رؤى

العقد الاجتماعي الأمريكي مسمم بالعنصرية والانحياز ضد الفقراء

إدواردو بورتر – مراسل اقتصادي في صحيفة New York Times، ومؤلف كتاب American Poison: How Racial Hostility Destroyed Our Promise

عرض وترجمة: أحمد بركات

يقدم مقتل جورج فلويد الأمريكيين في صورة باتت شبه معتادة من فرط تكرارها باعتبارهم ضحية لنظام عدالة جنائية يقوم على حماية البيض من السود. لكن الاحتجاجات التي اجتاحت البلاد خلال الأسابيع الماضية على خلفية مقتل رجل أسود على يد شرطي أبيض خارج نطاق القضاء كانت لحظة تاريخية. ربما كانت هذه هي اللحظة التي أدرك عندها الأمريكيون مدى توغل العنصرية في عقدهم الاجتماعي، أو – كما وصفها الرئيس السابق باراك أوباما – اللحظة التي قد تقود إلى “الصحوة”.

جورج فلويد

ربما أدرك الأمريكيون أخيرا كيف شوه العداء العنصري أولوياتهم بما يتجاوز قضية العنصرية ذاتها، وكيف بات مؤسسيا في العقد الاجتماعي لبلدهم بما يسمح لأمريكيين  بالاحتفاء بتكوين ثروة عظيمة وغير مسبوقة بجوار تفشي الحرمان عند أمريكيين أخرين على نطاق يمثل عارا على أي دولة متقدمة أخرى.

ففي أحد التصنيفات الدولية للفقر، تحتل الولايات المتحدة مرتبة متدنية للغاية بين الدول الصناعية في “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” (OECD).

كما تأتي أيضا في القاع، أو قريبا من ذلك على أحسن تقدير، في الأمراض التي يمثل الفقر سببا مباشرا فيها.

وتعاني من أعلى معدلات حمل المراهقات بين الدول المتقدمة، حيث يعيش طفل من كل أربعة أطفال مع أحد الوالدين.

وباستثناء شيلي والمكسيك وتركيا، تعاني الولايات المتحدة من أكبر نسبة على الإطلاق في دول “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” في موت الأطفال الرضع الذين يولد أغلبهم لأمهات فقيرة وملونة.

لماذا تسمح الولايات المتحدة باستمرار هذا النوع من الحرمان، وهي الدولة الغنية، وربما الأغنى على الإطلاق في تاريخ العالم؟

يميل الأمريكيون إلى أن يلقوا باللائمة على العولمة والتغيرات التكنولوجية التي دمرت الأسر العاملة. لكن العولمة والتكنولوجيا حلتا بالجميع؛ بالألمان والفرنسيين الكنديين واليابانيين، ولم ينهر  سوى المجتمع الأمريكي.

يرجع السبب في ذلك إلى عدم اهتمام الولايات المتحدة ببناء ضمانات الحماية الاجتماعية التي وضعتها الدول المتقدمة الأخرى لحماية أولئك الذين وقعوا في الجانب الخطأ من التغيرات التي جلبتها العولمة والتكنولوجيا.

قررت أمريكا البيضاء التي حظيت بالسلطة السياسية منذ ميلاد الدولة أنها إذا كان عليها أن تشارك شبكة الأمان الاجتماعي مع أناس على الجانب الآخر من الخط العرقي والإثني، فإنها تفضل أن تفعل ذلك دون إجراء واحد. وفي كتابه When Work Disappears (عندما يختفي العمل”، يحدد عالم الاجتماع البارز، وليام جوليوس، هذا الإجراء بشكل سافر: “يعارض دافعو الضرائب البيض سياسات ((ما يعرف بدولة الرفاهية))لأنهم يرون أنفسهم مجبرين من خلال الضرائب، على دفع ثمن ما يقتنيه السود. ويمكن أن نعزو ظواهر السجون المتخمة والرجال العاطلين والأمهات العازبات وموت الأطفال حديثي الولادة في الولايات المتحدة إلى هذه ( المعارضة) او الحقيقة الاستثنائية”.

عندما نجحت الولايات المتحدة في تحقيق قفزتها الليبيرالية الكبرى في ثلاثينيات القرن الماضي عبر سياسات  دولة الرفاهية والروح الكينزيةللخروج من الكساد الكبير .. التي تضمنتها برامج واستراتيجيات “الصفقة الجديدة” التي وضعها الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت : قامت  العنصرية بوادها في مهدها.

ففي عهد الرئيس روزفلت، حصل العمال على الحد الأدنى للأجور، والتأمين ضد البطالة، وحق تشكيل الاتحادات، وتنظيم الإضرابات، والمشاركة في التفاوض الجماعي.

وحصل الأفراد الأكبر سنا على معاشات الضمان الاجتماعي. لكن اتضح أن كثيرا من سياسات “الصفقة الجديدة” أنما تم تصميمها لخدمة مصالح البيض، سواء على مستوى الصياغة، أو على مستوى الممارسة.

الرئيس روزفلت

في هذا السياق، رفضت “إدارة الإسكان الفيدرالية”، التي أنشئت في عام 1934 لتأمين قروض الرهن العقاري للأمريكيين ذوي الإمكانات المحدودة، ان تدعم القروض في الأحياء التي يغلب عليها السود، مما أدى عمليا إلى تكريس  الفصل العنصري في أمريكا (الحضرية).

وسمحت قوانين العمل، التي تم وضعها من قبل “إدارة الإنعاش الوطني” بداية من عام 1933، للشركات بتقديم أول امتيازات في الوظائف للبيض، ففرضت  رواتب أقل للسود. كما استبعد “الضمان الاجتماعي” (الذي تم إنشاؤه في عام 1935)، و”قانون معايير العمل العادلة” في البداية المهن المنزلية والزارعية، والتي كان يغلب عليها السود بمعدل 2 من كل 3 عمال.

وبعد ثلاثة عقود، عندما فتحت حركة الحقوق المدنية ’امتيازات‘ “الصفقة الجديدة” للملونين، انهار الإجماع السياسي الذي دعم سياسات الرفاهية في الولايات المتحدة. ولم تتحول برامج Medicare وMedicaid الحكومية التي استلهمت أخلاقيات “الصفقة الجديدة” إلى قانون إلا في عام 1965، أي بعد عام واحد من تمرير “قانون الحقوق المدنية”.

وفي العام نفسه، اقترح الرئيس ليندون جونسون على الأمريكيين “الحرب على الجريمة”، التي حولها خليفته، ريتشارد نيكسون، إلى خريطة إرشادية لسياساته الاجتماعية. وعلى مدى نصف القرن التالي، أصبح نظام العدالة الجنائية – وليس دولة الرفاهية – الأداة المفضلة للولايات المتحدة للإدارة الاجتماعية.

                       ليندون جونسون                                                                   نيكسون 

ربما كانت الولايات المتحدة غير قادرة على حماية الفئات الضعيفة من الصدمات التي جلبتها البيئة العالمية الموغلة في التعولم، ولكنها كانت قادرة على أن تغلق عليهم. لقد أصبح السجن، كما قال عالم الاجتماع بروس ويسترن، “ملاذا أخيرا لمجموعة كاملة من الإخفاقات الاجتماعية للنظام الامريكي كما “أصبح نظام العدالة الجنائية هو  المؤسسة الفاعلة الوحيدة التي يمكنها أن تفرض النظام وتدير المجتمعات الحضرية”، كما قال ديفا بيجر.

تم توجيه نظام العدالة الجنائية الأمريكي بشكل مباشر نحو  استهداف السود، تماما كما استهدفت سياسات الرفاهية البيض منذ فترة طويلة. واليوم، يقبع حوالي مليون أفرو أمريكي خلف القضبان. وبرغم أن هذا الرقم يشكل (13% )من إجمالي عدد السكان الأمريكيين، إلا أن السود يشكلون (40% ) من الأعداد المتضخمة من الرجال والنساء داخل السجون والمرافق الإصلاحية الأخرى.

يرجع السبب في ذلك، بطبيعة الحال، إلى أن العدالة الجنائية تمثل بالأساس أداة سياسية. ففي ستينيات القرن الماضي، لجأ الديمقراطيون الجنوبيون [ القسم المحافظ تقليديا في الحزب ] إلى “القانون والنظام” كصرخة حاشدة من أجل استعادة ولاء البيض الذي فقدوه بعد تمرير “قانون الحقوق المدنية”. وفعل الجمهوريون الذين كانوا يطمحون في انتزاع الطبقة العاملة البيضاء من قبضة الديمقراطيين الأمر نفسه. وباتت “الجريمة”  -وليس الحاجة الي العدل – هي كلمة السر في الاضطرابات العنصرية.

يوجد شيء مثير للسخرية بشأن العقد الاجتماعي الأمريكي المنمق. فالعداء العنصري الذي حاصر الملونين بقصر سياسات الرفاهية على البيض انتهى به المطاف بمحاصرة البيض أيضا. فمعدل وفيات الأمهات من السود يزيد ثلاث أضعاف عن المعدل نفسه بين الأمهات البيض. رغم ذلك، من بين كل 100 ألف حالة ولادة، لقيت تقريبا 13 امرأة أمريكية بيضاء حتفها بسبب مشكلات مرتبطة بالحمل في عام 2014، ويزيد هذا عن أربعة أضعاف المعدل في هولندا، وثلاثة أضعاف المعدل في ألمانيا، و ستة أضعاف المعدل في أسبانيا.

ويتمتع الأمريكيون البيض بمتوسط أعمار أكبر من الأمريكيين السود. لكن الطفل الأمريكي الأبيض المولود في عام 2018 سوف يموت قبل نظيره في ألمانيا والدنمارك واليونان والبرتغال بعامين على الأقل، وقبل نظيره في كوريا الجنوبية وفرنسا وأستراليا بثلاث سنوات على الأقل، وقبل نظيره في اليابان بخمس سنوات على الأقل.

ويوجد حوالي [20 ] مليون أمريكي أبيض غير متحدث بالأسبانية [ لاينحدر من اصول لاتينية ]  فقير، وهو ضعف عدد الفقراء الأفرو أمريكيين . وكمجموعة، يشكل هؤلاء جميعا المستفيد الأكبر من الإنفاق الحكومي على البرامج الاجتماعية. وفي عام 2014، استفاد 6.2 مليون أمريكي أبيض من غير الحاصلين على شهادات جامعية من الإعفاءات الضريبية وبرامج المساعدات الحكومية، مقارنة بـ 2.8 مليون أمريكي أسود و 2.4 مليون غير متحدث بالأسبانية من خلفيات تعليمية مماثلة.

ومؤخرا، وضع نظام العدالة الجنائية البيض المهمشين أيضا نصب عينيه. فأقل من 0.5% من البالغين البيض في السجون، مقارنة ب2% تقريبا من الأمريكيين السود. رغم ذلك، فإن نسبة الأمريكيين البيض القابعين في السجون ليست فقط أعلى من مثيلتها من المسجونين في الديمقراطيات الغربية الأخرى، مثل فرنسا وألمانيا، وإنما أيضا في دول تحكمها أنظمة قمعية مثل الصين وروسيا وإيران.

هل تستطيع الولايات المتحدة أن تخرج نفسها من [الديستوبيا] الاجتماعية التي خلقها عداؤها العنصري المتجذر؟ وهل تثير موجة الغضب التي تجتاح شوارع أمريكا الحضرية نوع التغيير الذي يمكنه أن يبني دولة أكثر تعاطفا؟

يأمل الأمريكيون أن تكون بلدهم قادرة على صياغة عقد اجتماعي شامل يعيد تعريف مفهوم التيار الرئيسي في أمريكا ليشمل جميع الأمريكيين. لسوء الحظ، لا يقدم التاريخ سابقة مبشرة. فكما هو الحال اليوم، قبل نصف قرن من الزمان، هزت أعمال شغب يغذيها غضب عنصري أمريكا الحضرية. ففي الشهورالتسعة الأولى من عام 1967، اندلعت مواجهات عنيفة، بلغ عددها 164 مواجهة، بين قوات الشرطة وأمريكيين سود في مدن في جميع أنحاء البلاد. وفي أبريل 1968، في أعقاب اغتيال مارتن لوثر كينج، اندلعت احتجاجات عنيفة مرة أخرى في عشرات المدن الأمريكية.

وقد بحث عمر واسو، أستاذ مساعد العلوم السياسية في جامعة برينستون، التأثير السياسي للاحتجاجات التي أعقبت اغتيال كينج، وخلص إلى أن أعمال الشغب قد دفعت بالعديد من الأمريكيين البيض المعتدلين الذين كانوا يؤيدون الحزب الديمقراطي إلى التصويت لصالح الرئيس نيكسون في انتخابات الرئاسة في نوفمبر التالي.

وأعقب ذلك  نظام الحرب على الجريمة، مما أدى إلى استمرار عقد اجتماعي مسمم بأدوات جديدة. ومع اقتراب موعد الانتخابات في نوفمبر القادم، لن يكون مستغربا أن يصوت كثير من الأمريكيين البيض لصالح شيء  مماثل  [ محافظ لا يريد استئصال العنصرية ] مرة أخرى.

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock