رؤى

إعادة التفكير في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب (1 – 4)

عرض وترجمة: أحمد بركات

بينما يجتاح المتظاهرون شوارع الولايات المتحدة للتنديد بالعنصرية والظلم الاجتماعي وعنف الشرطة، وبينما يكافح العالم للخروج من نفق كورونا المظلم، يتحدث كثيرون عن ضرورة تحديث تعريف مفهوم الأمن القومي. فالتهديدات التي تواجهها واشنطن لا تقاس – ولا تُواجه -فقط بالصواريخ والدبابات والطائرات المسيرة والإرهاب، وإنما بعدم المساواة العرقية والمرض والفقر والتغير المناخي. في ضوء ذلك، يجب أن تدفع هذه الأوضاع بالولايات المتحدة إلى تطوير استراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب، أو – على اقل تقدير – تحديث استراتيجيتها الراكدة والتي عفا عليها الزمن، إضافة إلى – وهو الأهم على الإطلاق – وضع معايير جديدة للنجاح.

إن المشهد الحالي يختلف في تفصيلات كثيرة عن ذلك الذي استيقظ عليه الأمريكيون في 11 سبتمبر 2001. إنه الآن مزيج معقد من القوى الخارجية والداخلية المتأثرة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تولد التطرف. وينحسر هذا التطرف ويتمدد – فيما يشبه حركة المد والجزر – عبر الفضاءين المادي والسيبراني، بحسب المنافسات والسباقات بين القوى العظمى. وتخلق هذه الديناميكية حدودا جديدة، وتلعب مع جميع الأطراف متعددة الأقطاب، سواء كانت دول أو جهات فاعلة غير خاضعة للدولة، كما هو الحال في سوريا والعراق ولبنان وليبيا وأفغانستان، على سبيل المثال لا الحصر.

وبينما لم يكتف تنظيم القاعدة والجماعات الموالية له وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بإبداء مرونة كبيرة، والحفاظ على قوتهم خلال حروب استنزاف مضنية، والتكيف مع المستجدات بما يضمن لهم العودة والنمو والتطور على نحو أسلس، بقيت استراتيجية الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب على حالها دونما أي تغيير، تخوض بها حروب الأمس غير واعية بمخاطر اليوم، سواء الجاثمة على صدرها الآن، أو التي تلوح في الأفق القريب.

أحداث 11 سبتمبر
أحداث 11 سبتمبر

الاستراتيجية الوقائية والتعويل على الانتصارات السريعة

ركزت الاستراتيجية الأمريكية منذ أحداث 11 سبتمبر على الاستباقية، حيث تعقبت وشنطن الجماعات الإرهابية في الخارج قبل أن تقوم هذه الجماعات بمهاجمتها إلى الداخل. ومنحت الولايات المتحدة الأولوية للتخلص من القيادات الإرهابية عبر ضربات حركية بالغة الدقة في عمق ملاذاتهم البعيدة، والتي كان من المفترض أن تكون مسرحا للتخطيط والتوجيه والتمويل والتدريب والإمداد بالسلاح والمعدات لهؤلاء الذين سيضطلعون بتنفيذ الهجمات في الداخل الأمريكي. كانت هذه الطريقة مناسبة تماما للتعامل مع تنظيم شبكي يقوم على الإدارة المركزية، كما هو الحال بالنسبة لتنظيم القاعدة في عام 2001.

وإذا اعتمدنا معيار التأثير على قيادة التنظيم وعلى قدرتها على تنفيذ هجوم جديد على نسق هجوم 11 سبتمبر، فقد حققت هذه الاستراتيجية نجاحا لافتا، حيث أدت الضغوط المتوالية ضد الإرهاب (وهو التعبير الأمريكي الأكثر لطفا عن الغارات الجوية التي استخدمت فيها سلاح الطائرات بدون طيار) إلى القضاء على القيادة العليا الاساسية لتنظيم القاعدة، ومنع التنظيم من توجيه وإدارة عمليات فاعلة في جميع أنحاء العالم، وإجباره على التزام مواقف دفاعية. كما أن التقييم الذي يؤكد أن القادة الإرهابيين الموتى غالبا ما يصطحبون معهم إلى مدافنهم مخططاتهم والجهات التي كانوا يتواصلون معها لا يخلو من حقيقة.

ومع ذلك، فإن الجانب السلبي في هذه الاستراتيجية يتمثل في قصر النظر الأمريكي في قراءة قدرة هذه الجماعات على التكيف في مقابل الجمود الأمريكي في الاستفادة من المكاسب قصيرة المدى والبناء الابتكاري عليها. على هذا الأساس واصلت الولايات المتحدة تمويل الأدوات الحركية بسخاء في الوقت الذي أهملت فيه فرص تطوير مقاربة أكثر شمولية. وارتأى الاستراتيجيون المتخصصون في الحرب على الإرهاب أن النصر في هذه الحرب إنما يتحقق بقوة النجاحات التكتيكية الحركية، والتي تتمثل في ضربات الطائرات بدون طيار.

لم تكن ثم ضرورة لدى الأمريكيين لاستكشاف ما قد يكونوا فقدوه، أو لاستكمال تكتيكاتهم الحركية الناجحة بحملة قوة ناعمة تطرق جميع أرجاء العالم للقضاء تماما ونهائيا على الأوضاع التي تمنح التطرف قدرته على العودة والصعود. ولم تكن وجهات النظر البديلة في “مركز مهمات مكافحة الإرهاب”، التابع لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بعد إدارته في وقت ما من قبل نفس القائد المتغطرس وأتباعه المتملقين لأكثر من تسع سنوات، موضع ترحيب. ولا تزال أكثر عناصر هذه القيادة في مواقعهم حتى اليوم، ويهاجر البعض لاستخدام النموذج نفسه في مناطق أخرى من الصراع.

من الإنصاف أن ندرك أنه على مدى عقد كامل في أعقاب 11 سبتمبر تم استهلاك اهتمام الولايات المتحدة ومواردها في إدارة الغزوات والاحتلال الذي أعقبها لكل من أفغانستان والعراق. كانت لهذه الحروب علاقة بمكافحة التمرد أكثر منها بمكافحة الإرهاب، ولم تترك سوى القليل من الاهتمام أو المال لحملة قوة ناعمة تغشى جميع أنحاء العالم للتصدي للتطرف. ومع بداية العقد الثاني، جلب الربيع العربي في عام 2011 فرصة أخرى، لو سعت الولايات المتحدة للاستفادة من الانتفاضات الشعبية بطريقة أكثر منطقية. لكن، مرة أخرى، وجدت واشنطن نفسها تحت تأثير منظور سياسي – عسكري يتعلق باعتبارات الاستقرار والتهديدات القادمة من دول فردية، لا سيما ليبيا وسوريا. وعلى النقيض، اغتنمت الجماعات المتطرفة الفرص الناجمة عن الحركة في مجتمعات تعاني من الاستبداد؛ فأضرمت نار الانقسامات وشقت طرقا داخلية في التصدعات التي تفشت داخل الجماعات المسلحة، والتي لا تزال قائمة إلى اليوم.

مظاهرات الربيع العربي
مظاهرات الربيع العربي

وبدلا من محاولة استكشاف كيفية الاستفادة من ظاهرة الربيع العربي كبوابة تحويلية والالتزام الكامل بالحشد وراءها، أو دعم القادة الذين يواجهون تحديات، اتخذت الولايات المتحدة مقاربة غير متسقة ومتأرجحة. ولم يكن هناك سوى القليل من الاستثمار الملموس في الحركات الديمقراطية أو التقدمية أو العلمانية التي بدا أن الربيع العربي يقدمها، ولم تبد واشنطن أي التزام باسترايجية طويلة الأمد، وبدا الأمر كأنه لعبة بلا نهاية.

استراتيجية الإرهاب الجديدة

في هذه الأثناء، خطا تنظيم القاعدة خطوات واسعة نحو مزيد من اللامركزية، مما مكن بقوة للجماعات التابعة له في جميع أنحاء العالم. وظهرت فروع جديدة في اليمن وشمال أفريقيا وسوريا – على سبيل المثال لا الحصر – عملت بمزيد من الاستقلالية وخفة الحركة في تعديل تكتيكاتها لمجابهة الأوضاع المحلية والعالمية المتغيرة. وتنحت مقاربة بن لادن القائمة على  تنفيذ هجمات كبرى مخططة مركزيا  لتفسج المجال أمام رغبة أيمن الظواهري في منح الجماعات التابعة للتنظيم المركزي مزيدا من حرية التخطيط وتحديد الأهداف. وتكشف الوثائق التي رفعت عنها السرية، والتي تم العثور عليها في أثناء غارة مايو 2011 على المجمع السكني في أبوت أباد الذي كان يقطن فيه أسامة بن لادن، إدارة بن لادن المركزية لجميع عمليات ونشاطات تنظيم القاعدة في جميع أنحاء العالم حتى وقت موته.

وتشير فيديوهات الظواهري الغزيرة وما تكشف عنه بعض التقارير ووسائل الإعلام إلى نجاح بن لادن في جمع الخيوط القاعدية بأكملها في يده حتى في وقت اختفائه. لكن – على عكس بن لادن – تبنى الظواهري مقاربة تقوم على عدم التدخل واللامركزية، وبدلا من ذلك تولى دور القائد الشرفي العام الذي يضع الرؤية الاستراتيجية للمؤسسة. لا يعني هذا أن الولايات المتحدة لم تنتبه إلى عملية التحول التي طرأت على الاستراتيجية الإرهابية، إلا أن هذا لم يكن كافيا لتغيير الاستراتيجية أو المنظور الأمريكي. وبدلا من أن ترى الولايات المتحدة كيف تطورت طبيعة التهديد، حولت مواردها جغرافيا ببساطة إلى حيث اندلعت حرائق جديدة لكنها ظلت متمسكة بالتكتيكات الحركية ذاتها.

الظواهري وبن لادن
الظواهري وبن لادن

في هذا السياق، قام المروج الدعائي للقاعدة في شبه الجزيرة العربية والمواطن الأمريكي، أنور العولقي، بتغيير نموذج 11 سبتمبر قبل وفاته في عملية مكافحة إرهاب أمريكية في اليمن في سبتمبر 2011. ابتكر العولقي طريقة “افعل ذلك بنفسك من منطلق محلي” لإلهام وتوجيه الهجمات منخفضة المستوى على أهداف غير محصنة. وقادته خبراته في الولايات المتحدة إلى الاعتقاد بأن انتشار الهجمات  على نطاق أصغر من قبل مقيمين آخرين في الولايات المتحدة من شأنه أن يدفع بجميع الأمريكيين إلى الأحساس بالضعف سواء كانوا يتسوقون، أو يشاهدون الأفلام، أو يصطحبون أطفالهم إلى مدارسهم، أو يتناولون وجباتهم اليومية. لقد قوض تكتيك إمكانية أن يمس الإرهاب أي أمريكي في أي مكان وفي أي وقت الاستراتيجية الغربية التي كانت تعتمد على اتخاذ الإجراءات الوقائية في الخارج وتحصين الأهداف المحتملة في الداخل. ورغم ذلك، بدلا من التكيف والتعديل كما يفعل الإرهابيون ظل تركيز القيادة الأمريكية، وبخاصة وكالة الاستخبارات المركزية، منصبا على قتل العولقي وغيره، معتقدين أن موتهم يعني زوال التهديد الجديد.

(يُتبع)

*دوجلاس لندن – أستاذ مشارك في كلية الخدمة الخارجية بجامعة جورجتاون.

هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock