رؤى

«مذكرات طالب بعثة».. لويس عوض عندما يثير الجدل (1-3)

لهذه ‎المذكرات المُثيرة للجدل قصة مثيرة معي، أرى أنه من المُفيد الإشارة إليها..

‎ففي مُنتصف الستينيات من القرن الماضي صدرت هذه المذكرات التي يتحدث فيها الدكتور “لويس عوض” عن رحلته الدراسية للحصول عَلى درجة الدكتوراه في ” الأدب ” من جامعة كامبريدچ البريطانية العريقة التي تُماثل في العراقة زميلتها ” جامعة أكسفورد ” فضلاً عن جامعتي ” لندن ” و “كينجز كولدچ” وهي “كريمة” الجامعات البريطانية والعالمية …

‎غير أن تلك الطبعة الستينية فُقدت مني للأسف، وانتظرت بفارغ الصبر إعادة طباعتها مرة أخرى!

غلاف مذكرات طالب بعثة لويس عوض
غلاف مذكرات طالب بعثة

‎وفي عام ١٩٩١ تحققت أمنيتي الغالية بصدورها عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بغُلاف تتصدره صورة مرسومة للدكتور ” لويس عوض ” تُعبٍرّعن سنه في خلال سنوات البعثة، ونقرأ في الغلاف الأخير من هذه الطبعة كلمات منقولة عن كتاب الدكتور “عوض” المهم والمُثير للجدل أيضاً “أوراق العمر” ويقول فيه تلك الفقرة التي تُعبٍرْ عن ” مذكرات طالب بعثة “: “كُنَّا في أوائل يونيو ١٩٣٧، أي بعد أن ظهرت نتيجة الإمتحان، وكان مجلس كلية الآداب قد وافق لتوه على اقتراح من قسم اللغة الإنجليزية زكّاه طه حسين بإيفادي في بعثة دراسية مدتها أربع سنوات إلى جامعة كامبريدچ للحصول على درجة الدكتوراه في الأدب “..

‎بهذه الكلمات التي قصد الدكتور “عوض” إعادة كتابتها في تلك الطبعة الجديدة من مذكراته عندما كان طالباً في ” كمبردچ ” أخذت الكتاب أي ” مذكرات طالب بعثة ” وبدأت أقرأ فيه …

‎شدني الأسلوب المُميز للدكتور “لويس عوض” وأنا لست بغريب عنه، فمنذ قراءاتي المُبكرة له، فأنا ممن يعتبرونه رائداً كبيراً في تاريخ الفكر العربي الحديث، ومن أجمل ما فيه هو جرأته وشجاعته في خوض معارك رائدة بحق، حتى وإن جلبت عليه الكثيرمن الاتهامات والافتراءات، فيدخلها غير هّيّابْ أو مُتردد، ولا يتوقف عند نتائجها، فالهزيمة عنده لا تختلف عن النصر، ففي كلاهما هو الرابح، فالمكسب عنده أنه خاض المعركة من أجل مايؤمن به!

‎تلك قيمة “لويس عوض” في حياتنا الفكرية، فبمثل ما كان الدكتور ” طه حسين ” هو العميد المُعتمد لهذا الجيل بما قدمه من أعمال رائدة ومُثيرة عَلى صعيد الفكر كعمليه الرائدين ” في الشعر الجاهلي، ومستقبل الثقافة في مصر” فالدكتور “عوض” له نفس الدور، وإن كان هناك، حدود بين الأستاذ والتلميذ، فقد أتحفنا في الستينيات بكتابه المُثير للجدل ” عَلى هامش رسالة الغفران لأبي العلاء المعري ” مما أثار عليه القوم، وكان العلامة “محمود محمد شاكر” رأس الحربة في تلك المعركة حامية الوطيس، والتي استمرت نحو عام، وجمع فيها الدكتور “شاكر” مقالاته المنشورة في مجلة ” الرسالة ” التي تصدر عن وزارة الثقافة في كتاب ” أباطيل وأسمار ” والتي خرج منها الدكتور “لويس” ببعض الجراح التي لم تنل من عزيمته!

طه حسين ومحمود محمد شاكر
طه حسين ومحمود محمد شاكر

‎ويفاجئنا في عقد الثمانينيات من القرن الماضي بما هو أشد وأقوى من معركة الستينيات، بكتابه الخطير ” مُقدِمة في فقه اللغة ” والذي أصدرته الهيئة العامة للكتاب، فُيصادر في خلال ٢٤ ساعة وتُسحب نسخة من المكتبات عَلى عجل، وكنت واحداً من المحظوظين القلائل الذين ظفروا بهذا الكتاب الوثيقة والخطير والرائد، حيث منحني الحاج ” محمد مدبولي رحمه الله،أشهر ناشر في العالم العربي، نسخة منه فقد كان يملك حساً ثقافياً نادراً، ويملك في الوقت نفسه ،بوصفه واحداً ممن يطلق عليهم ” ابن بلد” حٍساً أمنياً مُذهلاً، فكان يعرف رجال الرقابة على الكتب واحداً واحداً، وأما معرفته برجال مباحث أمن الدولة فكان له معهم حكايات وحكايات !!

‎كتاب “مذكرات طالب بعثة” ليس فيه من معارك الدكتور “عوض” الفكرية والتاريخية والفلسفية ما يحمله كتابيه ” عَلى هامش رسالة الغفران ، أو مقدمة في فقه اللغة ” ولكن الإثارة هنا ترجع إلى تلك الطريقة التي كتب بها الدكتور “لويس عوض” كتابه هذا!

مقدمة في فقه اللغة لويس عوض
مقدمة في فقه اللغة لويس عوض

‎فقد كتب تلك المذكرات باللهجة العامية المصرية، والتي من فرط عشقه لها أسماها “اللغة العامية” أحياناً أو “اللغة المصرية” في بعض الأحيان!

‎فهو في ذلك سار على نهج أستاذه “سلامة موسى” ذلك المفكر الرائد الذي جاء بكل جديد ومثير في تاريخ مصر الثقافي، وكان منها دعوته للكتابة باللهجة العامية، والتي كان يرى فيها كل مقومات اللغة المُتكاملة الأركان والمُستقلة بذاتها!

سلامة موسى
سلامة موسى

‎لقد كان تأثيره على جيل الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ما يفوق تأثير أساتذة الجامعة المصرية على هذا الجيل إلاّ من رحم ربي، ويكفي أن يكون من بينهم قمتان شامختان “نجيب محفوظ ولويس عوض”!

‎بدأت في تصفح ذلك الكتاب الوثيقة باهتمام وحرص بالغ، وفي دقائق انتهيت من قراءة المُقدمة التي كتبها الدكتور “لويس عوض” والتي تشغل الصفحات من الخامسة حتى الصفحة التاسعة عشر، والسبب في ذلك أنها مكتوبة باللغة العربية الفصيحة، وبطريقة الدكتور الانسيابية والتلقائية التي كان يحسده عليها الكثير من أقرانه …

‎ومن الصفحة الرابعة والعشرين، ومع الفصل الأول الذي يحمل عنواناً هو ” الحّرْ ومكتب البعثات ” بدأت المعاناة!
‎حيث بدأ الدكتور “عوض” كتابة مذكراته باللهجة العامية لأهل مصر المحروسة، وحاولت جاهداً مواصلة المسير، ولكنني فشلت في استكمال ما بدأته ، فقد فترت عزيمتي، ووهنت إرادتي، ولم أستطع أن أقنع نفسي بالصمود والبقاء والتحمل!

‎فأنا العاشق للغة الضاد والمُحبْ لها، وخالجني شعور يقول ها أنت يا دكتور ” لويس” تقع في الخطأ الذي وقع فيه المُبدع السوداني الكبير ” الطيب صالح ” الذي كتب واحدة من أجمل رواياته وهي “عُرس الزين” باللهجة العامية السودانية، بل والمحلية التي تأتي عَلى لسان أهل الخرطوم، فلا يفهم منها أهل دارفور شيئاً أو بورسودان حرفاً!
‎فلم تنل هذه الرواية البديعة ما نالته، روايته الأثيرة ” موسم الهجرة إلى الشمال ” من شهرة وصيت وقيمة في عالم الإبداع العربي، حتى صُنفت كواحدة من أفضل وأجمل مائة رواية عربية خلال القرن العشرين، والسبب في ذلك يرجع إلى أنها جاءت بعربية فصيحة وجميلة وآثرة، إلى الدرجة التي اعتبر الكثير من النُقّادْ العرب أن “الطيب صالح” هو صاحب الرواية الوحيدة التي لم يُبدع غيرها!

الطيب الصالح وموسم الهجرة إلى الشمال
الطيب الصالح وموسم الهجرة إلى الشمال

‎وهذا بطبيعة الحال ظُلم، وحكم غير موضوعي ضد مبدع عربي كبير، ولكنه يحمل درساً مُهماً وهو أهمية اللغة وجمالها في نقل رسالة المُبدع إلى القارئ ، ويكفينا هنا العودة إلى ذلك الحوار الراقي الذي جمع تسعة من كبار أدباء مصر ومفكريها في حضرة الدكتور “طه حسين” والذي اُذيع في منتصف الستينيات من القرن الماضي عَلى شاشة التلفزيون المصري العربي وفي إطار برنامج ” نجمك المُفضل ” عن استخدام اللهجة العامية في الأعمال الأدبية والنصوص الإبداعية، فرفضها الدكتور “طه” رفضاً واضحاً وحاسماً، وكانت وجهة نظره القاطعة ، أن يكون النص مكتوباً بالفُصحى حتى يفهمه المواطن العربي في بلدان المشرق العربي والمغرب العربي عَلى حّدٍ سواء، وضرب مثلاً طريفاً للدلالة عَلى صحة وجهة نظره عند استقبال العاهل المغربي الراحل، محمد الخامس، له في قصره ، لتكريمه ومنحه أعلى وسام في بلاده حيث لم يفهم الدكتور ” طه ” بعض كلمات الإشادة من جلالة الملك!

ولكن هذا لا يمنع عند الأستاذ العميد من أن تأتي بعض الجُمل الحوارية باللهجة العامية، ولكن أن يتكفل البناء اللُغوي الفصيح ليُحدد المعنى المقصود من ذلك الحوار المحلي، مُستشهِداً ببعض كتابات الجاحظ التي كُتبت بعض عباراتها باللهجة المحلية، في إطار نص مِتكامل بالعربية الفصحى ….

وجاءت المُصادفة الطيبة لتُغير رأيي وتصحح موقفي من العزوف عن قراءة ” مذكرات طالب بعثة ” فعند تصفحي للكتاب الجميل ” شخصيات لها تاريخ ” للدكتور ” جلال أمين ” وهو بالمناسبة يحمل من الدكتور ” عوض ” الكثير من جمال اللغة، وطزاجة ما يكتب، أن وقعت عينيّ عَلى تلك الفقرة التي جاءت في صدارة الفصل الذي يحمل عنواناً هو ” لويس عوض وأوراق العمر ” وهو فصل مُخصص للعرض النقدي للسيرة الذاتية للدكتور “لويس” وفي ظني أنه آخر ما كتب هذا المفكر المصري الكبير الذي شغل الدنيا والناس بريادية ماكتب طوال عمره الحافل، المُمتد من ” ٥ يناير ١٩١٥ الى ٩ سبتمبر ١٩٩٠” يقول الدكتور “جلال” هذه العبارة:

” كان للدكتور لويس عوض دائماً مكانة خاصة في نفسي، منذ أن قرأت له كتابه الرائع، مذكرات طالب بعثة، في منتصف الستينيات، وما زلت أتمنى أن تقع يدي عَلى نسخة منه لأستمتع بقراءته من جديد، ومنذ ذلك الحين وأنا أعتبر اقتران كتاب أو مقال باسمه بمثابة ختم المعدن النفيس بالخاتم الذي يدل عليه!

جلال أمين وشخصيات لها تاريخ
جلال أمين وشخصيات لها تاريخ

انتهت كلمات الدكتور “جلال” عن كتاب ” مذكرات طالب بعثة ” للدكتور “عوض” فتغيرموقفي من الكتاب تماماً، ولكن لم يتغير موقفي من ريادية هذا المفكر الكبير، والأهم لم يتغير موقفي من اللغة العربية الفُصحىّ ، فهي الجميلة التي لا ينبغي أن نُفارقها طول العمر، فمن نعم الله علينا أن نكون في صحبة هذه الجميلة، ونحيا في رحابها، ونموت عشقاً في حُبِّها..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock