منوعات

عبد الوهاب المسيرى.. العالِم «الحق» الذى فضح «الباطل» الصهيونى

في صبيحة ذلك اليوم البعيد، الثالث من شهر يوليو عام 2008، استيقظت على صوت رسالة وصلتني على هاتفي..أمعنت النظر في تلك  الرسالة في حالة من الذهول حتى تأكدت من صدق الخبر.. رحيل فارس آخر من فرسان الكلمة في هذا الوطن:أستاذى الحبيب الدكتور عبد الوهاب المسيرى

 منهج فكرى مختلف

عرفت الدكتور المسيري عن طريق كتاباته، حيث شاءت الصدفة أن ألتقط، وأنا لا أزال طالبا في السنة الثانية من دراستي الجامعية كتابه عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى إبان إندلاع الانتفاضة الثانية، ووجدت فيه نموذجا مغايرا في النظر إلى الظواهر والأحداث وطريقة تحليلها. وجدت أن المؤلف لا يسلّم بالنماذج المعرفية- على حد تعبيره- في تفسير ظاهرة سياسية واجتماعية مثل الانتفاضة بل يسعى جاهداً إلى التأسيس لما أسماه بـ «نموذج معرفي جديد» مستقى من ثقافتنا العربية.

أقبلت منذ ذلك الحين بنهم على مؤلفات المسيري بما في ذلك موسوعته الضخمة «اليهود واليهودية والصهيونية» التي التهمت من عمره عشرين عاماً كاملة في البحث والكتابة.

لاحظت أن المسيري لم يسلّم في هذا العمل الموسوعي – كما فعل كثيرون من بنى أمتنا – بالنموذج التآمري الذي لا يرى في الظاهرة الصهيونية بكافة تعقيداتها سوى «مؤامرة يهودية» في تبسيط مخل للقضية.كما لم يسلّم بفكرة «التفوق الصهيوني» في مقابل «التأخر العربي» كم يردد قسم آخر من بني جلدتنا.

 بل انتهج منهجا فكريا غير مسبوق وهو وضع الظاهرة الصهيونية في إطارها الحضاري كظاهرة استعمارية أوروبية، الهدف الأساسي منها هو تخليص أوروبا البيضاء –إذا صح التعبير- من مشكلة داخلية عبر تصديرها إلى بلاد الشرق على حساب السكان الأصليين، شأنها  شأن أي تجربة من تجارب الاستعمار الاستيطاني سواء في الجزائر أو جنوب إفريقيا أو أمريكا الشمالية.

العالِم الحق

شاء حظي الطيب عقب إطلاعي على موسوعته الشهيرة عن الصهيونية، وغيرها من الأعمال أن دعاني المفكر الراحل الى أحد صالوناته الثقافية الشهيرة التي كان يعقدها في منزله بضاحية مصر الجديدة في قاهرة المعز، والذي كان في حد ذاته، في شكله ونموذجه المعماري، تطبيقا لبعض من أفكاره، التى كان يبثها تلاميذه من جيل الشباب، وقد استوت على «نار» خبرته العريضة فى الحياة

ورغم أني عرفت المسيري قبل أن ألقاه من خلال كتاباته، لكن لقاءه كان له طعم آخر، حيث وجدت في المفكر الراحل نموذجا أصبح نادرا في حياتنا العربية حتى بات المرء يحسبه قاصرا على كتب التراث فحسب… نموذج العالم الحق، ذاك الذي يجمع بين عمق التحليل ودقته، وبين الانتماء العميق لثقافته العربية الاسلامية رغم تمكنه التام من الثقافة واللغة الانجليزية.

وجدت نموذج العالم الموسوعي، فالمسيري الذي بدأ حياته العملية والأكاديمية كأستاذ للأدب الانجليزي ومفتتن بالشعر الرومانسي، لم يكتف بمجال تخصصه الذي درّسه لتلامذته في كل من مصر والسعودية، بل أبى ألا يدع مجالا إلا وطرقه وكتب فيه. فكتب أهم موسوعة عن الصهيوينة، مبددا الكثير عن الأوهام التي ترسبت في العقل والوعي الجمعي العربي بشأنها.. وكتب للأطفال وعنهم، مبتكراَ عددا من الشخصيات مثل الجمل صابر والفتاة نور التي تكرس في ذهن الطفل العربي قيما بعينها، مثل الانتماء والاجتهاد سواء في الفكر أو في العمل.

كتب الشعر والنقد، وجاءت تجربته الشعرية، سواء تلك التي كتبها باللغة العربية الفصحى، أو تجربته بالعامية المصرية، شديدة الرهافة والرقة، معبرة عن شخصية مرهفة وحساسة للغاية رغم عمقها الفكري.

وفوق هذا وذاك، بقى المسيري دائما ذلك  الأب المرح المتواضع لأسرة ضمت عشرات من مريديه وتلامذته الذين تعلقوا به،ومن بينهم كاتب هذه السطور، تعلق المريد بالقطب. كان يمكن للمسيري أن يهنأ بتقاعد مريح في منزله، ويكتفي بما حاز من جوائز وتقديرات من الدولة المصرية ومن الخارج على حد سواء.

إلا أنه أبى، – على عكس كثير من مثقفينا وكتابنا – إلا أن يقرن القول بالفعل، والنظرية بالممارسة. فنزل الى الشارع مع المتظاهرين المطالبين بالتغيير في مصر بدءاَ من العام 2004، ينشد العدل الغائب والحق المستلب، ليناله من النظام الحاكم آنذاك أذى غير قليل، إلا أن تلامذته مرة أخرى كانوا حوله في كل تظاهرة ليسيجوه بأجسادهم وبأرواحهم لو لزم الأمر.

في عام 2011، وفي قلب ميدان التحرير، ووسط آلاف المتظاهرين، كانت روح المسيري حاضرة رغم وفاته قبلها بعامين ونصف العام. تذكرت إيمانه الدائم بالإنسان المصري وقدرته على إحداث التغيير.. تذكرت كيف كان يتصدى للمصاعب بالابتسامة والنكتة كأي فلاح مصري بسيط. استعدت قدرته المدهشة على التفاؤل بالمستقبل القادم، سواء فيما يخص مصر، أو ما يخص القضية الفلسطينية التي كرس لها عمره، وهو الشيخ الذي تجاوز السبعين، في حين كان الإحباط واليأس يستغرقان تلاميذه من الشباب.

يردد الناس في مصر مثلا شعبيا يقول «اللي خلف ما ماتش»، والمسيري كان منجبا لعشرات الكتب ومئات النظريات والأفكار التي ستبقى، وتُبقى ذكرى صاحبها، خاصة وقد ترك –وفقا للحديث الشريف- في دنيانا هذه إحدى ثلاث ينقطع عمل الإنسان إلا منها: «علم يُنتفع به».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock