رؤى

مصطفى مشرفة بين الأمريكان والسوفييت.. علم غزير ووفاة غامضة 

“لقد خلت طفولتي من كل بهيج. كنت لا ألهو مثل الأطفال لكي أكون في المقدمة، ولقد تعلمت في تلك السن أن اللعب مضيعة للوقت، كما كانت تقول والدتي، تعلمت الوقار والسكون في سن اللهو والمرح، حتى الجري كنت أعتبره خروجا عن الوقار.”

بهذه الكلمات يصف العلامة د. علي مصطفى مشرفة باشا، كيف كانت طفولته، وهو عالم الفيزياء النظرية المصري، الذي يُلقّب بأينشتاين العرب لأن أبحاثه كانت في نفس المجال ونفس الموضوعات التي كانت أبحاث ألبرت أينشتاين تدور حولها.

نبوغ مبكر

في 11 يوليو 1898، وُلد علي مصطفي مشرفة بمدينة دمياط، وكان والده من أعيان ووجهاء تلك المدينة، في عام 1907 حصل على الشهادة الابتدائية، وكان ترتيبه الأول على القطر، وكان دائما من الأوائل في الدراسة، فأمضى سنوات الدراسة بالمجان لتفوقه.

 يقول شقيقه الدكتور عطية مصطفى مشرفة في كتابه {دكتور علي مصطفى مشرفة: ثروة خسرها العالم}: “في عام 1914، حصل على شهادة البكالوريا وكان ترتيبه الثاني على القطر المصري كله وله من العمر ستة عشر عاما، وهو حدث فريد في عالم التربية والتعليم في مصر يومئذ، وأهّله هذا التفوق، لاسيما في المواد العلمية، للالتحاق بأي مدرسة عليا يختارها مثل الطب أو الهندسة، لكنه فضَّل الانتساب إلى دار المعلمين العليا، حيث تخرج منها بعد ثلاث سنوات بالمرتبة الأولى، فاختارته وزارة المعارف العمومية لبعثة علمية إلى بريطانيا على نفقتها.”

غلاف كتاب، دكتور علي مصطفى مشرفة: ثروة خسرها العالم
غلاف كتاب، دكتور علي مصطفى مشرفة: ثروة خسرها العالم

في خريف 1917 التحق بجامعة نوتنجهام الإنجليزية، والتي حصل منها على شهادة البكالوريوس في الرياضيات خلال ثلاث سنوات بدلا من أربع. وقد لفت تفوقه نظر أساتذته بالجامعة، الذين اقترحوا على وزارة المعارف المصرية أن يواصل علي مصطفى مشرفة دراسته للعلوم في جامعة لندن، فاستجابت الوزارة لطلبهم، والتحق عام 1920 بالكلية الملكية، وحصل منها عام 1923 على الدكتوراه في فلسفة العلوم. ثم بعد سنة واحدة، حصل عام 1924 على دكتوراه العلوم من جامعة لندن، وكان أول مصري يحصل عليها، وهي أعلى درجة علمية في العالم، لم يتمكّن من الحصول عليها سوى 11 عالما على مستوى العالم في ذلك الوقت.

في عام 1925، عمل الدكتور علي مصطفى مشرفة بدرجة أستاذ مشارك (مساعد) في الرياضيات التطبيقية في كلية العلوم، فقد كان عمره حينذاك 27 سنة، بينما كانت لوائح الجامعة وقوانينها لا تسمح بتعيين أساتذة دون سن الثلاثين، وهو الحد الأدنى للسن المطلوب لتحقيق درجة أستاذ. لكنه في العام التالي، ونتيجة تفوقه الملحوظ، اضطرت الجامعة لتخطي اللائحة وقانون الجامعة، فمُنح درجة “أستاذ” عام 1926، وهو في عمر 28 عاما. وفي عام 1936، أصبح أول عميد مصري لكلية العلوم، ثم انتُخب للعمادة أربع مرات متتاليات، كما انتُخب في ديسمبر 1945 وكيلاً للجامعة. وقد تتلمذ على يديه مجموعة من أشهر علماء مصر، وفي مقدمتهم عالمة الذرة المصرية الدكتورة سميرة موسى.

دكتور علي مشرفة مع طلابه
دكتور علي مشرفة مع طلابه

رؤيته الاجتماعية وموقفه السياسي

أثناء اشتعال ثورة 1919، كتب الدكتور علي مصطفى مشرفة إلى صديقه محمود فهمي النقراشي (أحد زعماء الثورة) يخبره فيها برغبته الرجوع إلى مصر للمشاركة في الثورة، وكان جواب النقراشي له: “نحن نحتاج إليك عالما أكثر مما نحتاج إليك ثائرا، أكمل دراستك ويمكنك أن تخدم مصر في جامعات إنجلترا أكثر مما تخدمها في شوارع مصر.”

في عام 2005، بمناسبة الاحتفال العالمي بمرور ‏100‏ عام على الأعمال الريادية للعالم الشهير ألبرت آينشتاين، كتب الدكتور عطية عبد السلام عاشور أحد تلاميذ الدكتور مشرفة: “بالإضافة إلى أبحاث هذا العالِم الجليل (د. مشرفة) وكتبه ومقالاته المبسطة التي نشرت باللغة العربية‏، فإنه كان يقوم بالتدريس لطلبة قسم الرياضيات بعلوم القاهرة‏ (‏جامعة فؤاد الأول وقتها‏)‏ أعمال ألبرت آينشتاين ضمن ما يدرس لهم من مقررات، وقد كان كاتب هذه السطور ضمن من درسوا علي يد هذا الأستاذ العظيم‏، الذي نجح في أن يثير انتباه طلبته إلى أهمية الأعمال العلمية التي تمت في بداية القرن العشرين على يد آينشتاين وغيره من العلماء‏.”

ويذكر مشروع ذاكرة مصر المعاصرة، حول الدكتور مشرفة: “وإلى جانب إسهاماته العلمية، كان حافظا للشعر، ملما بقواعد اللغة العربية، عضوا بالمجمع المصري للثقافة العلمية باللغة العربية، حيث ترجم مباحث كثيرة إلى اللغة العربية. كما نُشر له ما يقرب من ثلاثين مقالاً منها: سياحة في فضاء العالمين ـ العلم والصوفية ـ اللغة العربية كأداة علمية ـ اصطدام حضارتين ـ مقام الإنسان في الكون..

إضافة إلى ذلك شارك في مشاريع مصرية عديدة تشجيعاً للصناعات الوطنية.. كما شارك في إنشاء جماعة الطفولة المشردة. وألف الجمعية المصرية لهواة الموسيقى في سنة 1945، وكوّن لجنة لترجمة “الأوبريتات الأجنبية” إلى اللغة العربية.. وكتب كتاباً في الموسيقى المصرية.”

علي مصطفي مشرفة في صورة تذكرية بالجامعة
علي مصطفي مشرفة في صورة تذكرية بالجامعة

علاقته بألبرت آينشتاين

يقول الدكتور عطية عبد السلام عاشور، تلميذ الدكتور مشرفة: “بدأ المجتمع العلمي في مصر الاهتمام بأعمال ألبرت آينشتاين‏،‏ مبكرا منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي‏، عندما بدأ الدكتور علي مصطفي مشرفة في معالجة بعض مشاكل تركيب المادة والإشعاع في إطار نظرية النسبية الخاصة‏،‏ وقد قام بنشر العديد من الأبحاث في هذا الاتجاه في الدوريات العلمية المتخصصة في النصف الأول من القرن الماضي‏. وله مجموعة من الكتب المبسطة باللغة العربية منها كتاب عن نظرية النسبية الخاصة‏.‏ والغريب أنه نبه في هذا الكتاب إلى احتمال وجود أكثر من أربعة أبعاد في الكون‏،‏ الشيء الذي انتبه إليه العلماء في الربع الأخير من القرن الماضي ومازال يحظى باهتمامهم حتى اليوم‏.‏”

وكان الدكتور مشرفة أحد العلماء القلائل الذين وصلوا إلى سر تفتيت الذرة، لكنه حارب استخدام الطاقة النووية في صنع الأسلحة، أو استخدامها في الحروب. وتقول عدد من المصادر إن آينشتاين دعاه عام 1945 للاشتراك في إلقاء أبحاث تتعلق بالذرة، كأستاذ زائر لمدة عام، لكن د. مشرفة اعتذر بقوله: “في بلدي جيل يحتاج إلي”.

ألبرت آينشتاين
ألبرت آينشتاين

لغط وأقوال متناقضة حول أسباب وفاته المفاجئة

كان الدكتور مشرفة أول عالِم في العالَم كله يضع نظرية الطاقة الهيدروجينية، وحينئذ لم يكن هناك علماء آخرين قد توصلوا إلى هذه الفكرة من الأساس. وسبّب هذا قلقا كبيرا جدا في الهيئات العسكرية والأوساط الاستخباراتية في كل من أمريكا والاتحاد السوفيتي السابق بالإضافة إلى إسرائيل، وأصبح وجود الدكتور مشرفة خارج سيطرتهم يمثل خطرا بالغا عليهم جميعا، لأسباب مختلفة.

لذلك، فعكس ما ذكره شقيقه الدكتور عطية مصطفى مشرفة في كتابه، بأن “الدكتور علي مصطفى مشرفة لم يمت مسموما بل مات على فراشه، بعد توعك بسيط”، ظهرت عدد من النظريات بين الباحثين والمؤرخين، مفادها أن هناك العديد من الأسباب ما يجعلهم يرجحون فكرة اغتياله عن طريق السم.

وهنا نجد لزاما علينا أن نؤكد أننا لا نشكك في مصداقية الدكتور عطية مشرفة، شقيق العالم الجليل، أو مصداقية أسرته، التي استبعدت أيضا فكرة اغتياله، لأن أجهزة الاستخبارات الكبيرة لديها ما يسمى “السم البريء” الذي لا يمكن تتبع آثاره داخل جسم المتوفي، سواء بالتشريح أو بالتحاليل المعملية.

ومن المعروف أن إسرائيل، والتي كانت حديثة التكوين آنذاك، كانت تسعى لامتلاك قنبلة نووية، فقد كان ديفيد بن جوريون، رئيس وزراء إسرائيل قلقاً من أن دولته وليدة ومحاطة بالدول العربية، وهذا ما جعله يبادر باتصالاته السرية مع الأمريكيين والفرنسيين ليأخذ الدعم المالي والتكنولوجي اللازم لبدء برنامج إسرائيل النووي.

ومن غير المعقول والحال هكذا أن تترك إسرائيل عالما مصريا خارج سيطرتها، خصوصا بعد ما توصل إليه من نظرية الطاقة الهيدروجينية.

أما بالنسبة للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي فقد كانت الحرب الباردة، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مستعرة بينهما، خصوصا بعد أن فجرت الولايات المتحدة في عام 1945، قنبلتي هيروشيما وناجازاكي النوويتين، وظهور السلاح النووي لأول مرة، مما جعل سباق التسلح بين القوتين العظمتين أكثر شراسة، وبدأ الاتحاد السوفيتي في بذل كامل طاقته للحاق بالسباق النووي، فنجح في إنتاج وتجريب أول قنبلة نووية له بعد أربع سنوات فقط في عام 1949.

فمن ناحية، أصبح الأمريكيون قلقين جدا من إمكانية اختطاف الدكتور مشرفة من قبل السوفييت، وإجباره على العمل لصالحهم، كما فعلوا مع علماء ألمان بعد دخولهم برلين؛ ومن ناحية أخرى فإن السوفييت كانوا قد توصلوا إلى معادلة قوة الأمريكان النووية وامتلكوا سر القنبلة الذرية بعد جهد جهيد، فشعر السوفييت بإحباط شديد جدا من أن هناك سلاحاً أكثر قوة من الأسلحة الموجودة ويمكن أن يسبقهم إليه الأمريكيون إذا حصلوا على خدمات هذا العالم المصري.

وعلى أية حال فقد نجح الأمريكان في تصنيع أول قنبلة هيدروجينية وتجربتها في نوفمبر 1952، وكانت النتائج تشير إلى أن خوف كلا القوتين من توصل أي منهما لصنعها قبل الأخرى له وجاهته، فقد أنتَجَت أول قنبلة هيدروجينية قوة تدميرية تعادل قوة 714 قنبلة من قنابل هيروشيما.

في 15 يناير 1950، تناقلت جميع وكالات الأنباء على مستوى العالم خبر وفاة الدكتور مشرفة، حيث كان يتمتع بشهرة عالمية كبيرة كعالم ذرة مصري، وتكريما له أنشأت حكومة المملكة المتحدة منحة تعليمية لدراسة الدكتوراه تحت اسم “منحة نيوتن-مشرفة للدكتوراه” في المملكة المتحدة.

وقد رثاه ألبرت أينشتين بكلمات حزينة قال فيها: “لا تقولوا إن مشرفة مات، لا لا إننا محتاجون إليه، إنها خسارة كبيرة لقد كان رائعا وكنت أتابع أبحاثه في الذرة بكل ثقة، لأنه كان من أعظم علماء الطبيعة..” وتمت الصلاة عليه في مسجد عمر مكرم يوم 16 يناير 1950، وكانت جنازة فريدة من نوعها حيث ارتدى أساتذة وطلاب الجامعة الروب الأسود وساروا خلف النعش في صفوف.. فكانت أول وآخر جنازة علمية في مصر!

المصادر:

د. عطية مصطفى مشرفة، دكتور علي مصطفى مشرفة: ثروة خسرها العالم، مركز الشرق الأوسط.
مشروع ذاكرة مصر المعاصرة، علي مصطفى مشرفة، نسخة محفوظة 27 أكتوبر 2017 على موقع واي باك مشين.
الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، أعلام وشخصيات مصرية نسخة محفوظة 24 نوفمبر 2013 على موقع واي باك مشين.
منتدى الموقع التعليمي للفيزياء، نسخة محفوظة، 29 أغسطس 2011، على موقع واي باك مشين.
نوابغ العرب، نسخة محفوظة، 07 مايو 2016 على موقع واي باك مشين.
منحة “نيوتن–مشرفة” للبحث العلمي.
ماكتيوبس، موقع مختص بالنشر والتوثيق، 6 مارس 2020.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock