منوعات

حوّل المنشور السياسى إلى أغنية: الشيخ إمام.. حنجرة مصر الثائرة

«رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني.. يا مصر إنتي إللي باقية وإنتي قطف الأماني.. لا كورة نفعت ولا أونطة ولا المناقشة وجدل بيزنطة.. ولا الصحافة والصحفجية.. شاغلين شبابنا عن القضية.. قيمولنا صهبة يا صهبجية.. ودوقونا طعم الأغاني.. رجعوا التلامذة للجد تاني.. طلعوا التلامذة ورد الجناين.. اسمع يا ميلص وشوف وعاين.. ملعون أبوك ابن كلب خاين.. يا صوت أميركا يا أمريكاني.. رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني.. يا مصر إنتي إللي باقية وإنتي قطف الأماني»

بتلك الأنشودة للشيخ إمام عيسي، كلمات الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، كنت ورفاقي في جامعة القاهرة نستقبل عامنا الدراسي الجديد طوال دراستنا الجامعية. فلا معنى للدراسة بالجامعة دون الشعر والغناء.كان صوت الشيخ إمام، يعادل دق طبول الحرية، يأتي ممزوجا بهتافنا «دقي يا ساعة الجامعة يا حرة». تخرجت في الجامعة وظل صوت الشيخ إمام رفيق الرحلة يظهر أحيانا ويختفي بعض الأحيان، إلى أن تفجّرت ثورة 25 يناير 2011، ليعود صوته مجددا يملأ ميدان التحرير، معبرا صادقا عن روح الشعب وطموحه في العيش الكريم والحرية والعدالة الإجتماعية.

من أين جاء هذا الشيخ؟ وكيف تمكّن من أن يسكن قلوب عشاقه كل تلك السنوات حتى بعد رحيله في 7يونيو عام 1995؟.. هل هى الصدفة التي جمعته بالشاعر أحمد فؤاد نجم،في حارة «حوش قدم»، والتي تعني في اللغة الفارسية «قدم الخير»؟.. فقد كانت «حوش قدم» عن حق هي «قدم الخير» على الشيخ إمام ورفيق دربه فؤاد نجم، وعلى كل من أسعده حظه بالاستماع إليهما معا.

الميلاد والفقر وكف البصر

ولد الشيخ إمام عيسى في 2 يوليو عام 1918، بقرية أبو النمرس بمحافظة الجيزة، لأسرة فقيرة، كان أول من يعيش لها من الذكور حيث مات قبله سبعة من الأخوة. في السنة الأولى من عمره أصيب بالرمد الحبيبي، وبسبب فقر أسرته وجهلها واستعمالها الوصفات الشعبية في العلاج، فقد الطفل بصره، فقضى فترة طفولته في حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ عبد القادر ندا، رئيس الجمعية الشرعية بأبي النمرس. وفى طفولته أيضا كان يسمع كثيرا لأهازيج وأغنيات النساء بقريته فيطرب لها، ما منحه أذنا موسيقية أعطته الشهرة والمجد.

عام 1929، اصطحبه والده للقاهرة للدراسة بالجمعية الشرعية السنية بحي الأزهر، عشق الطفل صوت الشيخ محمد رفعت، حيث كان يستمع إليه يتلو القرآن بالإذاعة المصرية، غير أن إدارة الجمعية أجمعت على فصله، إذ أنهم كانوا يرون أن الإستماع لصوت المذياع من المحرمات، ونتيجة ذلك نهره والده وحرمه من دخول قريته مرة أخرى.

امتهن الشيخ إمام الإنشاد الديني وتلاوة القرآن، فأعجب بصوته الشيخ درويش الحريري، وهو أحد المتخصصين في علوم الموسيقى، فاصطحبه معه إلى جلسات الإنشاد والطرب ما أتاح له فرصة التعرف على عدد من رموز الفن، كان على رأسهم الشيخ زكريا أحمد، الذي قيل إنه استعان بالشيخ إمام لمساعدته في حفظ الألحان،  لكن العلاقة بينهما انتهت بعد أن نما إلي زكريا أحمد أن الشيخ إمام يتغنى على المقاهي بألحانه الخاصة بأغنيات أم كلثوم قبل أن تشدو بها.

Related image

الشيخ درويش الحريري

ليبدأ بعدها الشيخ إمام مرحلة جديدة، فتعلم العزف على العود على يد كامل الحمصاني، من ثم بدأ أولى خطواته نحو التلحين، ولتبدأ رحلته مع الموسيقى والغناء.

رحلة الشيخ والفاجومي

يُحكى أن الشيخ إمام بدأ علاقته بالتلحين معتمدا على بعض الأغنيات التي سطّر كلماتها بنفسه، إلا أن البداية الحقيقية له في عالم التلحين والغناء لم تتحقق بشكل فعلي إلا بعد لقائه برفيق دربه أحمد فؤاد نجم، والذي اشتهر «بالفاجومي».

 هذا الثنائي هو ما جعل من الشيخ إمام ظاهرة غنائية شبابية في ستينات وسبعينات القرن الماضي، يعلو اسمه في لحظات المد الوطني والسياسي، ويختفي في فترات الجذر، ليعود بقوة كأنه لم يختف يوما مع لحظات اليقظة الوطنية الشعبية، بوصفه لسان حال المشاركين في تلك اللحظات من اليقظة السياسية.

يصف الدكتور فيصل درّاج أغنيات الشيخ إمام بأنها أقرب للمنشور السياسي، وهو بوصفه هذا لا يقلل من شأن تلك الأغنيات، بل على العكس تماما ،فهو يرى أن الشيخ إمام بأغنياته تلك تمكن من أن يلتقي بجمهور كان ينتظره كثيرا، في سياق ثقافي وسياسي يبحث فيه الجمهور عن فنان شعبي يعبر عن إحتياجاته.

Image result for ‫فيصل درّاج‬‎

الدكتور فيصل درّاج

هنا يسير الجمهور -وفقا لفيصل دراج – مشاركا للفنان الذي ينصت إلى جمهوره ويشتق منه الكلمات، كما لو كانت الأغنية عملاً مشتركاً ينجزه الفنان وجمهوره معاً. فيصبح التلامذة والشباب والمثقفون، كورسا جماعيا يقف وراء المغني الشعبي.. في البيوت وحلقات الشباب المتمرد والشوارع والمظاهرات، سواء أكان ذلك بالقاهرة أو بيروت، أو بين الشباب الفلسطينيين الذين يحلمون بتحرير بلادهم.

يضيف دراج: «كل شيء في هذه الأغنية السياسية، أو المسيّسة، كان بسيطاً وواسع الأحلام، فآلة العزف بسيطة، والكلمات لا تحتاج إلى كبار الشعراء و«الصالة» مرنة متقشفة، لا تحتاج إلى مختص في التكييف أو الإضاءة. وراء كل ذلك كانت تتمدّد جمالية الأرواح، حيث الشيخ المغني الستيني يصبح شاباً وهو يغني للنيل وفلسطين، وجمهوره مزيج من القلوب الحارة والأيدي المصفقة، ولا أحد بين الشباب المتمرّد لا يستظهر فرحاً: «مصر يامّة يا بهية» أو «همَّ مين وإحنا مين»، أو «أنا الأديب الأدباتي» وغيرها الكثير».

حين حاول أحد محبي الثنائي نجم و إمام دعوتهما للسفر إلى تونس، تعرضا للمنع من السفر وهما بمطار القاهرة، ومن هنا جاءت أغنية «ممنوع من السفر»، وفي هذا السياق فقد ساهم الحبيب بلعيد، وكان يعمل بإذاعة تونس الدولية، بنشر أغاني الشيخ إمام الممنوعة آنذاك في مصر. وفي عام 1984 تمكّن الشيخ إمام من زياة تونس لأول مرة بدعوة من الاتحاد العام التونسي للشغل، تبعها بعشرات الحفلات بمختلف المدن التونسية.

وفي عام 1985 وقف الثنائي نجم والشيخ إمام على خشبة مسرح «الأولمبياد» بباريس ، ذلك المسرح الذي وقفت عليه أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، لينشدا معا أروع أعمالهما، وتتوالي رحلاتهما لسوريا ولبنان والجزائر وليبيا وتونس.

كان قد ذاع صيت الثنائي نجم وإمام وانضم إليهما فيما بعد عازف الإيقاع محمد علي.

Related image

الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم

وبالإضافة إلى كلمات، أحمد فؤاد نجم، استعان الشيخ، بأشعار فؤاد قاعود «وهبت عمري للأمل» و زين العابدين فؤاد «اتجمعوا العشاق» و«شيد قصورك» ونجيب سرور «البحر بيضحك ليه» ونجيب شهاب الدين «سايس حصانك» والشاعر الفلسطيني توفيق زيّاد في أنشودة «أناديكم» والشاعر التونسي فتحي آدم «يا ولدي» وغيرهم من الشعراء.

أصبح الشيخ إمام إمتداداً للشيخ سيد درويش في التعبير اللحني، فمثلما تغني سيد درويش «عشان ما نعلى ونعلى ونعلى .. لازم نطاطي نطاطي نطاطي»، غني الشيخ إمام «مهما يزيد الظلم بالسجانة .. مين إللى يقدر ساعة يحبس مصر».

Related image

سيد درويش

امتلك الشيخ إمام حنجرة جهورية تمنحه مساحة قوية وتمكنه من زمام مختلف الأغاني الحماسية، ما جعل أغانيه بمثابة أناشيد للثورة، تتردد في كافة التجمعات الجماهيرية الثائرة.

من هزيمة 67 لثورة يناير

زلزلت نكسة يونيو 1967 كيان المجتمع المصري، فجاء صوت الشيخ إمام يشدو بكلمات نجم، معبرا عن سخط جموع الشعب العربي مما جرى من هزيمة فادحة انهارت معها الكثير من الأحلام الكبرى.

تعرض الشيخ إمام ورفيق دربه نجم للسجن أكثر من مرة في عصري جمال عبد الناصر والسادات، وحين تفجرت ثورة 25 يناير 2011، بعد وفاة الشيخ إمام بسنوات عدة، وقف أحمد فؤاد نجم على إحدى منصات ميدان التحرير يصرخ بعلو صوته: «فينك يا شيخ إمام دلوقتي تشوف بعينك؟ أنت مت ليه؟ .. كان لازم تشوف اللحظة ده معانا». غير أن صوت الشيخ لم يكن غائبا بالمرة، بل على العكس من ذلك كانت أغنياته حاضرة حضورا يفوق الكثير من أغانى الأحياء.

«مصر يامة يا بهية .. يام طرحة وجلابية .. الزمن شاب وأنت شابة .. هو رايح وأنت جاية .. جاية فوق الصعب ماشية .. فات عليكي ليل ومية .. واحتمالك هو هو.. وابتسامتك هى هى .. تضحكي للصبح يصبح .. بعد ليلة ومغربية .. تطلع الشمس تلاقيكي معجبانية وصبية.. يا بهية».

الفيديو جرافيكس

نص: نفيسة دسوقي

تحريك ومونتاج: عبد الله محمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock