رؤى

جون لويس صاحب الجمهورية الثالثة الأمريكية التي يهدمها الآن العنصريون البيض

آدم سيرور – كاتب سياسي في مجلة The Atlantic

عرض وترجمة: أحمد بركات

كانت ألاباما التي ولد فيها جون لويس في عام (1940) ولاية استبدادية ذات حزب واحد. فقبل مولده بأربعة عقود، كانت النخبة البيضاء في ألاباما، التي أصيبت بمس من ذعر جراء ثورة شعبية قام بها العمال البيض والسود، قد قررت عزل السود تماما عن الحياة السياسة، وألقت بهم في أتون حملات مدبرة بتهم الإرهاب والاحتيال والجريمة وأخيرا مصادرة الحقوق.

جون لويس

«كان علينا القيام بكل هذه الافعال ضدالسود -لسوء الحظ -أقول إنها كانت ضرورة. لم نستطع منع أنفسنا»، كما اعترف وليام أوتس، حاكم ولاية ألاباما. وفي عام 1901، أعلنت صحيفة Montgomery Advertiser أنه في ظل دستور الولاية الجديد، «تم استئصال <قرحة> حق الزنوج في الاقتراع من جسد الكومنولث». وانتشر هذا التطهير الجماعي الشامل للنظام السياسي من الأمريكيين السود في جميع أنحاء الجنوب، حيث أسس الحزب الديمقراطي لنظام أبيض عنصري متشدد لا تلين له قناة ولا يشق له غبار.

ومع مولد لويس، كان معظم الأمريكيين السود يعيشون في جمهورية بيضاء، يُدفعون فيها دفعا بكل وسائل العنف والعرف والقانون إلى حمأة الفقر المدقع ومصادرة الحقوق والحرمان من شتى الحقوق المدنية والسياسية. في هذا السياق، حرم أكثر من ثلث سكان ألاباما – التي ولد فيها لويس – من حقهم في التصويت.

«عندما كنت طفلا، كانت فكرة الهروب من الحدود التي فرضت علي تضطرم في صدري»، كما كتب لويس في مذكراته Across That Bridge (عبر ذلك الجسر) التي نشرت في عام 2012. «كمواطن تنتقص حقوقه ويتوق إلى التغيير، وكطفل وُلد في الجانب المظلم من الحلم الأمريكي، كنت أصيخ السمع إلى همهمات الروح التي تدعوني إلى النضال بروح الدولة». كان لويس يرغب في أن يكون قسا. وكما كتب المؤرخ ديفيد هالبرتسام في كتابه The Children (الأطفال)، «كطفل، مارس لويس الوعظ على الدجاج … كان لويس يقوم بهذا الدور في تزويج الدجاج وتوليدها وتعميدها وتشييعها؛ وكان الدجاج بالمعنى الحرفي للكلمة رعيته الحقيقيين».

وفي سعيه وراء هذا الطموح، انتقل لويس إلى ناشفيل، تينيسي، في عام 1957، حيث التقى برفيق كفاحه سي تي فيفيان، وغيره مثل جيمس لوسون، ، وديان ناش، وجيمس بيفيل، وبيرنارد لافاييت، وماريون باري، وقادوا معا حركة جديدة تستخدم تكتيكات اللاعنف كان من شأنها أن غيرت أمريكا والعالم. في هذا السياق كتب هالبرتسام: «قال فيفيان إن الأمر كان كما لو أن الله لدية خطة، حشد على إثرها هذا الجمع من الأفراد غير العاديين، من ذوي القوى الخاصة والرؤى المتفردة، في مكان واحد وزمان واحد». وقبيل أيام، في 17 يوليو، مضى كل من تي سي تي فيفيان وجون لويس إلى الخلود، تاركين خلفهما ذكريات لا تقدر بثمن، وحكمة اكتسباها من نضال لم يخب يوما من أجل العدالة.

سي تي فيفيان

كان فيفيان، القس والصحافي والزعيم الشعبي، من سكان الشمال، لكنه كان ناقما على الأعراف الجنوبية التي نشأ فيها لويس. ذات مرة، في عام 1965، بعد مقاطعة الحافلات في مونتجمري – كما يروي هالبرتسام – رفض فيفيان الجلوس في القسم المخصص للسود في حافلة ناشفيل، مما دفع بالسائق إلى إنزال الركاب واقتياد فيفيان إلى قسم الشرطة، حيث أقر  رجال الشرطة هناك بأن الجلوس في القسم المخصص للبيض لم يعد عملا مخالفا للقانون. كان فيفيان أيضا متمرسا في إقامة الاعتصامات قبل أنيلتقي لويس في ناشفيل، والذي شارك في عدد منها، مثل اعتصام مطعم في إلينوي في عام 1947.

وفي عام 1959، بدأ لويس وفيفيان وآخرون بهدوء اختبار الاعتصامات، والدخول إلى المنشآت المحظورة على السود، والسؤال حول أسباب مصادرة حقوقهم في الحصول على الخدمات التي تقدم دون الامتناع عن المغادرة. وفي عام 1960، بعد أيام من قيام مجموعة من الطلاب السود في جرينسبورو، بولاية نورث كارولينا، باحتجاجهم الشهير في أحد مطاعم وولورث، بدأت حركة ناشفيل بحماسة شديدة بمظاهرات في مطاعم وسط المدينة والمتاجر. وفشل العنف / وحملات القبض الجماعي /والتفجيرات في وقف الحركة. ومع ارتفاع وتيرة القمع، ازداد زخم الحركة واكتسبت القضية مزيدا من الأنصار. وبعد شهرين، بدأت ناشفيل في إلغاء نظام الفصل العنصري في منشآتها العامة، وكانت بذلك أولى المدن الكبرى في الجنوب انتهاجا لهذه السياسة.

ويشرح فيفيان لاحقا أسباب استهداف منشآت بعينها: «لم تكن ثم إهانة أكبر من محطات الحافلات، حيث يتعين عليك الانتظار في الخلف، ويهرب السائقون بحافلاتهم من دونك، ويسرق آخرون أموالك، وقد يلقى القبض عليك … أما المكان التالي، فكان المطاعم؛ لم يكن بإمكانك تناول الطعام في وسط المدينة. زوجتك وأطفالك وأنت … وكنت دائما تشاهد آخرين قادرين على تفهم النتائج الطبيعية للعيش في مجتمع ديمقراطي، أما أنت فلا تستطيع المشاركة».

لم تكن هذه الجهود لإلغاء الفصل العنصري في المنشآت العامة والشركات شائعة. وكان كثير من الأمريكيين البيض حانقين على محاولات حلحلة الوضع القائم، حيث كان النشطاء مثل لويس وفيفيان يمثلون حالة سخط دائم على القيادة السياسية الأمريكية التي كانت ترغب في تهدئة الحراك الأسود الغاضب دون إحداث أي تغيير جذري في بنية المجتمع الأمريكي. لكن هذا الخداع لم يكن لينطلي على قادة الحركة.

«بينما كنا نشارك في احتجاج تلو احتجاج، وفي اعتصام تلو اعتصام … وكنا نُضرب بالهراوات، وتدهسنا الخيول، وتطاردنا الكلاب، لم يكن ذلك يفت في عضد إيماننا بالقضية، كما يحدث اليوم؛ إن النظر إلى التاريخ غالبا ما يثير دهشتنا»، كما كتب لويس في مذكراته. وأضاف: «لم يتراجع الدعم الشعبي لنشاطاتنا بسبب العنف الغوغائي ووحشية الشرطة، وإنما ازداد، وبدا الأمر وكأنه كلما ازدادت ضراوة الظلم، ارتفعت حدة المطالبة بالتغيير».

بحكم ما جرت به العادات، يشير الكُتاب إلى رجال من أمثال لويس وفيفيان باعتبارهم ضمن «أيقونات الحقوق المدنية». لكن هذا يهون من حقيقة أدوارهم. لقد كانا ورفاقهما قادة لثورة غير مكتملة أعادت صياغة المجتمع الأمريكي. ولو اتبع الأمريكيون النموذج الفرنسي، لاستمرت الجمهورية الأمريكية الأولى، التي أسسها جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وآخرون، من 1776 إلى 1861، عندما وجهت الكونفدرالية أسلحتها صوب حصن سمتر. لقد تأسست الجمهورية الأمريكية الثانية التي ألغت العبودية، ونص دستورها على المساواة، بأمثال ابراهام لينكولن ويوليسيس جرانت وفريدريك دوجلاس. أما الجمهورية الأمريكية الثالثة، والوحيدة التي اقتفت بصدق أثر وعود «إعلان الاستقلال»، والمحاولة الحقيقية الأولى لإرساء الديمقراطية المتجاوزة للون في التاريخ الأمريكي فقد تأسست على يد قادة وقادات من أمثال فيفيان ولويس وديان ناش وكوريتا سكوت كينج، وغيرهم. كان هؤلاء ضمن جيل ثالث من القادة الأمريكيين الذين رفعوا من شأن كلمات المؤسسين في عام 1776، ودفعوا بالبلاد لتقرر أن هذه المثل تعني شيئا ما. لقد أعاد «قانون حق التصويت» و«قانون الحقوق المدنية» صياغة أمريكا إلى شيء غير مسبوق في تاريخها، واقتربا بها إلى النموذج الذي تصورته عن نفسها.

لقد امتد العمر بكل من لويس وفيفيان بما يكفي ليريا ثورتهما آخذة في الانهيار، حيث أعاقت – أو ربما قلبت رأسا على عقب – ثورة مضادة قانونية منضبطة، وقومية بيضاء متصاعدة – خاصة مع وصول ترامب للبيت الأبيض – مسار التقدم الذي ضحى كل من لويس وفيفيان من أجله. لكن لويس لم يفكر يوما في أن نضاله سينتهي. «يجب أن نقبل بحقيقة  مركزية واحدة كمشاركين في الديمقراطية، وهي أن الحرية ليست حالة جامدة، وإنما عمل دؤوب … إنها ليست حديقة غناء تبرز فوق رابية مرتفعة يمكننا  في نهاية المطاف أن نفترش بساطها ونستريح من وعثاء الرحلة»، كما كتب لويس.

الرئيس الأمريكي السابق «باراك أوباما» يمنح «جون لويس» وسام الحرية

يمكن الآن للويس وفيفيان أن يستريحا، ويبقى الأمر متروكا للأمريكيين في تمجيد نضالهما باستكمال ما بدءاه، وبالمحافظة على غرس الديمقراطية بكل ما أوتوا من قوة.

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock