رؤى

التراث بين التقديس والهدم: قبول مطلق أو رفض مطلق

على إحدى القنوات العربية تابعت إعلاميا مرموقاً يصنف نفسه باعتباره كاتبا تنويرياً وباحثاً في التاريخ الإسلامي ينتقد قراءة داعش للتاريخ الإسلامي، إلا أنه وفي نفس الحلقة طبق أهم ما تمتاز به العقلية الداعشية حين اعتبر أن رواية تاريخية ما عن عصر صدر الإسلام أو الخلافة الراشدة تحديداً هي صحيحة لمجرد أن الإمام الطبري ذكرها في مجلده التاريخي الشهير.

وفي هذه المناظرات التي تكاد تجري يوميا في منابر الإعلام التقليدي أو الإعلام الجديد؛ يتمزق الوعي الجمعي بين تيارين متطرفين في التعامل مع التراث الحضاري والفقهي للأمة، الأول تيار جامد و متخشب يقدس التراث ويرفض أي مساس به أو إخضاعه لمناهج العلم والبحث الحديثة، وهو تيار ينكر تاريخية النص والتراث وتغير الظروف والأزمان، وللأسف فإن هذا التيار لايمنع الأمة من التقدم والنهوض ويبقيها في دائرة التخلف والفشل الحضاري في علم يتطور فيه الجميع ولكن أيضا يقوده جموده وتخشبه إلى تفسير متطرف لهذا التراث.

هذا التفسير للأسف كان المحرك والمنشئ لكل جماعات الدم والعنف والإرهاب من القاعدة إلى داعش والتي باتت تمزق مجتمعاتنا على الأخص منذ ماعرف بالجهاد العربي في أفغانستان .

أما التيار الآخر فهو تيار تنوير مزيف يشعر بالتضاؤل الحضاري أمام الحضارة الغربية، ويريد هدم منجزه وتراثه واستبداله كلية بالمنجز الحضاري والثقافي الغربي؛ دون أدنى اعتبار لأن المنجز الغربي هو في جزء أساسي منه هو نتاج بيئة وتطور اجتماعي مختلفين عن السياق العربي الإسلامي .

‏‎هذه المناظرات هي جدالات كاشفة عن عقليتين في عالمنا تتعاملان مع هذا المصطلح٫ الأولى تراه مصدر فخر واعتزاز وبالتالي يتوجب النقل عنه وأن بشكل نصي حرفي، والثانيه تراه عبئا يمنع التقدم وبالتالي ينبغي التخلص منه أو في الحد الأدنى التخفف منه.

‏‎على المستوى الشخصي، تعاملت مع العقليتين في مواقف مختلفة، لاسيما خلال دراستي الجامعية وخلصت بعد سنوات من التعامل والتحاور مع كليهما أو مع من يمثلونهما بمعنى أصح إلى أن كلا القراءتين وجهان لعملة واحدة وإن اختلفا في الظاهر.

‏‎ما أعنيه بهذا أن بين العقليتين من أوجه الشبه أكثر بكثير مما بينهما من الاختلاف، فالاختلاف بينهما شكلي وسطحي لا أكثر ولكن الجوهر واحد وهو التطرف.

‏‎فكلتا القراءتين تنظر إلى ما يسمى “تراث الأمة” باعتباره كتلة واحدة، فالفريق الأول٫ اي الذي ينقل من التراث بشكل حرفي، لا يفرق كما أشار الراحل نصر حامد أبو زيد في كتابه “نقد الخطاب الديني” بين عصر صدر الإسلام وبين الدولة العثمانية وإنما يضع الكل في إطار واحد شامل جامع يسميه التاريخ والذي يعتبره مجيداً في المجمل بصرف النظر عن التباين والتباعد بين فتراته ومراحله.

‏‎ولكن وإن كان أنصار النقل يرون التراث واحداً لأنه في مجمله “مجيد” وفقاً لهم، فإن منتقدي التراث، أو رافضيه بالجملة يرونه أيضا كتلة واحدة ولكنها وفقاً لمنطقهم كتلة سوداء قاتمة حافلة بالظلم والقهر والقمع والقتل.

‏‎فمع سقوط المعسكر الشرقي في أوائل التسعينات من القرن العشرين بدأت تتكرس مدرسة فكرية- إن صح فعلاً تسميتها بذلك- رأت أن واجبها الأول والأخير هو التصدي لتيار ما يعرف بالإسلام السياسي الذي كان قد بدأ يتسيد الساحة السياسية في أغلب المجتمعات العربية.

‏‎ولكن هذه المدرسة ذهبت إلى ماهو أبعد من ذلك، إذ لم تكتف بنقد الخطاب الذي يقدمه هذا التيار وإنما اعتبرت أن التراث الذي ينهل منه هو تراثه وحده دون غيره وليس تراث الأمة ككل وبالتالي وجهت له سهام النقد وعملت فيه معاول الهدم.

‏‎وإذا كان أنصار النقل يرون أن كل ما جاءت به كتب التراث هو بالضرورة صحيح؛ فإن رافضي التراث اعتبروا رغم كافة خطاباتهم عن العقل وضرورة  تحكيمه عند التعامل مع النص أن الحل هو إلغاء النصوص ككل بصرف النظر عن مدى صحة النص من عدمه.

‏‎ومن هنا تأتي المفارقة المضحكة والمبكية في آن واحد والتي بدت أوضح ما تكون عند صعود تنظيم داعش في كل من سوريا والعراق، ففي حين رأى الدواعش ومؤيدوهم أو المتعاطفون  معهم في عالمنا العربي أن كل ما يقومون به من جرائم دموية مهما بلغت درجة بشاعتها فهي مبررة بل وتتوافق مع الشرع لا لشيء إلا لأنها تتشابه مع مواقف تعرض لها السلف في زمانهم.

‏‎وفي المقابل، بذل رافضو التراث لا سيما من أتيحت لهم منابر القنوات العربية و أعمدة الصحف جهداً خارقاً لإثبات فكرة مفادها أن داعش ليست استثناءاً ولا تنظيماً شاذاً بل هي امتداد طبيعي لمجمل كتب  التراث وخاصة كتب الفقه.

‏‎استخرج  الطرف الجامد من تلك الكتب أسوأ ما فيها بامتياز: نصوص استباحه الدماء والأعراض وكراهية الآخر المغاير في العقيدة الدينية و الرق و الجواري وغيرها من النصوص (ذات الطابع الزمني التاريخي)

‏‎وفي كلتا القراءتين أغفل الطرفان أبسط القواعد التي يقرها المنطق وهي مراعاة السياق الذي ورد فيه النص، أي الظروف التاريخية التي ورد فيها، حيث أن إغفال هذا البعد، أي السياق التاريخي، يقود إلى أحد أمرين: إما قبول النص بالمطلق واعتباره مقدساً أو رفضه بالمطلق.

‏‎وإذا كانت قراءة الدواعش للتراث أدت إلى ما شاهده العالم أجمع من جرائم بحق الأقليات الدينية مثل الطائفة اليزيدية في العراق وبحق النساء وغيرهم من الفئات، فإن القراءة الثانية التي ترى أن التراث بالضرورة هو الذي أنتج داعش وأخواتها لن ينتج إلا أمة متشككة في منجزها الحضاري مفتقده الثقة في ذاتها وهويتها، ويؤدي في النهاية إلى اللهاث وراء الآخر الأجنبي، المستعمر السابق، ومطالبته بالعودة لاحتلالنا وحكمنا  كما رأينا موخراً في أكثر من قطر عربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock