رؤى

لماذا تتعاطف معها الأكاديميا الغربية؟ (6) عندما يتحول فريق من باحثي الإسلاموية إلي أجهزة تسجيل تعيد ترديد مقولات الإخوان المنمقة

قسم وازن من الأدبيات المتداولة المتعاطفة مع الإسلاموية في الدوائرالبحثية والأكاديمية الغربية و تحت تأثير  كل من علم الإجتماع و علم الأنثروبولوجيا يقول بأن تحليل النصوص التأسيسية لفهم ممارسات ومخيلة الإسلاميين هو اختزال لواقعهم وانه يكفي الاكتفاء بما يقوله الإسلاميون عن أنفسهم بخصوص أنهم ديمقراطيون وأن ولائهم هو لدولهم الوطنية علي سبيل المثال كحقيقة مسلم بها.

و يعتبر الباحث الفرنسي «فرانسوا بورغا» واحداً من أبرز رواد هذا الاتجاه، حيث كانت بداية تعرف بورجا على الظاهرة من خلال مقابلات وحوارات مباشرة مع بعض قادة الإخوان المسلمين، وهى المقابلات التي خرج منها بانطباع – بل باعتقاد جازم لديه!! – بأنهم يمثلون الوسطية ويحوزون الأغلبية على الساحة الإسلاموية.

في كتابه الأخير «فهم الإسلام السياسي»، يرى بورجا أن الاختلافات بين باحث وآخر هي قبل كل شئ اختلافات ذات طبيعة منهجية بالأساس، فكتابات أى باحث تتحدد من خلال نوع اتصاله الأول بالظاهرة محل البحث.

فهم الإسلام السياسي لـ «فرانسوا بورغا»

ويطبق بورجا هذه الفكرة على بعض زملائه من الباحثين الفرنسيين المتخصصين في دراسة ظاهرة الإسلاموية مثل «جيل كيبل» الذي كان أول تعرفه على الظاهرة من خلال قراءة النصوص التأسيسية ونصوص البرامج السياسية للإخوان المسلمين، أو «أوليفييه روا» الذي اعتمد على تحليل شعاراتهم السياسية المعلنة.

ويرى بورجا أن اختزال واقع الإسلاموية في نصوصها المؤسسة أو شعاراتها المعلنة هو خطا منهجي، وأن تحليل مضمون النصوص والشعارات الحركات الإسلاموية يبقي مجرد تصور لمراقب من بعيد جدا و من خارج واقع الظاهرة و ليس وصف واقعي للجذور العميقة لظاهرة الإسلاموية.

لذلك، يعتقد «بورغا» أن الحوار المباشر في صورة مقابلات مع ممثلي الإسلاموية هو الوحيد القادرعلي سبيل المثال أن يظهر مثلا أنهم لا يستهدفون تطبيق الشريعة و لا لإعتبارها الدستور السياسي للدولة، و هو ما يظهر كشرط لكي تكون الدولة «إسلامية» كما هو متعارف عليه. خلاصة الأمر ينتقد »بورغا» مقاربتي «كيبل» و «روا» كونهما تفترضان أن النصوص التأسيسية أو الشعارات هي التي ترشد الممارسة السياسية وتحدد الخيال السياسي والاجتماعي للإسلامويين وليس العكس.

ثمة حقائق وملاحظات معاكسة غابت عن «بورغا» و عن المنتمين لهذا  التيارالمتعاطف مع الإسلاموية والذي يقول بأن تحليل النصوص التأسيسية لفهم ممارسات ومخيلة الإسلاميين هو اختزال لواقعهم (عرضت بعضها في كتابي مع البروفيسور بجامعة مونتريال «باتريس برودر» «الاسلام السياسي بعد الربيع العربي.. هل حان وقت النهاية للإسلاموية السياسية»، هذه الملاحظات هي:

أولاً: يتم اختزال المنهج «التجريبي» عند هذا الفريق من الباحثين إلى نوع من التسجيل والنسخ للخطابهم الشفاهي المعطي خلال المقابلات مع القادة الإسلامويين، دونما قراءة مسبقة أو موازية لنصوصهم التأسيسية المكتوبة و التي يتربون عليها ويحفظونها عن ظهر قلبة بل و يقدسونها، وبدون تحليل لاحق شامل. باختصار، الباحث ليس جهاز تسجيل أو مجرد معجبًا مغرما «Fan» بموضوع وأشخاص دراسته ليكرر ما يقال دون إخضاعه لأدوات جمع المعلومات وفهمها و تفسيرها و تحليلها كما يفعل عادة «الهواري عدي» أستاذ علم الاجتماع بمعهد الدراسات السياسية بليون بفرنسا عند تناوله حركة النهضة بتونس أو حزب الوسط المصري على سبيل المثال.

«الهواري عدي» أستاذ علم الاجتماع بمعهد الدراسات السياسية بليون بفرنسا

ثانيا: أن اختلاف الباحثين لا ينشأ فقط بسبب الفارق بين المقابلة الشفهية أو النص التأسيسي فكلاهما تعبيرات لغوية في النهاية، ولكن ما يصنع الفارق أيضا هو طريقة تعامل الباحث مع هذه التعبيرات، فلكي تكون قادرًا على فهم معمق و جيد لخطابات الإسلاميين من خلال المقابلات المباشرة، يجب أن توضع أولاً تلك الخطابات في سياقاتها خصوصا الفكري منها، ثم يتم تحليل الخطاب نوعياً و كمياً للتمكن من فهم هدفه و منطقه و تماسكه، وتحديد الأسس المعرفية و الخلفية والأطر النظرية للخطاب التي ساهمت في تشكله والتي لا غني عنها لمعرفة مضامين و محتويات و غايات و معايير و فضاء و بنية و جنس الخطاب للتمكن من تحليله. 

ثالثا: عادة ما يكتفي هذا الفريق من الباحثين بمقابلات مع عدد قليل من قيادات الإسلاموية السياسية، المدربين علي مخاطبة الباحثين الأكاديميين ووسائل الإعلام الغربية بصورة منمقة تتعامل بذكاء مع هواجس الغرب وبالتالي لا يصح التعميم من خلالهم علي كامل أعضاء جماعاتهم والمنتمين إليها والمتعاطفين معها، خاصة القواعد التي تتحدث بعفوية أكثر وتكشف الارتباط بالنص المؤسس المتشدد وليس الموازنة الإعلامية أو المداورة السياسية.

في حالة جماعة الإخوان المسلمين علي سبيل المثال، لم يكن الباحث وحده هو من يختار من يتم معه اللقاء، ولكن كان للجماعة الدور الأكبر في ذلك، حيث تتم هذه اللقاءات البحثية عادة مع مسؤلي الاتصال السياسي بالغرب، وهم عادة كوادر مدربة على اصطناع خطاب منفتح غير متشدد مطمئن للغرب، و ليسوا ممن يعملون في قطاع التنشئة للأعضاء الجدد أو قطاع الدعوة الموجه لجمهور المسلمين عموما، حيث يمكننا القول باطمئنان أن خطابهم سيكون مختلفا بالطبع وغير معبر عن حقيقة رؤى الإخوان ومواقفهم. ونادرًا ما تقابل الباحثين من هذا التيار مع أى من المنشقين الذين خرجوا من الجماعة أو مع قيادات الجماعة الذين وصلوا للحكم في بلاد مثل السودان وقدموا نماذج مدمرة لما يعرف بالحكومة الاسلامية (جبهة لانقاذ وعمر البشير المخلوع نموذجا استمر لمدة ٣٠ سنة كاملة). لذا يمكننا القول بأن مقابلاتهم ودراسات الحالة التي أجروها كانت انتقائية للغاية وغير ممثلة – بالمعنى الإحصائي – للمنوال الغالب على خطابات عموم أعضاء الجماعة وهى خطابات أكثر انغلاقا وتشددا وأقل تسامحا، والمشكل الاساسي أن هؤلاء الباحثين يستنتجون من خلال هذه اللقاءات – المتحيزة منهجيا – تفسيرًا عامًا يريدون فرضه علي بقية الباحثين والسياسيين لفهم ظاهرة الإسلام السياسي.

الإخوان المسلمون جمعوا الفصائل المتشددة لتطبيق الشريعة أثناء فترة حكمهم

رابعا: لم يسبق لهذا التيار أن أجرى مقابلات مع إسلاميين لمعرفة وجهات نظرهم الخاصة حول المكانة و الدور التي تلعبه النصوص التأسيسية و الشعارات في ممارساتهم اليومية. إنهم كمن يضع فقط ما يعتقد هو علي ألسنة من يقابلهم من الإسلاميين، فهل يتفق الإخوان المسلمين مثلا مع افتراض «بورجا» بأن الشريعة ليست هي مصدر شرعية النظام السياسي!! [لاحظ كيف انقلب الاخوان المسلمين في مصر عند وصولهم إلى الحكم بعد ثورة ٢٥ يناير علي اتفاقهم المعلن مع القوي الوطنية الأخري أيام مبارك علي مدنية الدولة وضمنوا دستورهم تطبيقا عمليا لسيطرة الشريعة علي السياسة بإنشاء هيئة دينية تعود إليها الدولة قبل اتخاذ قرارات سياسية].

صبحي صالح يفند حديث فرانسوا بورغا: نعم أدعو لتطبيق الشريعة الإسلامية

بعبارة أوضح يعتقد هذا الفريق من الباحثين أن الخطاب الديني للإخوان المسلمين هو مجرد واجهة بلاغية لا تؤثر على ممارساتهم؟ ويبدو أن نهج «بورغا» وتياره ينكر حقيقتين واضحتين: الأولى، أن الإخوان المسلمين لديهم ثقافة وتراث نصي يتعارضان تماما مع ما يدعي وصفهم به. ثانياً، لم يقل الإخوان المسلمون قط أن هذه النصوص لم تعد تؤثر على ممارساتهم وأهدافهم الإستراتيجي، ولايقبلون أبدا أن يقول هو أو غيره عنهم ذلك أمام جمهورهم الحقيقي في بلادهم، يقبلونه فقط إن ظل في ندوة مغلقة او كتاب بلغة غربية.

إذا كان «كيبل»، بحسب بورجا، يتجاهل تفاعل خطاب الإسلاموية السياسية مع المجتمع ومعارضته للنظم الحاكمة في العالم العربي، فإن طريقة فهم بورجا وتياره يبدو لنا وكأنه يصر – دون مبرر مقنع – على تجاهل وإخفاء البعد الديني والأيديولوجي وتأثيره الحاسم على للظاهرة.

خلاصة الأمر أن من يقول بأن تحليل النصوص التأسيسية لفهم ممارسات ومخيلة الإسلاميين هو اختزال لواقعهم، لا يستخدم نهجًا تفرضه الظاهرة الإسلاموية و طبيعتها علي الباحث، بقدر ما يعمل على اختزال تلك الظاهرة القائمة علي نصوص مؤسسة لها كرؤية للعالم في عدد قليل من المقابلات [المخطط لها بعناية] مع بعض قياداتها التي تتعمد استخدام «خطاب مصطنع» موجه للغرب تحديدا بهدف كسب تعاطفه وتأييده السياسي.

محاضرة «موت الإسلام السياسي» – جمعية جلجامش – مونتريال – كندا

[1] Wael Saleh et Patrice Brodeur L’islam politique à l’ère du post-printemps arabe. Sommes-nous entrés dans l’ère du nécro-islamisme?, Études post-printemps arabe, L’Harmattan, 2017.

د. وائل صالح

مدرس مشارك في معهد الدرسات الدولية بجامعة كيبك بمونتريال

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock