رؤى

التجريد من المواطنة، وسحب الجنسية.. معايير مكافحة الإرهاب هل ذهبت أبعد مما ينبغي؟

لورا فان واس – المدير المشارك في «معهد دراسة التجريد من الجنسية والإدماج»، وهو أحد تنظيمات المجتمع المدني التي تكرس جهودها لحماية الحق في الجنسية في بريطانيا.

عرض وترجمة: أحمد بركات

على مدى أسابيع في بداية عام 2019، أصبحت شميمة بيجوم اسما ذائعا ومألوفا. لم يكن ذلك بسبب وضعها البائس وأعمالها الصادمة التي فاقت أوضاع وأعمال نظيراتها من «نساء داعش»، وإنما بسبب مناشدتها العلنية من أجل المساعدة في العودة إلى الوطن، ثم الرفض القاطع من قبل حكومتها وسحب جنسيتها. منذ ذلك الحين أصبحت قضية بيجوم ضيفا رئيسا على العناوين الرئيسة في وسائل الإعلام، التي تابعت باهتمام مولد ثم وفاة طفلها الثالث في مخيم الحول في سوريا، ورصدت بشغف معركتها لاستعادة جنسيتها البريطانية من جديد.

شميمة بيجوم

أثارت قضية بيجوم جدلا صاخبا، برغم أنها لا تمثل سوى قضية واحدة من عدد متزايد من نماذج استغلال سياسة التجريد من الجنسية كوسيلة لمجابهة ما يطلق عليه ظاهرة «المقاتلين الأجانب» في داعش. ربما تكون أسباب هذا الجدل واضحة من المنظور الحقوقي؛ فبيجوم كانت لا تزال طفلة في الخامسة عشر من عمرها عندما تم تجنيدها وعندما سافرت إلى سوريا، حيث غدت عروسا وجنديا لم يشب بعد عن طوق الطفولة. كما أنها كانت تحت تأثير صدمة إنسانية مروعة عندما ناشدت حكومة المملكة المتحدة السماح لها بالعودة إلى الوطن، وكانت مثقلة بحَملها في الشهور الأخيرة، إضافة إلى صعوبة العيش في أوضاع المخيم البائسة، مما أثار سؤال المسؤولية تجاه المولود القادم. وكان من شأن أي مقاربة إنسانية حقوقية لهذه الحالة أن تسير في اتجاه منحها الحماية، وأن ينصب التركيز بعد ذلك في اتجاه العدالة التصالحية وإعادة دمجها في المجتمع. 

ولكن، بدلا من ذلك، ارتأت حكومة المملكة المتحدة تجريد بيجوم من جنسيتها والتنصل بذلك من أي مسئولية تتعلق بحماية حقها في الحياة، أو بالأحرى حقها في التحقيق معها ومحاكمتها. وقد ترتب على ذلك الكشف عن التصدعات الأولى في هذا السعي الأعمى وراء «الأمن»، أو «العدالة الرمزية»، فإذا كانت بيجوم إرهابية، وتطلب من حكومتها إعادتها إلى بلدها، بما يعنيه ذلك من محاكمتها وإدانتها في الغالب، فلماذا إذا لا يكون لهذا الأولوية الأولى؟

تصدير المخاطر

واجهت عملية سحب الجنسية من الأفراد المتورطين في أعمال إرهابية، أو المشتبه في تورطهم في مثل هذه الأعمال، انتقادات حادة باعتبارها تنطوي بالأساس على «تصدير للمخاطر»، وهو ما يخالف قرارات مجلس الأمن التي تطالب الدول بالتحقيق في الإرهاب وملاحقته قضائيا من خلال أطر العدالة الجنائية المعمول بها في هذه الدول. وإجمالا، فيما يتعلق بكيفية التعامل مع مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فقد أوضح المؤيدون للعودة المنظمة أن «الحكومات الأوربية لديها من الموارد ما يؤهلها للتعامل مع هؤلاء الأفراد من خلال المقاضاة، أو المراقبة، أو إعادة الدمج، بحسب مقتضى الحاجة».

لقد تخلت حكومة المملكة المتحدة عن إحدى مواطناتها، وتركتها في بلد لا يملك أي قدرة على تقديمها للعدالة، أو أي إمكانية لإعادة تأهيلها. كما يشكل الحرمان من الجنسية في جوهره «عائقا أمام المساءلة والعدالة، حيت تم إلغاء الارتباط بمبدأ الجنسية النشطة، الذي يمثل أحد الشروط الرئيسة لممارسة الولاية القضائية الجنائية»، كما يفسر البروفيسور مارتين شاينين، والدكتور كريستوف بولوسن.  

«المشردون في العالم.. الحرمان من الجنسية»

علاوة على ذلك، فقد لفتت الإدانة العلنية لشميمة بيجوم من قبل حكومتها انتباه وسائل الإعلام العالمية إلى درجة غير مسبوقة، فإذا كانت بيجوم عازمة بالفعل على تنفيذ أي جرائم، فإن تجريدها من جنسيتها لا يزيدها إلا إصرارا على الاستمرار في مسارها المنحرف بدلا من تحويلها إلى عنصر آمن لا يحمل التهدِيد لمجتمعها. في هذا السياق يصعب تجاهل التحذير الذي أطلقه الدكتور ديفيد ماليت بناء على سابقة تاريخية عندما «منعت دول عربية الجهاديين من العودة من أفغانستان في تسعينيات القرن الماضي، مما أدى إلى إطلاق موجات المقاتلين الأجانب في مناطق الحروب، وانتشار ظاهرة الدول الفاشلة في مناطق مختلفة من العالم. ويمثل أسامة بن لادن أحد النماذج الهامة التي تدل على حماقة سياسة تجريد مقاتل أجنبي من جنسيته».  

أسامة بن لادن

بينما تطنطن الدول حول الفعالية المشكوك فيها والفعالية المضادة المحتملة للحرمان من الجنسية كأداة لحماية الأمن القومي، فإنها تتجاهل أيضا التداعيات الأكبر التي ينطوي عليها نهج تجاوز الحدود الإقليمية لمكافحة الإرهاب على سلامة النظام القانوني الدولي، حيث يمثل سحب الجنسية بهدف ترك مواطن سابق (يدعى أنه خطير) لمواجهة مصيره في دولة يجد نفسه فيها انتهاكا للأمن القومي لدولة أخرى. ومن المفهوم أن واجب الدولة في (إعادة) الاعتراف بمواطنيها يشكل «وسيلة حيوية لتنظيم التعايش بين الكيانات ذات السيادة»، ولا يجب أن تستخدم الدولة سحب الجنسية كوسيلة للالتفاف على هذا الواجب.

يمثل ذلك منزلقا خطيرا في الواقع، فإذا نشرت بعض الدول تكنيك إبعاد أي تهديد للأمن القومي عن طريق تجريد المواطنين الذين انضموا إلى تنظيمات إرهابية من جنسياتهم أثناء وجودهم في الخارج، فماذا يمكن أن يمنع الدول الأخرى من التنصل من واجباتهم تجاه إعادة الاعتراف بمواطنيهم غير المرغوب فيهم. وعلى سبيل المثال، لنا أن نتخيل حجم التأثير الذي يمكن أن يتركه ذلك على حرية التنقل على مستوى العالم إذا فقدت دولة مستقبلة قدرتها على إعادة المهاجرين الذين انخرطوا في سلوك إجرامي وانتهكوا شروط أوضاعهم كمهاجرين.

ماذا يعني ذلك بالضبط؟

سواء رأينا شميمة بيجوم كعروس صغير وجندي صغير (سابق) مواطن يتطلب وضعه أن تتوفر له الحماية والعدالة التصالحية وإعادة الدمج الاجتماعي، أو كمجرم تتطلب أفعاله الملاحقة القضائية، أو كتهديد أمني يتعين إحباطه، فإن تجريدها من جنسيتها لا يساعد في تحقيق أي من هذه الأهداف. وفي ظل غياب هدف مشروع يسهم الحرمان من الجنسية في تحقيقه، تبقى ضرورة هذا الإجراء محل شك.

يثير الأمر قضايا أكثر تعقيدا عندما يتم دراسة هذا القرار من منظور مطابقته للقانون الدولي. كما هو منصوص عليه في «مبادئ الحرمان من الجنسية كإجراء للأمن القومي»، فإن «الحق في الجنسية هو حق أساسي من حقوق الإنسان يحظر معه الحرمان التعسفي منها». ويعد سحب الجنسية دون استيفاء شرط الضرورة، بحسب هذا التعريف، إجراء تعسفيا. وينطبق هذا أيضا على التجريد من الجنسية القائم على التمييز، أو التجريد من الجنسية الذي ينتج عنه انعدام الجنسية، أو الذي يؤدي مباشرة إلى خرق حقوق أخرى، أو الذي يتم تنفيذه دون مراعاة للأصول القانونية. 

«مبادئ الحرمان من الجنسية كإجراء للأمن القومي»

في خضم ’الحمى التشريعية‘ لمكافحة الإرهاب، قامت العديد من الدول بسهولة شديدة بتوظيف سياسة التجريد من الجنسية بحجة حماية الأمن القومي، وتجاهلت الضمانات التي نص عليها القانون الدولي كشروط أساسية لحماية منظومة المواطنة من الانتهاك. وبالتالي فإن هذا الإجراء يمثل انتهاكا ليس فقط من المنظور الحقوقي الذي يثير هذا الإجراء في إطاره العديد من المشكلات، وإنما ايضا من منظور أمني، حيث يمثل مصدر قلق متزايد.

في تقرير صدر مؤخرا، أقرت «لجنة الرقابة الهولندية» بأنه «من غير المؤكد ما إذا كان هذا الإجراء سوف يحدث التأثير المطلوب»، مشيرة إلى أن جهاز الاستخبارات العامة والأمن قد أفاد بأن التجريد من الجنسية «لا يزيل الخطر (المحتمل) الذي قد يحوله الشخص إلى خطر حقيقي، وسيظل على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية مواصلة العمل للتحقق من حجم التهديدات التي قد يفرضها هذا الشخص». وبينما تناضل شميمة بيجوم وكثيرون غيرها في ساحات المحاكم لاستعادة جنسياتهم في المملكة المتحدة وهولندا وأستراليا ودول أخرى، فإن ثمة حاجة إلى إعادة تقييم هذا التجاوز بصورة شاملة، ليس فقط على مستوى الحالات الفردية، وإنما أيضا على مستوى المشروعية والحكمة السياسية بوجه عام.  

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock