رؤى

مائة عام من التواطؤ على فلسطين

رود سوتش – رئيس تحرير سابق لموسوعتي World Book و Encarta

عرض وترجمة: أحمد بركات

«أحد أبشع الأصوات التي يمكن أن تسمعها هو ذلك الأزيز المروع للطائرات الأسرع من الصوت وهي تهبط للهجوم».. حسبما جادت ذاكرة المؤرخ الفلسطيني الأمريكي رشيد الخالدي.

ذاق الخالدي مرارت ذاك المشهد المروع بينما كان يهرول في يوم من أيام عام 1982 في طرقات بيروت لإحضار طفليه من مدرستي الروضة والحضانة أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان في ذلك العام، والذي حصد أرواح أكثر من 19 ألف لبناني وفلسطيني، معظمهم من المدنيين.

تمثل هذه التجربة واحدة من العديد من مواجهات الخالدي الشخصية العديدة والمؤلمة ضد الآلة العسكرية الإسرائيلية التي سردها في كتابه The Hundred Years’ War on Palestine (حرب المائة عام على فلسطين) (2020).

رشيد الخالدي، وكتابه (حرب المائة عام على فلسطين)

على خلاف عمله الأكاديمي السابق، ينسج الخالدي في هذا العمل خيوط تاريخه الشخصي والعائلي ويربطه بأحداث الفترة التي يغطيها؛ لذا، فإن الكتاب يمثل – على نحو ما – تاريخا مُعاشا، وشهادة، ليس فقط على ما عايشه الوجدان الجمعي الفلسطيني، وإنما أيضا على الدلالة المباشرة لذلك عند الكاتب نفسه.

ينحدر الخالدي من عائلة فلسطينية معروفة وعريقة تضرب بجذورها في أعماق أجيال عديدة، بما في ذلك الجد الأكبر الذي كان عالما دينيا، واثنين من أعمامه اللذين ذاقا ويلات السجون البريطانية في فترة الثورة العربية (1936 – 1939).

أضخم معارك ثورة 1936 بين الثوار والاحتلال البريطاني

نشأ الخالدي في مدينة نيويورك، حيث كان يعمل والده لدى الأمم المتحدة. وبعد تخرجه من جامعة ييل، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد، وحظي بمسار مهني حافل بالإنجازات في مجالي التدريس والبحث العلمي، وبلغ ذروته بتعيينه حاليا أستاذ كرسي البروفيسور إدوارد سعيد للدراسات العربية الحديثة في جامعة كولومبيا.

دور أمريكي مخادع

في كتابه Brokers of Deceit: How the US Has Undermined Peace in the Middle East (سماسرة الخداع: كيف قوضت الولايات المتحدة السلام في الشرق الأوسط) (2013)، يوثق الخالدي الدور الذي لعبته الإدارات الأمريكية المتعاقبة فيما يسمى بعملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية.

يبين كتاب «سماسرة الخداع» عبر أدلة تاريخية دامغة كيف كانت الولايات المتحدة طوال الوقت وسيطا غير نزيه في المفاوضات، ومحاميا لإسرائيل من وراء الكواليس، وملتزمة بتعهد يعود تاريخه إلى إدارة الرئيس جيرالد فورد بعدم تمرير أي مقترح للسلام دون الحصول أولا على موافقة المفاوض الإسرائيلي.

الرئيس الأمريكي جيرالد فورد

ويستمر موضوع التواطؤ الأمريكي في قهر الشعب الفلسطيني في كتاب «حرب المائة عام»، ويتعمق من خلال سرد الدور الأمريكي في لبنان عندما وعد مسئولون أمريكيون بضمان سلامة اللاجئين الفلسطينين في أعقاب انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، ثم انتقال مقرها إلى تونس، ثم نكث هؤلاء المسئولون أنفسهم عهدهم عندما أشرفت إسرائيل على المذابح التي ارتكبها حزب الكتائب ضد اللاجئين في مخيمات صبرا وشاتيلا.

ويخلص المؤلف إلى أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة قد تواطأت مع إسرائيل منذ حرب 1967، التي منحت واشنطن ضوءها الأخضر. وتستمر الولايات المتحدة في تقديم المساعدات العسكرية والغطاء الدبلوماسي اللازمين لحماية إسرائيل ككيان عنصري استعماري استيطاني.

كما يبين الخالدي أن جميع الحروب الستة التي شنتها الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني كانت ممكنة من قبل قوى استعمارية أو إمبريالية. 

ويقدم الخالدي بحثا أكاديميا جديدا في هذا الموضوع من خلال تخصيص فصول لكل حرب من الحروب الستة. كما أن تجاربه الشخصية التي مر بها كأحد سكان القدس أثناء الانتفاضة الأولى، ثم كمستشار للفريق الفلسطيني المفاوض في مؤتمر مدريد 1991، تضفي مزيدا من المأساوية على تاريخ مأساوي بطبعه بكل ما تحمله الكلمة من معان.

ويتمحور الفصل الأخير من الكتاب حول إنهاء التواطؤ الأمريكي مع إسرائيل، حيث يمهد الخالدي لمناقشة الحلول المحتملة عن طريق بحث أسباب فشل القيادات الفلسطينية أولا.

وينتقد الكاتب هذه القيادات لرفضها الاعتراف بأهمية تأثير الرأي العام الأمريكي كأحد وسائل مقاومة سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ويؤكد أن مطالبة المجتمع المدني الفلسطيني بمقاطعة إسرائيل ومعاقبتها كان له أثر أعمق في كسب تأييد الشعب الأمريكي مقارنة بكل ما فعلته القيادة السياسية الفلسطينية.

ويقترح المؤلف ثلاث سرديات مضادة لتقويض الاعتقاد السائد بين أغلب المواطنين الأمريكيين بأن إسرائيل دولة قومية ديمقراطية لا تختلف في كثير عن أي دولة أخرى تعتنق القيم الغربية.

تعقد السردية المضادة الأولى مقارنة بين إسرائيل والمجتمعات الكولونيالية الاستيطانية الأخرى، بما في ذلك المجتمعات في أستراليا وكندا وجنوب أفريقيا إضافة إلى الولايات المتحدة بطبيعة الحال.

إن أوجه الشبه بين مصير سكان أمريكا الأصليين والفلسطينيين تمثل لائحة اتهام دامغة ضد كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. رغم ذلك – كما يخلص الكاتب – فإن العديد من الأمريكيين لا يزالون يتفاخرون بتاريخهم المبكر الذي يصور المستوطنين كرواد مثابرين في صراعهم المرير ضد البربر.

هيوي نيوتن، وياسر عرفات

وبرغم التحديات المتزايدة التي تواجهها هذه السردية السائدة إلا أنها لا تزال نافذة ومهيمنة على العقل الأمريكي، كما يؤكد الخالدي. فعقيدة «المصير الواضح» (Manifest Destiny) التي اعتاد الرواد استخدامها لتبرير المذابح وعمليات التطهير العرقي التي ارتكبوها ضد الأمريكيين الأصليين تتطابق مع الأسطورة الصهيو مسيحية عن عودة اليهود أخيرا إلى أرض الأجداد، وهو سيناريو معزِز لإنقاذ ما بعد الهولوكوست الذي يروق لكثير من الأمريكيين. 

أما السردية المضادة الثانية التي يطرحها الخالدي فتبرز التفاوت الواضح في القوة بين الإسرائيليين اليهود من جانب والفلسطينيين من جانب آخر. تكمن المشكلة في ذلك في أن إسرائيل لا يزال يُنظر إليها على أنها «داود في مقابل جالوت العربي / المسلم»، كما أن وسائل الإعلام لا تنفك تزعم أن الفسطينيين فشلوا في استغلال أفضل العروض التي أتيحت لهم على طاولات التفاوض.

توقيع اتفاق أوسلو

عدم المساواة

وتتمثل السردية المضادة الثالثة – وهي الأهم على الإطلاق من وجهة نظر الكاتب – في التركيز على التساوي في الحقوق الذي لا يتوافر في دولة الفصل العنصري الإسرائيلية. لقد أدرجت عدم المساواة في خطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتحدة في عام 1947، والتي نصت على منح أغلبية الأراضي الفلسطينية للأقلية اليهودية، ومن ثم فهي تقبع في عمق المشكلة، كما كتب الخالدي.

ويؤكد الكاتب أن التركيز على عدم المساواة سيكون حاسما لأنها تتعارض تماما مع القيم المركزية في المجتمعات الديمقراطية الغربية التي تعتمد عليها إسرائيل في الحصول على ما تحتاج إليه من دعم. ويبرز هذا التفاوت واللامساواة الآن أكثر من أي وقت مضى، ويمثل «السؤال الأخلاقي المركزي الذي تثيره الأيديولوجيا الصهيونية». 

ويخلص المؤلف إلى أنه: «إن الصهيونية الحديثة التي تقوم في جوهرها على التمايز واللامساواة، وتناقض قيم الديمقراطية والليبرالية تتعارض تماما مع المثل والأفكار التي تقوم عليها الديمقراطيات الغربية».

من المفيد أن يرى هذا الباحث الفلسطيني الأمريكي البارز، وهو يناهز الثانية والسبعين من عمره، أن النضال ضد الصهيونية هو أحد مفاتيح إنهاء التواطؤ الأمريكي مع إسرائيل. لكن، يبقى من الصعب أن نرى كيف يمكن أن يتحقق ذلك دون سردية مضادة تتهم الولايات المتحدة بالفشل في التصالح مع تاريخها الاستيطاني الكولونيالي، بما في ذلك الكولونيالية الداخلية والإمبريالية الخارجية واللتان تلحان بقوة في المشهد الأمريكي حتى يومنا هذا.

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock