رؤى

الدكتور محمد شلبي: نحتاج لتيار تنويري جديد وواسع للقضاء على العنف المجتمعي

حوار – منى عزت

تتداول صفحات التواصل الاجتماعي باستمرار شهادات ناجيات تعرضن لأشكال مختلفة من العنف الجنسي، كما تتصدر وسائل الأعلام المختلفة جرائم العنف من شخصيات مفترض أنها مصدر أمان للناجية او الضحية، جريمة الاب الذي يعذب طفله والزوج الذي يبتز زوجته ويهددها، والمتحرش الذي يمارس جرائم العنف الجنسي ضد عدد من الناجيات مستغلا سلطته ونفوذه.
في معدلات العنف القلق والخوف وطرح علينا اولوية ان نفهم ماذا يجري في مجتمعنا
وجاء هذا الحوار مع الباحث والاكاديمي الدكتور محمد شلبي الاستاذ المساعد بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية للاجابة علي العديد من الاسئلة ومصادر القلق .

ما كل هذا العنف والتحرش الذي يحدث في المجتمع؟

فاجئنا الدكتور محمد شلبي أنه ليس مستغربا ما يجرى وأن هذه الجرائم لها جذور تعود إلى التسعينيات، وتحدث عن تزايد العنف في العالم كله، وأنه ليس مستغربا بشاعة الجرائم التي يشهدها المجتمع حاليا، واوضح انها ليست وليدة اللحظة فظهر منذ التسعينيات في الولايات المتحدة الأمريكية جرائم عديدة من العنف و منها العنف البنائي وهذا النوع من العنف يمكن أن يتسبب في قتل شخص او جماعة بطريق غير مباشر من خلال إجراءات وممارسات سلبية من التهميش والاستبعاد، وهذا يكون في أطار ظروف اجتماعية وثقافية واقتصادية، كما أن جرائم العنف التي تصدر من أشخاص من المفترض أنها مصدر امان ليست جرائم جديدة في المجتمع فمنذ سنوات وقعت جرائم عنف جنسي في الكنسية الكاثوليكية في فرنسا وايطاليا، وجرائم اخرى كانت تحدث على مدى سنوات لم نعلم عنها إلا عند نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال الحملات الالكترونية ومنها “أنا أيضا / “me to، وحدث انكشاف لجرائم عنف مر عليها سنوات وكل ذلك تم في فترات متقاربة بجانب حدوث جرائم عنف في الوقت الحالي، ونلاحظ كيف أن كتابة شهادة تشجع الناجيات على الكتابة وتبدأ تتحرك كرة الثلج ويتم ذلك بقوة الدفع وتتكشف لنا الحقائق وحجم الكارثة من خلال مئات الشهادات واصحابها من دول مختلفة، فلم يعد هناك قضايا
مسكوت عنها ولا يستطع الشخص مرتكب هذه الجريمة أن يوقف النشر.

مظاهرة ضد التحرش الجنسي في القاهرة

«عنف التحولات»

بماذا تفسر تزايد وتعقد جرائم العنف بشكل عام في العالم منذ التسعينيات؟

   أرى أن المحرك الاساسي وراء تزايد العنف في العالم هو النظام الرأسمالي وما سببه   من تسليع الحياة ، وأدى إلى ظهور “عنف التحولات” بمعنى أن التحولات السريعة التي فرضها وتسبب فيها النظام الرأسمالي أدت إلى زيادة العنف في المجتمع، نوضح اكثر من خلال التطبيق على المجتمع المصري فقبل تطبيق سياسات الخصخصة كانت إلى حد ما أوضاع المجتمع مستقرة، وكانت الطبقة الوسطى متمسكة، إلى ان تم تطبيق سياسات الخصخصة وتم بيع القطاع العام وخروج قطاع كبير من العمال والعاملات معاش مبكر، وتراجع دور الدولة في دعم الخدمات، واصبحت شرائح المجتمع ومنها الطبقة الوسطى تحت خط الفقر.
هذه السياسات الاقتصادية لها انعكاسات اجتماعية وثقافية فمع هذه التغيرات الاقتصادية ظهرت قيم ” كله بتمنه”  ” واللي ممعهوش مايلزموش” وأصبح المواطن في قلق دائم ينتظر بين الحين والأخر تغيرات تؤثر على حياته المعيشية، ويعتمد على موارده في تأمين احتياجاته الأساسية، فتعرض المواطن منذ التسعينيات إلى تحولات جذرية أثرت سلبا على حياته اليومية، ويشعر بتهديد مستر، أصبح الاعتماد على الذات، كل هذه التحولات تم بوتيرة سريعة ولم يشارك المواطنين في صنع هذه القرارات، هذا يدفع الناس للقيام بسلوك وممارسات غير متوقعه، ومن أخطر تداعيات هذه التحولات على الاسرة فيشعر المسئول عن الأسرة بقلق دائم وخوف من عدم القدرة على تحقيق مطالب والتزامات الأسرة، وتتحول الأسرة إلى عبء فرض عليه نتيجة هذه التحولات، هذا بالتأكيد يزيد من الضغوط وبالتالي طبيعي يولد العنف، وهذا ما شهدناه خلال هذه الفترة بسبب تداعيات فيروس “كورونا” التي تسببت في تحولات شديدة السرعة فوجئ رب الأسرة بفقد الوظيفة أو انخفاض الراتب أو فقد مدخراته، وأنه يمكن ان لا يستطيع أن يلبي الاحتياجات اليومية للأسرة مع الوضع في الاعتبار أن 70% من الوظائف في القطاع الخاص والعمالة في هذا القطاع ليست مستقرة وهذا يسبب زيادة في الخوف والقلق على المستقبل، وهذا يفسر زيادة في معدلات العنف الأسري وهذا لم يحدث في مصر فحسب بل في معظم الدول فكانت النتيجة زيادة العنف الأسري على مستوى العالم .
وبناء عليه فالعنف الأسري ليس عنف لمجرد العنف لكن مرتبط بهذه التحولات الاقتصادية والتي يكون لها مردود اجتماعي وثقافي.
كما نلاحظ أيضا زيادة العنف الأسري في المواسم التي تزيد فيها المصروفات منها الاعياد ودخول المدارس، ويصل الامر إلى قيام زوج بقتل زوجته بسبب المصروفات.

تعبيرية عن العنف الأسري
تعبيرية عن العنف الأسري

«الاستباحة والاستهانة والاخضاع»

إذا كانت الأوضاع الاقتصادية عاملا أساسيا في حدوث وزيادة العنف، ماذا عن الطبقة العليا أصحاب الثروات، فهم أيضا يمارسون العنف وتابعنا جرائم العنف الجنسي مثل جريمة فندق فيرمونت و قضية “أحمد بسام”؟

 هؤلاء شريحة مختلفة اعتادوا على أن “ما نريده يجب ان نحصل عليه”  ويعيش هؤلاء في مستوى اقتصادي واجتماعي وثقافي يسمح لهم بذلك، ويتم تربية هؤلاء الشباب منذ الصغر على التدليل وان مطالبهم مجابة ويعتبر أهالي هؤلاء الشباب أن هذا نوع من الوجاهة الاجتماعية،  ويعتاد  على التصرف كما يحلوا له دون ان يقال له “لا” وللأسف يمارس هذا في منطقته السكنية “الكمبوند” وفي أماكن دراسته وفي اماكن الترفيه والسهر، ويتحرك بحرية تامة يعتقد ان لديه نفوذ وسلطات تجعله يمارس الكثير من المخالفات والسلوكيات المنافية لقيم المجتمع، ولهذه الطبقة قيمها التي تحكم سلوكها “الاستباحة والاستهانة والاخضاع”، فهو يستبيح أي شيء ويستهين باي انتقادات يمكن أن توجه له أو بأي راي أو نصيحة، ويعتقد انه قادر على اخضاع الأخر، وهذا ما حدث في قضيتي فيرمونت أو الشاب المتهم من الجامعة الامريكية.

الشاب أحمد بسام زكي المتهم بالتحرش بعدد من الفتيات
الشاب أحمد بسام زكي المتهم بالتحرش بعدد من الفتيات

هل نستطيع أن نقول إن ارتكاب هذه الجرائم بهذه البشاعة هي محصلة منظومة قيم هذه الطبقة بسبب ما حصلت عليه من امتيازات اقتصادية واجتماعية منذ التسعينيات؟

نشأت الرأسمالية في التسعينيات بدعم من النظام في هذه الفترة، ولم يحصلوا على امتيازات وإعفاءات اقتصادية فحسب بل تم ادماجهم في النظام السياسي فشغلوا مناصب قيادية في الحزب الوطني ونواب في مجلس الشعب هذا كان له انعكاس على منظومة القيم الاجتماعية والثقافية التي عبرت عنها هذه الطبقة الرأسمالية وتغلغلت هذه القيم في تنشئتهم لأبنائهم وما نشاهده اليوم هو محصله لجميع ما سبق.

«العنف على أساس النوع»

اتفق مع ما ذكرته من تحليل بشأن زيادة معدلات العنف لكن تتعرض النساء أكثر للعنف جميع جرائم العنف الجنسي التي تم تداولها على صفحات التواصل الاجتماعي ووسائل الأعلام خلال الفترة الأخيرة الناجيات/ الضحايا كن من النساء وبشكل عام في المجتمع النساء يتعرضن لأشكال من العنف والتمييز المضاعف بسبب النوع، فما تعليقك على ذلك؟

لدينا في مجتمعنا اعتقاد سائد أن طالما الزوجين لا يشكوا أحدهم ويظهر الشكل الخارجي أن الحياة بينهم مستمرة ومستقرة ولا يوجد نزاعات، فلايزال الشأن الأسري أمر داخلي وغير مرغوب ولا مسموح التدخل في شئون الأسرة، وبالتالي لا نعلم ما الذي يحدث داخل الأسرة وما هي تفاصيل العلاقة بين الزوجين وهذا يسبب المفاجأة عندما تحدث جريمة عنف أسري بينما هذا العنف هو نتاج تراكمات ونزاعات لا نعرف عنها شيء .

في كثير من الأحيان تجبر النساء على الصمت ويطلب منها أن تتحمل وأنها المسئولة عن نجاح الأسرة واستقرارها أو رفض أهلها شكواها أو طلبها الطلاق، كما أنها تكون تحت تهديد كلام الناس الذي سوف يلاحقها بعد الطلاق، كما أنه لايزال مقبول حتى الآن في كثير من العائلات ضرب وتعنيف الزوج لزوجته فهي ليست صانعة قرار داخل الأسرة، ولاتزال العلاقات الأسرية غير عادلة، وبالتالي هناك أيضا عامل ثقافي له تأثيره على معدلات العنف ؟

 صدر بحث عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بعنوان ” الصورة الذهنية عن المرأة المصرية”  شاركت في فصل بعنوان “الصورة الذهنية الاجتماعية عن المرأة المصرية ” رؤى القوى الفاعلة – رجال التعليم ” والعينة التي تم استطلاع رأيها هم خبراء تربويين وجاءت إحاباتهم أن خروج النساء للتعليم والعمل أدى الى تحسين وضع النساء داخل الأسرة وفي مشاركتها في صنع القرار، وأنا اتفق مع هذا الرأي، وأعتقد أن المرأة “قليلة الحيلة” التي تتقبل في صمت ممارسات عنيفة أو قهر أو سلوك يحط من كرامتها هن النساء غير المتعلمات أو التي لا تعمل وينفق عليها زوجها .

تعبيرية عن العنف ضد المرأة
تعبيرية عن العنف ضد المرأة

أطلعت على البحث والفصل الذي تتحدث عنه والإجابات كانت مختلفة ممن تم استطلاع رأيهم من الخبراء التربويين فهناك نسب عالية أجابت تتصف  النساء برجاحة العقل والقدرة على مواجهة الأزمات والاعتماد على النفس، لكن يوجد إجابات أخرى نسبتها أقل لكنها لاتزال تعكس الصورة التقليدية للنساء بأنها عاطفية و نكدية وسلبية و تهتم بالأمور التافهة.. فضلا عن أن خروج النساء للعمل أسهم جزئيا في تحسين وضع النساء لكن لاتزال نسبة كبيرة من الأسر الرجل هو صانع القرار وهذا التوجه سائد في المجتمع، ولاتزال علاقات القوى داخل الأسرة لصالح الرجل وهذا له أثره على تعرض النساء للعنف داخل الأسرة، فما تعليقك على ذلك؟؟

أرى أن المجتمع أصبح به قدر من تحرر النساء من أشكال القهر والقمع والهيمنة الذكورية، وذلك بسبب زيادة أعداد النساء في التعليم والعمل لكن هذا لا ينفي تأثير العادات والتقاليد المحافظة والتقليدية تجاه النساء وتأثير ثقافة الريف بما يسمى “ترييف المدينة”، ويوجد خبراء تربويين ممن اشتملهم البحث الذي أشرت له   لديهم أفكار شديدة التقليدية، لكن ما أقوله أن هؤلاء عددهم قليل، وأنه كلما زادت فرص النساء في التعلم والعمل كلما ساهم ذلك في تغيير هذه العادات والتقاليد، والطريق ليس سهلا لأن للأسف هذه العادات والتقاليد تتغذى على الخطاب الديني المحافظ والمتشدد.

هل يعتبر وجود خبراء تربويين منوطا بهم وضع مناهج واستراتيجيات التعليم ويحملوا هذا  الفكر المحافظ والتقليدي تجاه النساء الذي يستخدم من أجل تبرير العنف والتمييز تجاه النساء وبالتأكيد هذه النماذج تتكرر في مؤسسات مختلفة في المجتمع، هل يؤثر سلبا على دور هذه المؤسسات في تحقيق التمكين الاقتصادي والاجتماعي للنساء؟؟

نحتاج إلى تغيير هذه العقليات داخل مؤسسات التعليم وهذا يتطلب أن يحكم عمل المؤسسات التفكير العلمي، ويجب العمل الجاد على مراجعة الخطاب الديني، وأعاده كتابة المناهج التعليمية التي تقدم داخل المؤسسات التعليمية بما في ذلك  داخل الأزهر، ويتم المراجعة الدائمة للقائمين على العملية التعليمية، لان هؤلاء هم من ينقلون الفكر المحافظ والمتشدد للأجيال القادمة، ويجب اطلاق حريات البحث العلمي والابداع والفنون، ويمكن أيضا استخدام المؤسسات الثقافية التي تقدم عروضا فنية وثقافية مثل الأراجوز و الفنون الشعبية التي تقدم مثلا في قصر الغوري و زينب خاتون وغيرها من مؤسسات التنمية الثقافية والتي تجذب جمهورا واسعا وتكلفتها بسيطة  فيمكن تعميم عروض هذه المؤسسات في المحافظات.

يؤدى جميع ما سبق إلى نهوض فكرى ويتيح الفرصة لاتساع التيار التنويري في المجتمع، وسوف يكون هذا التيار بمثابة نقطة الضوء التي سوف يجذب أخرين له وبالتالي يقدم للمجتمع نماذج مختلفة عما نشاهدهم في وسائل الاعلام  ممن يشغلوا مناصب ودائمي الظهور في الوسائل الإعلامية بسبب المعارك الوهمية التي يخوضوها بين الحين والأخر ويستخدموا خطابا شعوبيا ويتحدثوا دائما بعيدا عن الأطر المؤسسية وانهم خارج سلطة القانون وهؤلاء يقدموا نماذج سلبية للمجتمع ويكرسوا لمنظومة قيم سلبية في المجتمع، بينما ينحسر حضور اهل الفكر والاستنارة ونحن الان في اشد الحاجة إلى حضورهم من اجل تغير منظومة القيم فبدلا من الفردية واستخدام العنف في الحصول على الحقوق باليد او ممارسة السلطة  والقهر من الطرف القوى على الطرف الضعيف، سوف تكون هناك قيم المؤسسية والعمل الجماعي واحترام القانون وترك اعادة الحقوق للسلطة التي تمثل هذا القانون، وأعمال العقل والفكر وحرية الأبداع وبالتأكيد هذا سوف يشكل بيئة طاردة للعنف الاجتماعي الذي تفشي في المجتمع المصري.

منى عزت

باحثة مهتمة بقضايا العمل والمرأة
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock