشوا لحم الثعابين من رؤوسها، ويستحموا في دماء الفئران الطازجة في أسواقهم؟ لا يجب أن يندهش أحد إذا عصف بهم المرض». 

وعلى نحو مشابه، وقبل أن تصل إحصاءات الموت في المملكة المتحدة إلى 30 ألفًا بشهرين، نشرت صحيفة «ذي إيكونوميست» واسعة الانتشار مقالًا تؤكد فيه أن «الأمراض من شاكلة كوفيد- 19، أكثر فتكًا وأدعى للقتل في الصين لأنها دولة غير ديمقراطية». 

الوفيات الناجمة عن الوباء مقابل الناتج المحلي الإجمالي لكل شخص، حسب نوع الحكومة 2020- 1960

وإجمالا، شكلت المعلومات المتحيزة، من قبيل ولع الصينيين بأكل الحيوانات البرية، والتي روج لها الإعلام الغربي وحكوماته، انطباعًا عنصريًا بأن التجربة الصينية متفردة، وأن الفيروس مجرد منتج لدولة استبدادية رجعية، تمتلئ بصينيين غير مستنيرين ومغرمين بشرب حساء الخفافيش.

رد فعل متأخر

ومن وجهة النظر الغربية، ليس بمستغرب أن تخسر الصين معركتها ضد مرض لا يختلف في كثير عن الإنفلونزا، لكن، في هذه المرة، تحولت الثقة المفرطة الناتجة عن هذه الفرضية إلى سلاح ذي حدين، حيث أعاقت استعدادات وجهود مكافحة المرض في الديمقراطيات المتقدمة، وهو ما تمخض عنه ثمنًا فادحًا دفعته هذه الدول، ليس في الشهور القليلة الماضية فحسب، وإنما أيضا ستواصل سداده على المدى الطويل.

حتى شهر مارس لم تغير الحكومات في الولايات المتحدة وأوروبا موقفها في أن كوفيد- 19 غير مؤثر في الديمقراطيات المتقدمة، ولم يسبب أي أضرار تتجاوز تعليق حظر السفر إلى الصين، وإجلاء مواطني هذه الحكومات من ووهان، وذلك قبل أن يبدأ المرض في التفشي في هذه البلاد. 

وبرغم معرفة الجميع بالدمار الذي حاق بالصين بسبب هذا الفيروس، لم يتخذ مطار هيثرو في لندن -وهو أحد أكثر المطارات ازدحامًا في العالم- أي احتياطات بشأن حركة الركاب الدولية حتى منتصف مارس، وكان الركاب القادمون من الخارج يدخلون البلاد دون فحص درجة الحرارة أو تلقي نصائح بشأن الجائحة المستجدة، إنما مجرد ورقة تنصحهم بالاتصال بالخط الساخن الخاص بـ «هيئة الخدمات الصحية الوطنية» في حال شعورهم بأي أعراض. 

المسافرون في مطار هيثرو في لندن

ونتيجة لذلك، وبدءًا من منتصف مارس، أخذ الفيروس في الانتشار في جميع أنحاء العالم، وكأنه يعلن على الملأ بملء فيه بعد حصده آلاف الأرواح البريئة: «أنا أكبر من مجرد إنفلونزا». 

لذا، فإن التصور الخاطئ القائم على التحامل والانحياز ضد الصين، هو ما أدى إلى أن تتبنى الدول المتقدمة موقفًا سلبيًا من فيروس كورونا، وهو ما قاد بدوره هذه الدول، على نحو مريع ومؤسف، إلى إفلات فرصة مهمة وحاسمة لمنع انتشار الفيروس، خاصة أن دولًا مثل الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وإيطاليا وغيرها تتمتع بأنظمة رعاية صحية وتكنولوجيا طبية تفوق بكثير تلك المتوافرة في الصين. 

ومن المفارقات أنه بخلاف عدم توافر الاختبارات والمعدات وغير ذلك من المستلزمات الطبية وثيقة الصلة بمقاومة الوباء، لم تعبأ هذه الدول بالاستماع إلى التحذيرات القادمة من الصين، برغم محاولات بكين الملحة اطلاع العالم على مستويات العدوى المرتفعة، بل واعتبرت هذه الدول أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الصينية في مواجهتها للوباء تمثل خرقًا صارخًا لحقوق الإنسان، لذا فهي لا تتعدى أن تكون خدعًا وحشية يمارسها نظام استبدادي تحت غطاء مقاومة وباء مستجد. 

جرت العادة في هكذا أوضاع أن تلجأ الدول إلى حل ربما يمكن وصفه بالتقليدي أو النموذجي، وهو الإغلاق. لكن المعلومات المنحازة وغير الموضوعية ضللت الجماهير في البلدان الغربية على مدى شهري يناير وفبراير، وأوهمتهم بأنه في ظل النظام الاجتماعي الفائق والرعاية الصحية المتقدمة التي تتمتع بها بلادهم فإن حكوماتهم لن تكون بحاجة إلى التضحية بالحريات الشخصية أو بالاقتصاد، من خلال اللجوء إلى إجراء عفا عليه الزمن لمقاومة مرض شبيه بالإنفلونزا. لكن الفيروس لم يكن منحازا، فذهب إلى إيطاليا ابتداء. 

ونتيجة لذلك، سارعت هذه الحكومات، الواحدة تلو الأخرى، في تطبيق سياسة الإغلاق بمستويات متباينة. لكن هذه السياسة واجهت على نحو مبرر تشككًا ورفضًا جماهيريًا وصل أحيانا حد الإضرابات وإثارة الفوضى، لم يحدث ذلك فقط في إيطاليا، وإنما في المملكة المتحدة أيضا. 

على سبيل المثال، في أول عطلة في نهاية الأسبوع بعد الإغلاق توجه آلاف البريطانيين إلى الحانات والحدائق والشواطئ، وبعد ستة أسابيع، وفي ضوء مكاسب زهيدة حققتها إجراءات الإغلاق والبقاء بالمنازل، أظهرت المؤشرات -بحسب بيانات الهواتف المحمولة- أن الجماهير شرعت فعليًا في تجاهل القوانين والتكدس في الأماكن العامة، وعلى ضفتي الأطلسي تندلع الآن احتجاجات مناهضة للإغلاق في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وينضم إليها أفراد آخرون من ديمقراطيات كبرى أخرى، مثل إيطاليا والمملكة المتحدة وأستراليا وألمانيا وغيرها. «انظر الصورة التالية». 

المسؤول الحقيقي

من السذاجة أن نفترض أن التحامل ضد الصين قد توقف عند حدود إدراك العالم حقيقة أن كوفيد-19 ليس مجرد إنفلونزا، فعندما بلغ الأمر حد الجائحة لجأت معظم الدول إلى تبني التدابير التي لجأت إليها الصين من قبل، مثل التباعد الاجتماعي. وبمرور الوقت، توالت الأفكار لإلصاق الاتهامات بالصين، وكان من بينها -وربما أكثرها شيوعا- نظرية المؤامرة، فانبرت بعض الدول في اتهام حكومة بكين بالتأخر في تحذير المجتمع الدولي وإخفاء حقيقة الأزمة الوشيكة، مما أدى إلى ضياع الفرصة على دول أخرى لاحتواء تفشي المرض، وهو ما كان شرارة الانتشار الواسع الذي يصطلي العالم بناره حتى الآن.

بدأت هذه النظرية من الولايات المتحدة الأميركية عندما هرول الرئيس الأميركي دونالد ترمب ومشرعوه الجمهوريين إلى وسائل الإعلام، حيث قدموا جميع أنواع الادعاءات عن التضليل الذي مارسته الصين، وغضوا الطرف بصورة فجة عن المعلومات التي بثتها الصين –ولا تزال- عن الأزمة. والأكثر من ذلك، أن جميع القادة الغربيين توصلوا إلى اتفاق بين عشية وضحاها بعد قمة افتراضية لمجموعة السبع، وشرعوا في توجيه اللوم إلى الصين وتحميلها مسؤولية تفشي الوباء في بلادهم. 

فقد حذر وزير الخارجية البريطاني، دومينيك راب، في أعقاب القمة من أن المملكة المتحدة لن يمكنها العودة إلى «العمل المعتاد» مع الصين بعد انتهاء أزمة فيروس كورونا، ملمحا إلى أن الصين يجب أن تتحمل مسؤولية هذه الأزمة، وبدلا من المطالبة بإجراء تحقيق بشأن سياسة حصانة القطيع التي تبنتها حكومته في وقت سابق، قال إنه يجب إجراء تحقيق دولي بشأن الأسباب التي أدت إلى نشوب هذا الوباء وعدم وأده في وقت مبكر. 

وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب

وبالمثل، عمد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في اليوم التالي إلى التشكيك في احتواء الصين لتفشي فيروس كورونا، مؤكدا أنه «حدثت أمور كثيرة لا نعلم عنها شيئًا»، ولم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة إلى ألمانيا التي دعت إلى مزيد من الشفافية، واتهمت الصين بإخفاء الأعداد الحقيقية للوفيات، وهو ما أدى إلى تضليل صانعي القرار في بلادهم بشأن إمكانية السيطرة على المرض حال وصوله إليهم. 

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

إنه من العبث حقا أن نتخيل أن حكومات هذه الدول لم تكن على دراية تامة بمرض كوفيد-19، وتأثيره المدمر على الصين قبل شهرين كاملين من وصوله إليها، أو أن رفضها البات للإجراءات التي اتخذتها الصين، ثم تبنيها لها بعد ذلك، كان يستند إلى أي أسس علمية، وبدلا من تحري الأسباب الحقيقية للكارثة التي حلت ببلادهم، يبدي هؤلاء السياسيون إصرارًا غير بريء على محاسبة الصين على عدم سيطرتها على المرض في أيامه الأولى في الوقت الذي كانت تفتقر فيه بكين إلى أي معلومات عن ماهية هذا المرض وخطورته. 

والأهم من ذلك، أن الصين غير المتقدمة تمكنت من السيطرة على المرض داخل أراضيها في الوقت الذي كان بإمكان الدول الغربية أن تستعد فيه بشكل أفضل لمجابهة هذا التحدي. أما الأسوأ على الإطلاق فهو أنه بدلا من التركيز في الداخل، تسعى هذه الحكومات الآن إلى تحويل المأساة، الناجمة عن كارثة طبيعية تفاقمت بعد ذلك بفعل ما أبدته من تكبر وتحامل، إلى سلاح سياسي، وكأن العدو الحقيقي هو الصين، وليس كوفيد-19. 

إن الأسئلة الحقيقية الجديرة بالطرح والتدبر هي: هل يمكن أن تعيد محاولات تجاهل العدو الحقيقي وإلقاء اللائمة على الصين الخسائر غير المبررة في الأرواح؟ وهل يمكنها وقف تفشي الوباء الذي سيحصد المزيد من الأرواح ويدمر الاقتصاد العالمي؟ هذا إلى جانب أن استخدام هذا السلاح السياسي سيؤدي حتما إلى هدم جسور التعاون بين العلماء في جميع أنحاء العالم، وهو ما تجلى أكثر ما تجلى في قرار الولايات المتحدة بوقف تعاون «تحالف الصحة البيئية» «EcoHealth Alliance» الأميركي مع مختبر «بي 4» البيولوجي «P4 Bio-Lab» في ووهان الصينية.

 ——————

[1] https://www.whitehouse.gov/briefings-statements/remarks-president-trump-vice-president-pence-members-coronavirus-task-force-press-conference/

[2] https://www.theguardian.com/world/2020/apr/18/how-did-britain-get-its-response-to-coronavirus-so-wrong

[3] https://asia.nikkei.com/Opinion/China-s-poor-public-health-care-has-hindered-coronavirus-fight

[4] https://www.spiegel.de/politik/deutschland/coronavirus-was-sie-jetzt-tun-koennen-muessen-kolumne-a-fecf387c-969c-4263-9dcf-ca89f2625de7

[5] https://www.economist.com/graphic-detail/2020/02/18/diseases-like-covid-19-are-deadlier-in-non-democracies

[6] https://www.nytimes.com/2020/03/13/opinion/china-response-china.html

جيا زنغ

باحثة دكتوراه في العلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة وارويك ببريطانيا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock