فن

صلاح أبو سيف.. أستاذ الواقعية فى السينما المصرية

«السينما حبيبتي»، بهذه الجملة الموجزة والعميقة في آن، لخَّص المخرج الكبير الراحل صلاح أبو سيف علاقته بفن السينما الذي كان أحد أهم رواده في مصر والعالم العربي على مدار أكثر من نصف قرن.

ومن الطريف حقا أن أبو سيف الذي اقترن اسمه بالفن السابع كواحد من أبرز صناعه دخل إلى هذا المجال بمحض الصدفة. فأبو سيف المولود في عام 1915 لأسرة من بني سويف، عمل لعدة سنوات كموظف في شركة النسيج في مدينة المحلة الكبرى، وأثناء عمله هناك التقى بالمخرج نيازي مصطفى الذي كان قد ذهب إلى المحلة لإعداد فيلم تسجيلي عن صناعة الغزل والنسيج.

انبهر مصطفى بعشق الشاب أبو سيف للسينما وسعة إطلاعه على مختلف أنواع الفنون، فقرر أن يبذل كل جهده من أجل نقل هذا الشاب الطموج للعمل في استوديو مصر، مهد صناعة السينما المصرية.. ونجح نيازى مصطفى فى مسعاه لينتقل صلاح أبو سيف للعمل فى الاستديو.

أتاح الانتقال إلى استوديو مصر لأبي سيف فرصة اقتحام المجال الذي طالما قرأ عنه، واتقن فن المونتاج كما عمل مساعدا للمخرج كمال سليم في فيلم «العزيمة» عام 1939 والذي يَعُدُه النقاد أول فيلم واقعي في تاريخ السينما المصرية.

Related image

المخرج كمال سليم

سينما مختلفة

أدرك أبو سيف بعد فترة من عمله في الاستوديو نوعية الأفلام التي يريد تقديمها كمخرج، والتي تختلف اختلافا جذريا عما كان سائدا في ذلك الوقت، لم يكن أبو سيف مولعا بالأفلام التي تتخذ من القصور ديكورا ومسرحا لأحداثها ومن الـ «بشوات» و«الهوانم» أبطالا لها. وكان يسعى إلى تقديم سينما تُعنى بالبسطاء كالفلاحين الذين نشأ في وسطهم،والعمال الذين زاملهم لسنوات في المحلة

وهو اتجاه بدأ يظهر جليا في أفلامه بدءا من فيلم «الصقر» عام 1949 بعد عودته من إيطاليا والذي بدا فيه واضحا تأثره بتيار ما يعرف بالواقعية الجديدة هناك.

فيلم الصقر

وفي عام 1952 قدم أبو سيف رؤية مماثلة لرؤية أستاذه كمال سليم في «العزيمة» مبرزا التناقض بين سكان الحارة الشعبية وسكان القصور من خلال فيلم «الأسطى حسن» الذي يروي قصة عامل يسعى للترقى الاجتماعي.

فيلم الأسطى حسن

وفي العام ذاته تمكن أبو سيف من خلال فيلمه «ريا وسكينة» المأخوذ عن قصة ريا وسكينة من نقل ديكور الفيلم برمته إلى الحي الشعبي وتحديدا إلى حي اللبان في مدينة الإسكندرية بعد أن كان ديكور الأفلام قاصرا على قصور الأثرياء.

فيلم ريا وسكينة

وبدا انحيازه الاجتماعي واضحاً في فيلمه التالي «الوحش» الذي يبدو  للوهلة الأولى فيلماً بوليسياً عن الصراع بين زعيم عصابة قاتل في أقصى صعيد مصر وبين ضابط شاب، إلا أن أبو سيف من خلال مشاهد كثيرة فى الفيلم وفى ثنايا قصته استطاع أن يصور ويقدم أوضاع الفلاح المصري البائسة وأن يسخر من طبقة الإقطاعيين التي تتسبب في شقاء هذا الفلاح.

فيلم الوحش

فى رحاب الثورة

ومع اندلاع ثورة يوليو 1952، انحاز أبو سيف إليها بشكل كامل خاصة في ظل مناداتها وسعيها لتحقيق العدالة الاجتماعية، فجاءت أفلامه التالية مواكبة لهذا التغيير ومعبرة عما حدث من تغييرات هائلة فى المجتمع المصرى بعد الثورة كفيلمه «الفتوة» عام 1957 الذي يدين آليات السوق التي من شأنها إفساد الفرد خاصة في ظل نظام إجتماعي يعتمد على تلك الآليات .

فيلم الفتوة

وحتى نهاية الخمسينيات، سيطر على أفلام أبو سيف طابع الرومانسية، والتي كانت في أغلبها مقتبسة عن أعمال أدبية لإحسان عبد القدوس، مثل «الوسادة الخالية» الذي شهد أول تعاون بينه وبين عبد الحليم حافظ و «لا أنام» و «هذا هو الحب».

وكما هو الحال مع إحسان عبد القدوس، كان لأعمال نجيب محفوظ نصيب من سينما أبو سيف، خاصة في ظل الصداقة التي جمعت بين هذين المبدعيْن من خلال جلساتهما وسهراتهما مع أصدقائهما وقد أطلق عليهم جميعا شلة «الحرافيش». وقد حول أبو سيف أكثر من عمل لمحفوظ إلى أفلام سينمائية مثل «بداية ونهاية» عام 1960 و«القاهرة 30» عام 1966.

فيلم القاهرة 30

وحين وقعت نكسة عام 1967، لم تبتلع أبو سيف دوائر اليأس كما حدث مع كثير من مبدعي مصر، وإنما حوّل النكسة إلى دافع لتقديم أفلام تعالج الأوضاع التي أدت إليها.

فقدم في نفس عام العدوان (1967) فيلم «الزوجة الثانية» الذي احتفى فيه بنموذج الفلاحة التي تتمكن- رغم قهر العمدة الطاغية- من التغلب على هذا القهر وانتزاع حقها وحق زوجها المظلوم .وفي العام التالي، وعلى وقع تظاهرات الطلبة والعمال المطالبة بإزالة آثار العدوان ومحاسبة المتسببين عن النكسة، قدم أبو سيف فيلمه «القضية 68» والذي حمل نداء واضحا للقيادة «هدّها يا عم منجد وإبنيها من جديد».

فيلم الزوجة الثانية

الأستاذ والتلامذة

ومع مجيء السبعينات وتغير خريطة الإنتاج السينمائي بدأ عطاء أبو سيف السينمائي يتناقص، ففي الفترة من 1971 إلى 1981 لم يقدم المخرج المخضرم سوى سبعة أفلام فقط، غلب على بعضها الطابع التجاري مثل «حمام الملاطيلي» وعلى البعض الآخر القالب الديني مثل «فجر الإسلام» وحمل بعضها طابعا فلسفيا مثل «السقا مات» المقتبس عن عمل أدبي ليوسف السباعي يطرح تساؤلات عن الموت.

إلا أن أبو سيف استأنف نشاطه السينمائي في الثمانينات مدفوعا بإبداعات جيل جديد من السينمائيين الذين تتلمذوا على يديه كعاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشاره وداوود عبد السيد وغيرهم ممن أنشاوا ما عرف بتيار «الواقعية الجديدة» في السينما المصرية.

وفي عام 1986، قدم صلاح أبو سيف أحد أكثر أعماله تميزا وهو فيلم «البداية» الذي طرح من خلاله التساؤل الأبدي عن قضية الملكية الفردية وتأثيرها على المجتمع ككل.

أما فيلم «المواطن مصري» الذي قدمه عام 1991 عن نص أدبي ليوسف القعيد وعاد فيه للتعاون مع النجم العالمي عمر الشريف بعد عودته من الخارج وبعد نحو ثلاثين عاما من تعاونهما في فيلم «بداية ونهاية»، فحمل تساؤلات عن مصير جيل حرب أكتوبر 1973، هذا الجيل الذي صمد طويلا وحارب وجلب لبلاده النصر ثم عاد ليجد غيره يتمتع بثمار هذا النصر.

فيلم المواطن مصري

وكان آخر أعمال أبو سيف على الشاشة الفضية الفيلم الكوميدي «السيد كاف» عام 1994 الذي حمل، رغم طرافته، سخرية واضحة من طبقة الأثرياء الجدد من خلال سيدة تعنى بكلبها بأكثر مما تعنى بالبشر.

فيلم السيد كاف

وفي الثاني والعشرين من يونيو عام 1996، وبعد عام واحد من وفاة أحد أبرز تلاميذه عاطف الطيب، رحل أبو سيف عن عالمنا، ترجل الأستاذ ليلحق بتلميذه في العالم الآخر، تاركيْن وراءهما مدرسة سينمائية متكاملة انحازت دائما للبسطاء، ودائما وأبدا للوطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock