فن

القدير عبد الرحمن أبو زهرة بين «المنع السياسي» قديما ومنع «الجحود والتجاهل» حديثا

بتصريح صادم لكل عشاق الفن الأصيل خرج علينا منذ أيام الفنان القدير عبد الرحمن أبو زهرة  شاكيا النبذ والإهمال وعدم التقدير من مخرجي ومنتجي الأعمال الفنية قائلا: «اعتبروني وجه جديد وجربوه» وأضاف أنه لن يقبل أدوار «ضيف الشرف» إلى أن يتوفاه الله، وأن الجحود الذي يسود الوسط الفني في تلك الفترة قد أصاب العديد من الفنانين الكبار بالاكتئاب – وهو واحد منهم- كما تسبب في موت آخرين بحسرتهم ذاكرا الفنان الراحل محمود الجندي رحمه الله.

لقد امتد عطاء الفنان القدير لأكثر من ستة عقود قدم خلالها ما يقارب 400 عمل متنوع بين الفيلم السينمائي والدراما التليفزيونية- مسلسلات وسهرات- والمسلسلات الإذاعية، والمسرحيات حيث بدأ مسيرته موظفا بالمسرح القومي عام1959، إضافة إلى أعمال للأطفال قام فيها بالأداء الصوتي أشهرها فيلم ديزني الشهير (الأسد الملك).

العم سكار بصوت الممثل القدير عبد الرحمن ابو زهرة

والحقيقة أنه ليس رجال الإنتاج والإخراج وحدهم هم من يجهلون قيمة الفنان أبو زهرة الذي دفعته الأقدار لأن يكون من رجال الفن الحاملين لرسالته النبيلة والمدافعين من خلاله عن البسطاء وحقهم في الحياة الحرة الكريمة؛ فالكثيرين لا يعلمون الكثير عن هذا المبدع الكبير الذي قضى أكثر من ستة عقود متعبدا في محراب الفن.

إلى أن بلغ السابعة عشرة لم يكن لدى «عبد الرحمن» أدنى اهتمام بالفن، ربما يرجع ذلك لحيائه الشديد الذي كان يصيبه بالارتباك أثناء الحديث حتى في الامتحانات الشفوية وهو الطالب النابه المتفوق الذي يحصل على أعلى الدرجات في الاختبارات التحريرية.

كان «عبد الرحمن» قد عرف اليتم بفقدان الأب وهو في سن التاسعة، وبفقدان العم الذي تولى رعايته بعد ذلك بسنوات؛ لتؤول مسئولية رعايته إلى أخيه الأكبر رجل النيابة العامة آنذاك والقاضي فيما بعد والذي كان يراقبه بعين المحب الحكيم حتى يهيئ له سبل الاختيار الحر المتبصر من أجل أن يشق طريقه بالغا أهدافه دون أن يضيع وقته فيما لا يرغب فيه بصدق.

«إلى الطب أو الصيدلة سأذهب بعد حصولي على شهادة التوجيهية» هكذا كان يجيب فتانا على كل من يسأله عن الدراسة التي يود الانخراط فيها.. لكن الأقدار كانت ترسم له طريقا آخر.

في إحدى الرحلات المدرسية وقف الطالب «عبد الرحمن أبو زهرة» يقلد بعض معلميه ما أثار ضحك زملاءه.. كان المشرف المسرحي مصاحبا للطلاب في رحلتهم؛ فلفت نظره أداء الفتى لأنه أقرب إلى الأداء التمثيلي منه إلى التقليد الساخر؛ فذهب إليه وطلب منه الانضمام لفريق التمثيل بالمدرسة؛ لكن الفتى اعتذر، فألح عليه المشرف غير مرة حتى استجاب أخيرا؛ ليحصل في العام التالي لمدرسته «خليل أغا» الثانوية على جائزة الملك فاروق في مسابقة المسرح المقامة بين المدارس الثانوية.

عبد الرحمن أبو زهرة يتحدث عن مشواره الفني

حصل «عبد الرحمن» على المجموع الذي يؤهله للالتحاق بكلية الطب؛ لكن الخلصاء من المحيطين به نصحوه بالالتحاق بمعهد الفنون المسرحية؛ لأنه خُلق ليكون ممثلا.. عندما عرض «أبو زهرة» الأمر على أخيه الأكبر قال له: لا أريد أن تصبح ممثلا وتتحول إلى رقم من الأرقام الموجودة في البلد؛ لذلك يجب أن تربط الفن بالثقافة، فالفنان الجيد هو الفنان المثقف، والثقافة لا تتأتى إلا من خلال القراءة الجادة المستمرة المتنوعة. ثم اقترح عليه أن يقرأ مؤلفات سلامة موسى لافتا إياه إلى أنه إذا قبل فكر «موسى» أو رفضه فلن يعود كما كان قبل قراءته.. وهذا ما حدث بالفعل فلقد تغير فتى الثامنة عشرة بالكلية وأصبح أكثر ارتباطا بالأرض والناس وأكثر انفتاحا على العالم.. تصاغرت أحلامه الشخصية أمام رغبته الأكيدة في التغيير وإسعاد البسطاء والدفاع عنهم.. لقد ملكت عليه تلك الروح الجديدة كيانه حتى تجاوز «موسى» الذي بدا له بعد ذلك إصلاحيا وليس بثوري كما كان يعتقد البعض.

بعض مؤلفات سلامة موسى

لظروف اجتماعية قاسية اضطر «عبد الرحمن» للعمل موظفا بوزارة الحربية بالشهادة التوجيهية، لكنه التحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب، كما تقدم بأوراقه لمعهد التمثيل وواظب على الدراسة المسائية.. حتى تخرج عام 1958، وعُين موظفا بالمسرح القومي.

عبد الرحمن أبوزهرة وأبوبكر عزت وزين العشماوي في مرحلة شبابهما

يحكي «أبو زهرة» عن تلك الفترة فيقول أن المسرح كانت تتنازعه أفكار تقدمية يمثلها عدد قليل من الكتاب  مثل ميخائيل رومان والفريد فرج وأفكار اليمين الرجعي التي يمثلها كتاب مثل: رشاد رشدي وثروت أباظة وآخرين.. ووفقا لقناعاته (التقدمية) فكر «عبد الرحمن» أن يشارك في الأعمال التي تتفق مع مبادئه وانحيازاته فقط، لكنه عدل عن تلك الفكرة وقرر المشاركة في جميع الأعمال بهدف اكتساب الخبرة ،وصقل الموهبة، وفرض الوجود، والوصول إلى مكانة تؤهله لفرض قناعاته.

ميخائيل رومان، والفريد فرج، وثروت أباظة، ورشاد رشدي

تحقق له ما أراد بعد أن صار فنانا معروفا، فأخذ ينتقد  الأعمال المسرحية التي تحمل قيما (رجعية) هدامة، ويعلن دون مواربة انحيازه للأعمال التي تعبر عن الناس وهمومهم ومشاكلهم وقضاياهم.. حتى حانت لحظة الصدام المتوقعة حين أصر على تقديم مسرحية «ليلة مصرع جيفارا» لميخائيل رومان، وكان الجميع حتى رئيس هيئة المسرح وقتها كان ضد تقديم هذا العرض.. تحدى أبو زهرة الجميع ووقف إلى جانب المؤلف والمخرج وساهم في اختيار الممثلين وقام بأدوار أخرى وشارك في العمل الذي خرج إلى النور رغم أنف الجميع.. وكان هذا الموقف بمثابة إعلان صريح عن فكر الفنان وتوجهاته لم ينسه مناصرو الرجعية الذين شكلوا رأس حربة الثورة المضادة وسيحسن هؤلاء استغلال هذا الموقف في عقد السبعينات للتنكيل بالفنان لإقصائه وإبعاده عن العمل المسرحي والتضييق عليه.

 (مسرح القهوة) تحايل علي المنع السياسيي

وهو ما جعله يقدم على تجربة بالغة الروعة والجمال هي «مسرح القهوة».

يحكي الفنان القدير عن إرهاصات هذه الفكرة فيقول: بينما كان زملائي في المعهد ممن جمعتني بهم نفس الظروف الاجتماعية غارقين في أحلام الثراء واقتناء السيارات، كنت أنا مشغولا جدا بأمور تتعلق بتغيير شكل الأداء في الفن، والابتعاد عن الميلودراما والمبالغة، وتقديم فن صادق مرتبط بالناس.. نعم لقد خفضت ثورة يوليو ثمن تذكرة المسرح لكن بقيت الطبقة المعدمة محرومة منه، والمسرح هو الفاعل الأهم في تشكيل الوجدان وتكوين الوعي.. المسرح لابد أن يكون مجانيا للجميع لأنه الأداة الأسمى لرسالة الفن الخالدة.. هكذا كان يفكر فناننا القدير في بداياته، وظلت تلك القناعات لديه إلى أن سنحت له الفرصة لإخراج مسرحية لفريق التمثيل بجامعة عين شمس في أوائل السبعينات.. كانت المسرحية بعنوان «السيد بونتيلا وتابعه ماتي لبرتولد بريخت» لقد حفل العرض بالكثير من الإسقاطات السياسية والتعرض المباشر لقضايا الجماهير، وموقف نظام السادات المراوغ من حرب التحرير.. كانت صدمة العميد وأعضاء هيئة التدريس كبيرة، وانسحبوا في الفصل الأول ثم صدر القرار بمنع «عبد الرحمن أبو زهرة» من دخول جامعة عين شمس.

عبد الرحمن أبو زهرة في مسرحية «عيلة الدوغري»

في صيف عام 1976، قدم «أبو زهرة» تجربته الرائدة «مسرح القهوة» من خلال نص مسرحي بعنوان «أنا أعترض» يناقش فكرة المنابر السياسية من خلال شخصية السياسي الانتهازي الذي يستطيع الدفاع عن الأفكار ونقيضها.. استعان الفنان بممثلين نصف معروفين وأقل، لكنهم خشوا بطش السلطة وانسحبوا تباعا ما اضطره للاستعانة بطلبة المعهد والعمال والطلبة ممن لديهم موهبة التمثيل.. واستمرت التجربة لفترة قاربت الشهرين بين عدد من مقاهي القاهرة، كان الحلم أن ينتقل عرض «مسرح القهوة» للمحافظات.. وقدم العرض في أحد مراكز الثقافة الجماهيرية ليلة مولد السيدة زينب بحضور 1500 متفرجا.. في هذا الليلة وضعت لافتة التجمع الوطني التقدمي الوحدوي.. فخاف البعض من إكمال التجربة وعتذر البعض فكانت نهاية «مسرح القهوة».

عبد الرحمن أبو زهرة يتحدث عن سبب منعه من التمثيل في فترة السبعينات

اضطر «أبو زهرة» خلال تلك الفترة الصعبة أمام التضييق أن يذهب للعمل في مسلسلات «دبي» واستديوهات «اليونان»  التي هيمنت علي  الدراما التليفزيونية المصرية وقتها وكان العمل من أجل الوفاء بالاحتياجات الأساسية للأسرة وليس لأي سبب آخر.

ورغم كل تلك المحاولات التي كان من الممكن أن تكسر إرادة أي فنان إلا أن «عبد الرحمن» استطاع تقديم أكثر من (150)عمل مسرحي يعتبر كثيرا  منها من العلامات الهامة في تاريخ المسرح العربي نذكر منها: بداية ونهاية، مصرع كليوباترا، صنف الحريم، اللحظة الحرجة، المحروسة، القضية، حلاق بغداد، الفرافير، المهزلة الأرضية، ياسين وبهية، سيرك يا دنيا، حلاوة زمان، زهرة الصبار، ليلة مصرع جيفارا، الجنس الثالث، عيلة الدوغرى، وعفاريت مصر الجديدة.. وغيرها.

في مسرحية «زهرة الصبار»

أعمال فناننا السينمائية قليلة جدا، ربما لا تتجاوز العشرين عملا، وربما أرجع الفنان ذلك إلى أنه لم يأخذ انطباعا جيدا عن السينما المصرية منذ البدايات عندما كانت تستخدم بصورة فجة في الدفاع عن طبقة الباشوات.. مشاهد تثير الرثاء للباشا نصير العمال الذي يعتبر منحه أجر نصف يوم للعمال على سبيل الصدقة، عملا ثوريا يستحق الإشادة والتهليل.

قدم الفنان القدير من خلال الدراما التليفزيونية أدوارا بالغة الروعة تجل عن الحصر في أكثر من مئتي عمل درامي من أهمها: جحا المصرى، عبد الله النديم، أميرة في عابدين، الدم والنار، الثعلب فات، عمر بن عبد العزيز، جمهورية زفتى، الوسية، الطريق إلى القدس، ليلة سقوط غرناطة، قلب بلا دموع، كلاب الحراسة، العمة نور، نحن لا نزرع الشوك، باقي من الزمن ساعة، سنوات الضحك والدموع، الكتابة على لحم يحترق، رحلات بن بطوطة، لن أعيش في جلباب أبى.. وغيرها.

في دور «إبراهيم سردينة» من مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي»

ومازال نهر العطاء متدفقا بالإبداع من خلال بعض الأعمال الدرامية إلى جانب ما يقدمه للأطفال من أعمال فنية يشارك فيها كـ «راوٍ» في تجربة فنية فريدة يقدمها نجله الموسيقي الموهوب أحمد ابو زهرة على مسرح الأوبرا بالتعاون مع كورال أطفال مصر الجديدة، وأوركسترا تولون الفرنسي لتقديم الأعمال الموسيقية الكلاسيكية العالمية للأطفال.

كان يا مكان – أداء عبد الرحمن أبو زهرة ومروة عاطف

في الحقيقة أننا لن نستطيع أن نوفي فنانا بحجم الفنان القدير عبد الرحمن أبو زهرة حقه مهما كتبنا عنه، فهو قيمة فنية وإنسانية ونضالية قلما توجد ونادرا ما تتكرر.. لكن هذا الشعور بالتقصير لا يمنعنا من أداء بعض الواجب تجاهه. 

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock